هذه أصنامكم وهذا فأسي.. كيف تتحدث في الدين وأنت طبيب؟!

هذه أصنامكم وهذا فأسي.. كيف تتحدث في الدين وأنت طبيب؟!


27/08/2018

العلم بداية، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، في كتابه "النظرة العلمية"؛ هو معرفة، لكنّ الأهم أنّها معرفة لتغيير الطبيعة، هو ملاحظة وتعميم باستخدام قانون أو نظرية ثم اختبار لهذا القانون أو تلك النظرية، والملاحظة والتعميم، في رأي راسل، وحدهما لا يكفيان؛ فالإنسان قديماً لاحظ أنّ الأجسام التي لا يمسكها شيء في الهواء تسقط، لكنّ المنطاد والطائرة والصاروخ كذّبت تلك الملاحظة، التي باتت غير مجدية في بناء تعميم علمي عليها.

العلوم الإنسانية ما تزال تعاني من أمراض التحيز وعدم القدرة على التعميم والخروج بنظريات تصلح للجميع

هكذا تحدّث راسل، في بداية كتابه، عن أساسيات النظرة العلمية، لكنّه في ثنايا تعريفه لتلك الأساسيات منحنا السرّ في عداء رجال الدين للعلم، أو بالأصحّ "العلم الحقيقي"؛ عندما قال: إنّ ألدّ أعداء العلم "أوهام تحقيق الرغبة"، وما تجارتهم الرائجة إلا في تلك الأوهام، فكيف لا يكرهون ولا يتخذون موقفاً عدائياً من العلم، الذي سيقضّ مضاجعهم، ويبوّر تجارتهم، ويراكم سلعهم؛ التي تجاوزها الزمن، وهجرها التاريخ  في مخازن الأنتيكات الفكرية؟ العلوم نوعان، لا ثالث لهما؛ علوم تجريبية وعلوم إنسانية، أو كما يسمونها في أدبيات العلم: "علوم صلبة، وعلوم رخوة"، وعلوم الدين هي علوم تنتمي إلى مجال العلوم الإنسانية، أو العلوم الرخوة".

اقرأ أيضاً: هذه أصنامكم وهذا فأسي..هل الدين علم لا يدركه إلا المتخصص؟

ويتابع راسل "ومن يحاول أن يطلق عليها علوماً ربانية، كي يرهب ويحتكر ويمنع النقد والنقاش؛ هو إنسان يحاول أن يخدعنا، فكلّ ما هو مكتوب في الفقه والتفسير، وعلم الرجال، والجرح والتعديل، هو جهد إنسانيّ بشريّ، ووجهات نظر، حتى لو كان موضوع البحث هو الدين، ومن يدّعي أنّه قد احتكر وحده حصرياً توكيل التفسير الربانيّ من الله، فليظهره لنا! ما ينطبق على علم التاريخ، وعلى علم النفس والاجتماع، ينطبق أيضاً على تلك العلوم الدينية، لكن –للأسف- حتّى تلك العلوم الإنسانية، السابق ذكرها، تطورت أدواتها ومناهج بحثها، وظلّت العلوم الدينية مستعصية على التطوير، مكانك سر، نتيجة هالة القداسة التي خلقت مزيداً من الحواجز والتابوهات أمام أيّ باحث يريد تطبيق مناهج البحث الحديثة على تلك العلوم، ... إلخ".

العلوم الإنسانية عموماً تطمح إلى أن تكون في دقة وانضباط العلوم التجريبية، يتمنى علماء التاريخ، والاجتماع، والاقتصاد، وغيرها من المجالات، الحصول على "آيزو" المعمل ودقته، والوصول إلى تجريد وصرامة العلم التجريبي ومعادلاته، سواء كان فيزياء أو كيمياء أو طب...، ولو سألنا، حتى في مجال العلوم التجريبية، عن أيّ تلك العلوم أكثر تقدماً؟ لوجدناه الفيزياء؛ التي تقدّمت أكثر من الطبّ، وقفزت قفزات أسرع منه بكثير؛ بل كانت الفيزياء هي القاطرة التي جرّت الطبّ إلى الأمام؛ لأنّها أكثر دقة وصرامة وتجريداً وتعميماً.

اقرأ أيضاً:  الدين والعلم..علاقة اتصال أم انفصال؟

العلوم الإنسانية، عموماً، ما يزال ينقصها الكثير حتى تصل مرتبة العلوم التجريبية، والبعض يقول إنها لن تصل إلى تلك الدقة أبداً، فرغم كلّ محاولات تطبيق المناهج العلمية والإحصاء والاستبيان والمعادلات والمنحنيات...، ما تزال تعاني من أمراض التحيز، وعدم القدرة على التعميم والخروج بنظريات تصلح للجميع؛ لأنّها تتعامل مع الإنسان والمجتمع، وهي أشياء تقاوم القياس المنضبط والقوالب الثابتة؛ لذلك تستطيع أن تقول، وبكل دقة، إنّ درجة غليان الماء في مصر وفي أمريكا وأستراليا 100 درجة مئوية، لكن لا تستطيع أن تقول إنّ درجة غليان الإنسان، ووصوله إلى درجة الثورة، أو القتل، أو التذمّر، أو الاكتئاب، واحدة في تلك الدول!

تحاول تلك العلوم جاهدة، خاصة في الغرب، أن تضع إطاراً علمياً منضبطاً، ويساعدها في ذلك جسارة الباحثين المتخصصين، وأيضاً قدرة تلك الشعوب، بأفرادها العاديين غير المتخصصين، على التفكير النقديّ الحرّ؛ لذلك يوجد في العلوم الإنسانية هامش كبير متاح لغير المتخصصين، والمدهش أنه أحياناً تأتي ثورة تلك العلوم ممن نسميهم غير المتخصصين.

عندما حاول أبو زيد تطبيق مناهج البحث العلمي على علوم القرآن تمّ تكفيره بل وصل الأمر إلى تفريقه عن زوجته

وسأضرب لكم مثالاً بعلم التاريخ، ومن مصر؛ أنا شخصياً، ومعظم جيلي، قرأنا عن الثورة العرابية، وكان مرجعنا كتاب الأستاذ صلاح عيسى، الذي لم يحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ، ولم يدخل أصلاً كلية الآداب، وكان مرجعنا عن فترة الملك فاروق؛ ما كتبه أحمد بهاء الدين الحقوقي، وغيره من الصحافيين غير المتخرجين من كلية الآداب، وغيرها من الكليات، هذا فرق أساسيّ بين نوعين من العلوم، حتى لا يخرج علينا شيخ بالتصريح "الكلاشيه": "زي ما الطبيب متخصص في الكشف عن المرض، إحنا متخصصين نعرّفك دينك، ونفكر بدلاً منك، ونفتي لك"!

عندما حاول نصر أبو زيد، غير الأزهري، أن يطبّق مناهج البحث العلمي على علوم القرآن، قامت الدنيا ولم تقعد، وتمّ تكفيره؛ بل وصل الأمر إلى تفريقه عن زوجته، وكذلك عندما حاول جمال البنا، الذي لم يتخرج من الأزهر، أن يناقش ما يطلق عليه "علوم الحديث"، تمّ تكفيره والسخرية منه، واغتيال مشروعه الفكري، والتشويش عليه بالتربص والاصطياد لقضايا فرعية تافهة، يجره إليها أشرار الإعلام وهواة الفرقعات الفضائية! وحتى عندما خرج د. أحمد صبحي منصور، الأزهري الحاصل على الدكتوراه، عن السياق، وناقش الأحاديث، تمّ تكفيره، ونفيه خارج الوطن.

إذاً، الحكاية ليست حكاية أزهر، لكنّها حكاية اتجاه بعينه داخل الأزهر، يريد فرض وجهة نظره، والحفاظ على مكاسبه.

الصفحة الرئيسية