هجمات سريلانكا.. بين النزاع الأبدي وتحوّر "داعش"

هجمات سريلانكا.. بين النزاع الأبدي وتحوّر "داعش"


28/05/2019

ترجمة: علي نوار


ما يزال المجتمع السريلانكي في حالة صدمة، إثر هجمات أحد الفصح الدامية التي أودت بحياة 200 شخص على الأقل، ويبدو أنّ البلاد تشهد هذه الأيام عودة شبح كانت تعتقد أنّه دُفن إلى الأبد. فقد وقعت مؤخّراً، وكردّة فعل على هذه الهجمات، موجة من العنف والاعتداءات استهدفت مساجد ومحال يملكها تجّار مسلمون في مدينة قريبة من العاصمة كولومبو، ما أسفر عن مصرع شخص، الأمر الذي دفع حكومة سريلانكا لإعلان حظر التجول في المناطق التي يسكنها المسلمون.

اقرأ أيضاً: بالأسماء.. الكشف عن منفّذي هجمات عيد الفصح في سريلانكا

يعيد تصاعد وتيرة العنف إلى الأذهان بشكل ما، ورغم تباين الظروف، حقبة ما تزال حاضرة في الذاكرة الجمعية، ويمرّ على انتهائها عقد؛ الحرب الأهلية الدموية التي غرقت فيها البلاد طوال 26 عاماً بين 1983 و2009.

يعدّ الاقتتال الأهلي في سريلانكا واحداً من أعنف وأطول النزاعات في جنوب شرق آسيا وأكثرها تعرّضاً لتهميش المجتمع الدولي

يعدّ الاقتتال الأهلي في سريلانكا، والذي نتج عنه 100 ألف قتيل و800 ألف نازح، فضلاً عن جرائم ارتكبتها جميع الأطراف المتناحرة، واحداً من أعنف وأطول النزاعات في جنوب شرق آسيا، وأكثرها تعرّضاً للتهميش من قبل المجتمع الدولي. فعلى مدار ما يقرب من ربع قرن من الزمان، كافحت الحكومة التي ينتمي أفرادها للغالبية من العرق السنهالي -ذي الديانة البوذية- بجميع الوسائل المتاحة (نمور التاميل)، وهي منظمة شبه عسكرية تضم أفراداً من عرق التاميل الذي يشكّل أقلية في البلاد والذين يدينون بالهندوسية.

منذ مولد الحركة في 1976، رفع نمور التاميل السلاح من أجل إنشاء دولة مستقلة في سريلانكا باسم (إيلام) والتي تعني "الأرض الحبيبة" باللغة التاميلية. إذ يعتبر التاميليون أنّ السنهاليين حصلوا عليها كمنحة من التاج البريطاني أثناء حقبة الاستعمار، الأمر الذي أثار شعوراً بالقمع.

اقرأ أيضاً: مواجهات طائفية تشتعل في سريلانكا.. الحكومة تتخذ هذا الإجراء

بدأت الحكومات الجديدة في سيلان- الاسم الرسمي لسريلانكا سابقًا حتى استقلالها في 1949- مرحلة إصلاحات تمييزية أدّت في النهاية إلى تقليص حجم تمثيل التاميل إلى أدنى درجة ممكنة عبر مشروعات قوانين "من أجل السنهاليين فحسب". حُرم التاميل من حق الانتخاب والالتحاق بالجامعة والخدمات الحكومية، بدأ عدد كبير من أبناء المجتمع التاميلي يقتنعون بأنّ لا حلّ سوى دولة مستقلة خاصة بهم في المناطق التي يعيشون فيها بوصفهم أغلبية؛ أي شمال وشرق البلاد.

ضباط من الجيش السريلانكي يحرسون الوصول إلى ملاذ سان أنطونيو ، أحد الجيوب التي هوجمت في الهجمات على عيد الفصح الأحد - (رويترز)

جرائم حرب

أخذت الأمور منحى أخطر بعد ازدياد حدّة التوتّر بعد شنّ الجيش لعمليات عُرفت باسم تموز (يوليو) الأسود، راح ضحيتها 3 آلاف قتيل من عرق التاميل، وكانت إيذاناً ببدء الاقتتال رسمياً، وإعلان نمور التاميل الحرب ضد الدولة السريلانكية في 1983 رداً على ذلك. ارتكب الجيش النظامي وقائع تعذيب واختفاء قسري، بينما لجأت الحركة المتمردة للهجمات الانتحارية والدروع البشرية، كانت المذابح الجماعية بحق المدنيين وفظائع أخرى هي السمة الغالبة على المشهد منذ ذلك الحين.

اقرأ أيضاً: سريلانكا: هذا المكان الذي تدرّب فيه إرهابيو التفجيرات

بعد مرحلة من الهدنات والمفاوضات ووساطة دول أجنبية من أجل إحلال السلام، استؤنف القتال حتى قرّرت الحكومة في 2006 تسوية الأمر نهائياً حينما شنّت عملية بدأت بوتيرة متباطئة في الإتيان بثمارها بهدف تقويض نمور التاميل. ونتيجة للهشاشة الشديدة التي وصلت لها الحركة المتمرّدة تلقّت نمور التاميل الضربة القاضية في 18 أيار (مايو) 2009 بعملية أخيرة، لقي فيها زعيم الحركة "فلوبيلاي برابهاكاران" مصرعه برفقة آخر مجموعة من المقاتلين على يد قوات الجيش.

اقرأ أيضاً: هكذا جُنّد منفذو تفجيرات سريلانكا..

عشرات الآلاف من القتلى على مدار 26 عاماً، حصيلة الحرب التي تراءى للجميع أنّها تضع أوزارها أخيراً. ومنذ ذلك الوقت أخذ الاقتصاد ينتعش بشكل ملحوظ، عادت الحيوية إلى قطاع السياحة، أعيد إعمار البلاد، وبدأ التعايش يظهر مجدّداً رغم الجراح، حتى جاء يوم 21 نيسان (أبريل) 2019.

هل يعيد التاريخ نفسه؟

بنظرة بسيطة إلى أوجه الاختلاف والتشابه بين الحرب وتطوّر موجة العنف التي حدثت في الشهر المنصرم، يتبيّن أنّها واضحة بجلاء. فهناك احتقان بين ديانتين؛ البوذية والهندوسية أثناء الحرب الأهلية، والإسلام والمسيحية في الوقت الحالي، ورغم عدم وجود أي مؤشرات على أن يصل التوتّر الحالي إلى نفس درجته أثناء الحرب القديمة، إلًا أنّه لا يمكن أبداً التكهّن بالمدى الذي ستصل إليه الأمور.

توجد في جنوب شرق آسيا جماعات محلية لم تقسم بالولاء لداعش بيد أنّها تأثّرت بصورة كبيرة بأيدولوجيا التنظيم

يعرب الباحث في معهد (إلكانو) الملكي الإسباني والمتخصص في شؤون إقليم آسيا والمحيط الهادئ، ماريو إستيبان، عن تفاؤله، مشيراً إلى ثقته في عدم وصول التوتّر الحالي إلى مرحلة متطورة، حيث قال "على عكس ما حدث أثناء النزاع الأهلي، تحاول الحكومة هذه المرة إحلال السلم والنظام، ولم تندفع وراء القمع تجاه المسلمين، مثلما فعلت من قبل مع التاميل". رغم أنّ إستيبان يعترف كذلك بأنّ جانباً من المجتمع المسلم يعتنق أفكاراً سلفية بسبب "تيارات خارجية من دول مثل السعودية وباكستان وتنظيم الدولة الإسلامية، الذي انخرط في صفوفه سريلانكيون".

على الجانب الآخر، يؤكد أستاذ العلاقات الدولية في جامعة (كومبلوتينسي) بمدريد، فلورنتينو روداو، أنّ السنهاليين والتاميل ربما يوحّدان صفوفهما، ما يعني بالتبعية ارتفاع وتيرة العنف بين الأعراق في سريلانكا، موضّحاً "ما يزال ما سيحدث غير واضح المعالم، لكنه احتمال قائم بقوة".

تحوّر تنظيم داعش

لكن إعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن الهجمات التي ضربت البلد الآسيوي مؤخراً ليس سوى دليل جديد على قدرة التنظيم الإرهابي على شنّ اعتداءات إرهابية أو التأثير بشكل مباشر على التيارات المحلية بهدف تنفيذ الهجمات باسمه.

والحقيقة أنّ ما حدث في نيسان (أبريل) الماضي يرسّخ الحقيقة الواقعة منذ أيلول (سبتمبر) 2016، حين حثّ زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي أتباعه وأنصاره على عدم السفر إلى الخلافة الجهادية، بسبب الصعوبات التي تكمن في الوصول إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة التنظيم نتيجة لتشديد الرقابة على الحدود. فضلاً عن الهزائم العسكرية التي مني بها التنظيم سواء في سوريا أو العراق، وخسارته آلاف المقاتلين ونزوح آلاف آخرين إلى مناطق أخرى من أجل مواصلة الجهاد المسلّح.

اقرأ أيضاً: هجمات سريلانكا ودور "داعش" في آسيا

أفضى كل ذلك إلى حدوث عملية تحوّر، بحيث أصبحنا اليوم إزاء سيناريو عالمي يشهد وجود بؤر للنشاط الجهادي المرتبط بصورة أو بأخرى بداعش. فمن جانب هناك أنوية ومجموعات تنشط باسم التنظيم في مناطق "ولايات" الخلافة بعد إعلانها مبايعة البغدادي. ومن هذه الخلايا ما ينشط في كل من نيجيريا وبوركينا فاسو ومصر وأفغانستان؛ حيث توجد تنظيمات؛ "داعش" في غرب إفريقيا و"داعش" في الصحراء الكبرى، وولاية سيناء وولاية خراسان، على الترتيب.
شهدت هذه الجماعات تغييرات على طريقة عملها بحيث تتماشى مع أسلوب "داعش" من حيث نقاط عدة أبرزها الدعاية الجهادية، وبشكل يجعلها تابعة بالكامل للبغدادي الذي تصبح له الكلمة العليا في اختيار قيادات كل هذه الحركات، بينما تظهر على الساحة جماعات أخرى ذات طابع محلي تأثرّت فكرياً بأيدولوجيا "داعش" رغم عدم وجود أي صلة أو مبايعة.

زعيم نمور التاميل ، فيلوبيلاي براباكاران (في المقدمة) ، يستعرض قوات المتمردين في 2004 - أ ف ب

العلاقة بين "داعش" وهجمات سريلانكا

بالعودة إلى الجنوب وجنوب شرق آسيا، نكتشف أنّ ما حدث في سريلانكا هو نموذج لذلك؛ حيث توجد في هذه المنطقة جماعات محلية لم تقسم الولاء لتنظيم "داعش"، بيد أنّها تأثّرت بصورة كبيرة بأيدولوجيا التنظيم الإرهابي، الأمر الذي أسهم في إحداث رابطة بين الحركة الجهادية العالمية وأجندتها المحلية. سمحت هذه الرابطة في مناسبات سابقة بمشاركة عناصر من داعش في التنسيق والتخطيط لهجمات على أراضي بلدان مثل؛ إندونيسيا وبنغلاديش، مثلما يكشف عن ذلك الهجوم الثلاثي الانتحاري الذي وقع في منطقة سورابايا الإندونيسية على يد عائلة كانت تنتمي بالكامل لجماعة محلية تحت اسم جماعة أنصار الدولة، أو الاعتداء الذي استهدف "هولي أرتيسان كافيه" بالعاصمة البنغالية دكا والذي أودى بحياة 22 شخصاً في تموز (يوليو) 2016، في أعقاب هجوم سبقه أعلنت مسؤوليته عنها جماعة تدعى جماعة مجاهدي بنغلاديش الجديدة.

اقرأ أيضاً: بعد الهجمات الإرهابية.. سريلانكا تتخذ هذا القرار

أعلن تنظيم داعش فور وقوع الهجومين مسؤوليته عنهما، رغم تنفيذهما على يد جماعات جهادية محلية وبدون وجود أي صلة أو مبايعة للتنظيم الذي يقوده البغدادي. لماذا إذن أعلن "داعش" مسؤوليته عن هذه الاعتداءات؟ يظهر الجواب في التحقيقات التي أجريت عقب الهجمات والتي تشير إلى وجود صلات بين المقاتلين المحليين الذين انضمّوا كـ"مقاتلين أجانب" إلى تنظيم داعش في سوريا، قبل أن يكلّفهم تنظيم "داعش" بإقامة علاقات مع الحركات الجهادية في بلادهم. حدث ذلك مع كل من باهرون نعيم وتميم شودباري، وهما مواطنان كنديان ذوا أصول بنغالية، ويعتبران العقل المدبّر وراء هجمات سورابايا ودكا.
إنّ المشهد، الذي ترسمه هذه الأمثلة، يحمل في طياته أوجه تشابه مهمة مع هجمات سريلانكا، لا سيما مع إعلان جماعة "التوحيد الوطنية" وكذلك "داعش" وقوفهما وراء الاعتداءات. وقد أظهرت التحقيقات أنّ الصلات بين الجهاديين المحليين والخلايا التي شكّلها تنظيم "داعش" من المقاتلين العائدين تبدو واضحة بقوة بعد انتشار مقطع فيديو يظهر فيه عدد من الضالعين في الهجمات يقسمون بالولاء للبغدادي. وأحدهم على وجه التحديد زهران هاشم، المواطن السريلانكي الذي انخرط في جبهات القتال تحت راية "داعش" السوداء والذي يعتقد أنّه العقل المدبر الرئيس وراء هجمات الشهر الماضي، وبالطبع فهو ليس بمفرده؛ حيث إنّ هناك آخرين ظهروا في الفيديو، وغيرهم ممّن لم يظهروا.

على جانب آخر، فإنّ درجة التنسيق والتخطيط للهجمات وطريقة التنفيذ والأهداف المنتقاة، تدفع للتفكير باتجاه لعب تنظيم داعش دوراً أساسياً في تدبير هذه الاعتداءات، على الأقل، من حيث التنظيم وتدريب الإرهابيين.

يعيش المجتمع السريلانكي حالة من الصدمة إثر هجمات أحد الفصح الدامية التي أودت بحياة 200 شخص على الأقل

وبالفعل، ولدى شنّ أجهزة الأمن حملة مداهمة للمسكن الذي جرى فيه تسجيل مقطع الفيديو؛ حيث أعلن مدبّرو الهجمات مبايعتهم لتنظيم داعش، عُثر خلال المداهمة، التي فجّر فيها 3 إرهابيين انتحاريين آخرين أنفسهم برفقة أسرهم كي لا يتم القبض عليهم، مواد مختلفة حول كيفية إعداد المتفجرات، والتي تتشابه بدرجة كبيرة مع مقاطع الفيديو التي يبثّها التنظيم حول طريقة صناعة القنابل.

رغم اعتبار السلطات السريلانكية أنّ هجمات أحد الفصح وقعت انتقاماً لاستهداف مسجدي نيوزيلندا، إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ "داعش" لم يتمكّن مطلقاً من تبرير اعتداءاته، ويجدر وضع هذه العمليات الإرهابية ضمن الأجندة الخاصة بالتنظيم الذي يستهدف من ورائها بشكل رئيس إثبات أنّه ما يزال يستطيع العمل في أي مكان على وجه الأرض ورفع الروح المعنوية للآلاف من أتباعه وأنصاره.

ولعل أبرز دليل على هذه الأهداف هو هرولة داعش وراء إعلان مسؤوليته عن هجمات وقعت في الآونة الأخيرة بمناطق بعيدة تماماً عن محيط نشاطه بسوريا والعراق، مثل السعودية وأفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، أضف إلى ذلك عودة زعيمه للظهور في مقطع فيديو بعد 5 أعوام دون صورة واحدة حتى. كما أنّ محتوى هذه الرسالة الذي يركّز على قبول مبايعة جماعات في مالي وبوركينا فاسو وإعلان تأسيس ولاية في وسط إفريقيا وأخرى في تركيا، هي أدلّة قاطعة على أنّ داعش يستميت من أجل استرداد "حظوته" المفقودة.

قراءة في الخلفية التاريخية لسريلانكا والهجمات الأخيرة على الكنائس، من مقال للصحفي ميجيل رويث دي أركاوتي منشور بجريدة (آ بي ثي) الإسبانية، ومقال كارلوس إجوالادا تولوسا مدير (المرصد الدولي لدراسات الإرهاب) منشور بصحيفة (الموندو) الإسبانية.


المصدر: https://bit.ly/2YTjrxt و https://bit.ly/2Jm6s3q



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية