نقل السفارة للقدس يتصدّر مزاد انتخابات أستراليا.. والمخابرات تحذّر

القدس

نقل السفارة للقدس يتصدّر مزاد انتخابات أستراليا.. والمخابرات تحذّر


05/11/2018

"لم يسبق لأستراليا عبر تاريخها أن اتّخِذ فيها قرار ينطوي على تغيير حادّ في سياستها الخارجيّة، وله تبعات كبيرة على الأمن القوميّ، بناء على مخاوف خسارة مقعد واحد في انتخابات محلّيّة"، هكذا علّق د. توني ووكر من جامعة لا تروب الأستراليّة لموقع (ذا كونفرزيشن) الإلكتروني المستقل، منوّها إلى أنّ المسكوت عنه من إعلان رئيس الوزراء الأستراليّ/ سكوت موريسون المتعلّق بنقل السفارة الأستراليّة من تل أبيب إلى القدس هو مآرب انتخابيّة داخليّة ضيّقة.

منذ منتصف الشهر الماضي، جرت مياه كثيرة في جداول السّياسة الخارجيّة لأستراليا: تلك الدولة القارّة، والّتي منذ مشاركتها المخزية في غزو العراق، وباستثناء احتفالات رأس السّنة في سيدني، أولى كبريات مدن العالم التي تشرق عليها الشمس، نادراً ما تصنع خبراً يصل للقارئ العربيّ، ولكنّها الآن تقتحم الصفحات والشاشات العربية من البوابة التي أرادتها لها إسرائيل عبر إعلان رئيس وزرائها "التّفكير" في الاصطفاف في جوقة ساكن البيت الأبيض في معزوفة نقل السّفارات إلى القدس.

اقرأ أيضاً: مؤتمر الأزهر العالمي: القدس عاصمة فلسطين الأبدية

"حفريات" تابعت هذا الإعلان المثير للجدل، والتجاذبات السياسيّة التي سبقته، ودوافعه غير المعلنة، وأصداءه في أروقة الأحزاب وعلى صفحات الجرائد، فضلاً عن ردود الأفعال الشعبيّة والنقابيّة المحليّة، وتلك الفلسطينيّة والإقليميّة، وذلك عبر متابعة إعلاميّة ومقابلات حصريّة.

هل تتحول أستراليا إلى أكثر الدّول المضطربة سياسياً في الباسيفيك؟

بيان مشترك

في صباح الثّلاثاء، السّادس عشر من الشهر الماضي، أصدر موريسون ووزيرة خارجيّته/ ماري باين بياناً مشتركاً من أربع نقاط مفاده أنّ الحكومة الأستراليّة:

1- ستصوّت بـ (لا) ضدّ رئاسة فلسطين لمجموعة السبعة وسبعين في الأمم المتّحدة.

2- ستدرس بعناية المقترح الذي تقدّم به ديف شارما، سفير أستراليا السابق في إسرائيل، لنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس الغربيّة، وأنّها -الحكومة- منفتحة على ذلك بما لا يتعارض مع الحدود النهائيّة للمدينة.

3- قرّرت تعيين ملحق عسكريّ مقيم في سفارتها إسرائيل، وتدعو إسرائيل لإرسال ملحق عسكري مقيم في كانبيرا.

4- قرّرت إعادة تقييم موقفها الحالي من البرنامج النوويّ الإيرانيّ للتأكّد من أنّه يتماشي مع مخاوف المجتمع الدوليّ من البرنامج.

حاول موريسون إقناع الأستراليين أنّ نقل السفارة لصالح سياسة بلاده الخارجيّة

دوافع مبطّنة

موريسون، الواصل حديثاً إلى سدّة الحكم قبل سبعة أسابيع من تاريخ البيان، بعد أن أطاح رئيس وزرائه وزعيمه السّابق في حزب الأحرار/ مالكولم تيرنبول، والّذي أطاح بدوره قبل ثلاثة أعوام زعيمه السّابق/ توني أبوت، حاول أن يقنع الأستراليّين أنّ حديثه عن نقل السفارة يصبّ في إطار سياسة أستراليا الخارجيّة، وخاصّة إبّان التّصويت في الأمم المتّحدة على رئاسة فلسطين لمجموعة الـ77، وهو ما صوّتت أستراليا مرة أخرى ضدّ حقوق الشعب الفلسطينيّ- مصطفّة هذه المرّة مع دولتين فقط (إسرائيل والولايات المتّحدة) في مواجهة بقيّة دول العالم. وتحدّث أنّه يصبّ أيضاً في إطار متانة علاقات أستراليا مع مدلّلتها إسرائيل، لا سيّما بعد جولتين من الاستعراض "الإباحيّ" لهذه العلاقة- كما وصفها ناشطون أستراليّون متضامنون مع فلسطين- خلال أقلّ من عام واحد، بدأت بزيارة سلفه/ تيرنبول لإسرائيل قبل عام، من أجل توقيع عقود في الأمن والتّجارة، وللمشاركة في ذكرى مئويّة معركة بئر السّبع، في مشهد تمثيليّ باهت لصورة مشوّهة من المعركة، تلتها زيارة نتانياهو لأستراليا في شباط (فبراير) 2018- الأولى من نوعها منذ تأسيس دولة الاحتلال، وما صاحبها من حفاوة حظي بها ذو ربطة العنق الزّرقاء من قطبي السّياسة هنا: الأحرار والعمّال، واللذَين قد يختلفان على كلّ شيء وأيّ شيء إلّا اللّهاث وراء إسرائيل.

موريسون أول رئيس وزراء من الطّائفة البروتستانتيّة الخمسينيّة المؤمنة بعودة المسيح بعد أن تسيطر إسرائيل على أرض فلسطين

وفي الظّاهر أيضاً، يبدو إعلان موريسون وكأنّه يضيف شيئاً من طلاء شاحب من التزام أستراليا الكلاميّ بحلّ الدولتين- التزام لم يقدّم سوى الفتات من مساعدات للسّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة أوقفتها وزيرة الخارجية السابقة/ جولي بيشوب في تموز(يوليو) الماضي بدعوى أنّها "قد تعزّز قدرة السّلطة على توفير أموال لمدانين بالعنف"، في إشارة للأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال، وأنّ بيان موريسون مقاربة أستراليّة جديدة لعملية السّلام المعطّلة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين.

أمّا في الباطن، وهو مربط الفرس، فثمّة حالة من شبه الإجماع النادر الحدوث في أستراليا أنّ عيني موريسون ليستا على القدس البعيدة، بل على "ونتوورث" القريبة: تلك المنطقة الغنيّة في سيدني، والتي كانت على موعد مع انتخابات تكميليّة بعد أيّام من تاريخ ذلك مناورة السّفارة- انتخابات تعتبر مسألة حياة أو موت بالنّسبة للأحرار، لأنّ خسارتهم- كما توقّع استطلاع رأي أعدته مؤسسة بحثية مستقلة (فوتر تشويس بروجكت) في الرابع عشر من الشهر الماضي- ستعني فقدان ائتلافهم لأغلبيّة الصّوت الواحد في البرلمان، وهو آخر ما يحتاجه حزب خرج للتوّ من صراعات داخليّة ظهرت للعلن أفقدت قادته هيبتهم ومصداقيتهم، وهوت بشعبيّتهم بشكل حادّ.

اقرأ أيضاً: القدس كمدينة.. والقدس كقضيّة

في ونتوورث، حيث يستعد أهل المنطقة للاستمتاع بالصّيف عند شاطئ بونداي الشّهير القريب، والذي يصبح محجّ السيّاح الهاربين من برد شتاء الشّمال، كلمة السرّ هي "إسرائيل"؛ لأنّ نسبة اليهود فيها من الأعلى في كلّ الدّوائر الانتخابيّة في أستراليا، وكون المرشّح الّذي يدفع به الأحرار للمرة الأولى في هذه الدائرة هو ديف شارما: سفير أستراليا السّابق في إسرائيل، ذو المواقف المؤيّدة لإسرائيل، ما دفع البعض لوصفه بالنّسخة الأستراليّة الذكوريّة الأذكى من نيكي هيلي- في تلميح لميولهما الصهيونيّة وأصولهما الهنديّة.

وما عزّز هذه الشّكوك هو المغازلة التي قام بها شارما لمؤسّسات الجالية اليهوديّة في ولايته قبل أيّام من الإعلان عبر التعهّد بمنح 2.2 مليون دولار أستراليّ لتلك المؤسّسات لتعزيز إجراءاتها الأمنيّة في مقرّاتها كما نشر موقع (أستراليان جويش نيوز). وليس بعيداً عن ذلك، أتت زيارة موريسون قبل أربعة أيّام من تاريخ الإعلان لمركز "بيث وايزمان" الصهيونيّ في ملبورن، والذي يقول صراحة في الجزء الخاصّ بـ (رؤيتنا) على موقعه الإلكتروني إنّ من أهمّ أولويّات المركز هو "دعم مصالح إسرائيل في ولاية فيكتوريا". وحسب صفحة مجلس الجالية اليهودية في فيكتوريا على "فيسبوك" الذي نشر خبر الزيارة، فإنّ موريسون عبّر لهم عن دعم حكومته، ولك أن تتخيّل ماذا تعني هذه الجملة في لقاء كهذا. 

مذكرة رسميّة تمّ تسريبها للإعلام تحذر من نقل السفارة الأسترالية إلى القدس

أمّا عن سبب إجراء انتخابات تكميليّة في هذه المنطقة تحديداً، والتي لم تفلت من قبضة الأحرار منذ سبعين عاماً، وفي هذا التوقيت بالذّات، فهو لتعويض شغور مقعدها في البرلمان بعد استقالة نائبها/ مالكولم ترنبول في اليوم الأخير من آب (أغسطس)- واضعاً نهاية لأربعة عشر عاماً من تمثيله لهذه المنطقة في البرلمان، استقالة جاءت بعد إقصاء مذلّ عن زعامة حزبه الحاكم- وبالتالي رئاسة الوزراء، فيما يعرف هنا اصطلاحاً بالطعن (Knifing)، وهو ما تكرّر أربع مرّات في الأعوام الثّماني الأخيرة- جاعلاً من أستراليا إحدى أكثر الدّول المضطربة سياسياً في الباسيفيك.

رئيس الوزراء الأستراليّ سكوت موريسون يتجاهل تحذير دائرة المخابرات من خطوة نقل السفارة للقدس بحسب مذكرة تداولها الإعلام

إلا أنّ ثمّة دافعاً آخر غير معلن قد يكون وراء قرار سكومو-اسم الشهرة الشعبيّ لرئيس الوزراء- وهو العقيدة، بحسب ما جاء في موقع (فاينانشال ريفيو) الإلكتروني المرموق. فهو أول رئيس وزراء أستراليّ من الطّائفة البروتستانتيّة الخمسينيّة والمعروفة بإيمانها بنبوءة أرماغادون، وعودة المسيح الّتي لن تتحقّق إلّا بعد أن تسود إسرائيل على أرض فلسطين. وهو في ذلك امتداد لآراء الإيفانغليكانز؛ الكنيسة الأكثر دعماً لقرار ترامب بشأن نقل السفارة إلى القدس. وعلى الرّغم من أنّ موريسون ينكر هذا الرّبط- على الأقلّ أمام الكاميرات والمايكروفونات- إلا أنّه لم يستطع إقناع كثير من المشغولين بالصّحافة الأستراليّة بذلك، ومنهم مارك ديفد- رسّام الكاريكاتير الّذي يرسمه غالباً بزيّ رجل دين، وخاصّة في كاريكاتيره قبل أيّام والذي صوّر فيه موريسون كمغنّي راب بملابس قسّ، حيث جاء في الأغنية ذِكر لمنطقة ونتوورث وسطر يقول "إذا لم تنفع معكم السّفارة في القدس، فابنوها في شارع أكسفورد" (أهمّ شارع في سيدني).

اقرأ أيضاً: تحذيرات من تحوّل السّجون في أستراليا إلى بؤر للتطرّف

كثيرون أيضاً يرون في عقيدة موريسون عامل الجذب الأكبر لاختياره خلفاً لتيرنبول من قبل صقور الأحرار والتّيار اليمينيّ فيه وعلى رأسه توني أبوت، رئيس الوزراء الأسبق، والمطعون الّذي استطاع أن يثأر من طاعنه عبر خنجر موريسون، لدرجة دعت الكاتب/ بيرنارد كين للتساؤل: من يحكم أستراليا؟ في تلميح لتأثير أبوت القويّ.

رسّام كاريكاتير يصوّر رئيس الوزراء الأسترالي كمغنّي راب بملابس قسّ

قرار مرتجل

ثمّة ما يكفي من مؤشّرات على أنّ قرار موريسون قد طُبخ على عجل ولم يمرّ بقنوات الدراسة والنقاش التي يجب أن يسلكها قرار بهذا الحجم وهذه التبعات. فقد قال الفريق أول/ أنغس كامبل- رئيس أركان الجيش الأستراليّ، في نقاش في البرلمان- نشرته صحيفة (سيدني مورننغ هيرالد)- إنّه كان يفضّل لو علمت القواعد العسكريّة الأستراليّة في الشّرق الأوسط بالقرار قبل الإعلام، في إشارة إلى أنّه لم يعلم بمسألة نقل السّفارة إلّا قبل ساعات، في حين أنّ المعلومة تتطلّب حتّى تصل بشكل سليم للقواعد هناك أكثر من يوم.

اقرأ أيضاً: احتجاجات تجتاح العالم مندّدة بالقرار الأمريكي: القدس لنا إلى يوم الدين

وعلى الرغم من أنّ مسألة نقل السفارة هي من صميم عمل وزارة الخارجية بوصفها متعلقة بسياسات أستراليا الخارجية، إلّا أنّ وزيرة الخارجيّة/ ماري باين لم تُعط سوى يومين للإعداد للإعلان. حسب موقع (فاينانشل ريفيو) الإلكتروني، فقد جاء في جلسة استماع للوزيرة في البرلمان مع أعضاء من المعارضة أنّها علمت الأحد 14 الماضي بذلك، ثم توارت عن أنظار كبار موظفي الوزارة ليوم كامل قبل أن تدعو لاجتماع مصغّر الإثنين تاركة متسعاً ضيقاً من الوقت لخبراء الوزارة لدراسة الأمر وتزويدها باستنتاجات عن تأثير هكذا قرار.

ولكن يبقى المؤشر الأخطر هو تجاهل موريسون لتحذير دائرة المخابرات الأستراليّة من خطوة نقل السفارة، والذي وصله قبل يوم من الإعلان عبر مذكرة رسميّة تمّ تسريبها للإعلام؛ لأنّ نقل السفارة إلى القدس "قد يثير مظاهرات واضطرابات وربّما أعمال عنف في الضفّة الغربيّة وغزّة- وربّما في داخل أستراليا".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية