نحو الأمكنة الافتراضية

نحو الأمكنة الافتراضية


02/06/2020

بدأت الأسئلة حول «ما بعد كورونا» في بدايات انتشاره، ثم وبوتائر متسارعة (مع فرض الحجر) حول امتداد استعماله، وطغيانه، وضحاياه، ومرضاه، وصولاً إلى المرحلة الراهنة بعد فض العزل، وفتح الأسواق، والمدارس، والمؤسسات وحتى المصانع والمطاعم.
سؤال «الما بعد هذا» لا ينفصل كلياً عن «الما قبل» بل هو شريك له، ورسم الملامح الجيونولوجية له، من خلال التطور الكبير للتكنولوجيا، وآلاتها ومبتكراتها وإنجازاتها وظواهرها...
المخرج الأميركي الكبير «وودي آلن»، يقول في حوارٍ أجرته معه مجلة «لو بوان» الفرنسية (العدد الأخير): «لا أكف عن التساؤل عما سيكون مصير الحياة الاجتماعية بعد كورونا، ما سيكون مصير المسارح ودور السينما، أتراها ستفتح من جديد؟»
ما يخشاه «وودي آلن» سبق أن هدد قبل سنوات دور السينما، بعدما تأسست شركة «نتفليكس» وأنتجت أفلاماً ضخمة تعرض أولاً في التلفزيون ثلاث سنوات، ثم تنتقل بعدها إلى «دور العرض» أي التباعد السينمائي، أي استخدام الشاشة التلفزيونية ليس لتكرار الأفلام بل لبدء عروضها، أي محاولة إلغاء المكان السينمائي التاريخي بهويته، ورمزيته، وموقعه، وجماليته: «شاهد سينماك في البيت».
لكن تغيير هوية الأمكنة ووظائفها، بدأ أيضاً في أعمال أخرى قبل كورونا: مدير شركتي رينو وبيجو الفرنسيتين للسيارات، تجرأ على كسر تابوهات المقرات باعتماده ممارسة العمل المتباعد، خارج المكاتب، وعاطباً رمزية هذه الأمكنة أيضاً بتاريخيتها ودلالاتها: نحو ثمانين ألف شخص أحيلوا على العمل التباعدي في منازلهم: «ليس ضرورياً أن يأتوا إلى المكتب أكثر من يوم ونصف اليوم أسبوعياً»، يعني هذه التباعدية المكانية كانت موجودةً أصلاً في العديد من المؤسسات الأجنبية، لكن الأزمتين الصحية (العزل) والاقتصادية سرّعتا من تكريسها، واختبار جدواها لتنتقل «عدواها» إلى قطاعات أخرى كالمدرسة والجامعة وقطاعات التعليم، فإذا تم إلغاء المكتب، فما يمنع إلغاء المدرسة؟ وها هي مؤسسات تعليمية بدأت تزاول هذه الطريقة، في ظروف العزل في عدد من البلدان الأجنبية والعربية، وهناك مشاريع لتعميم هذه التجربة (بعد كورونا)، بحيث يصبح التدريس «الافتراضي» هو القاعدة، والتعليم المدرسي هو الاستثناء، فمؤسسة «غرين مانجمان» كان مقرراً أن يبدأ مشروعها في تشرين الأول الماضي، بدأت أعمالها تحت عنوان: «الانتقال الأيكولوجي (البيئي) والتضامني» القائمة على التعليم المتباعد...
وإذا عدنا إلى الوراء كثيراً، نجد أن المطاعم اعتمدت طريقة «الديليفري»، والتي اتسعت وتنامت على حساب «المطعم» كمكان محدد في ملامحه ومناخه وتاريخه، فالمطعم مهدد أيضاً، وقد تتنامى ظاهرة «الديليفري» أكثر فأكثر، بعدما ترسخت أثناء (العزل)... ونظن أن أمكنة أخرى هي جزء من الذاكرة الحضارية ستكون معرضة للزوال: المقاهي، المصانع، المحال التجارية، المكتبات، السوبرماركت... العمل والأكل وطلب البضائع، تتم من البيت، الذي يلعب أدواراً عدة، بل يصبح البيت هو المكتب والمطعم والسينما والمسرح والمصنع والترفيه...
هنا بالذات، نسأل ما حلَّ بالأمكنة التي أفرغت من ناسها وعلاقاتها، و«أسطوريتها» و«تاريخها» خصوصاً في المدينة؟ فهل ستقفل الآلة المدينة بروحها بعدما أحيتها؟ هل ستحل الآلة محل الأمكنة والإنسان؟ سبق أن اختُرعت الروبوتات ككائنات لتحتل دور العامل، وربما الطبيب، والخادم، والمعلم، والممرضة... الآلة هذه كأنها صارت «آلهة» جديدة تصنع التاريخ، والأحياء، والجماد، والنبات، والبضائع، والأفكار، والذكاء، والبناء... وبالأخص العزلات الكبيرة، وتهدم أيما تهديم العلاقات الإنسانية والاجتماعية... فكل علاقة من الآن فصاعداً ستتموضع في شروطها الجديدة.

عن "الاتحاد" الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية