هل أخرج المتشددون كلمة "نصارى" عن سياقها القرآني؟

هل أخرج المتشددون كلمة "نصارى" عن سياقها القرآني؟


17/03/2022

يستنكر كثير من المسلمين المناهضين للجماعات الإسلامية المنظَّمة، سواء كانت دعوية أم مسلَّحة، استخدام تلك الجماعات للفظ "نصارى" في وصفهم للمسيحيين؛ فيرون أنّه من الألفاظ المتشدّدة، وعليه؛ يفضّل بعض المسلمين استخدام كلمة مسيحيّ، بدلاً من "نصراني" باعتبارها خرجت عن دلالتها القرآنية، خاصة في أدبيات جماعات الإسلام السياسي والجماعات الجهادية.

وفي حقيقة الأمر؛ فإنّ القرآن استخدم لفظ "النصارى" 14 مرة، ضمن 13 آية، ولم يُشر إليهم بالمسيحيين ولو لمرّة واحدة، ومن اللّافت أنّ الآيات التي ذكر فيها لفظ نصارى، جميعها من الآيات المدنية؛ أي التي أوحي بها إلى النبي، عليه السلام، بعد الهجرة، وفي زمن الغزوات (من 2ه إلى 9هـ)؛ أي في خضمّ زمن وتوسّع الرسالة المحمّدية، مع العلم بأنّ بعض السور المدنية قد تضمّ آية مكيّة، مثل سورة "البقرة"، كما أنّ هناك سوراً مكية قد تضمّ آية مدنية، مثل سورة "المرسلات"، لكن -في نهاية المطاف الذي نشير إليه- فإنّ الآيات التي ورد فيها لفظ نصارى تعدّ من الآيات المدنية، هنا نجد ثلاثة محاور لا بد من الإشارة إليها:

أولاً: هل يشير المسيحيون إلى أنفسهم بالنصارى؟

من الناحية الأدبية؛ تعدّ التسمية التي اختارها أصحاب العقيدة لأنفسهم هي الأولى، وليس ما يستخدمه أصحاب عقيدة أخرى، وذلك في حالة الاختلاف في التسمية؛ فالمسيحيون يرفضون تسمية النصارى، وفي هذا الصدد يقول الباحث المصري في الشؤون القبطية، لطيف شاكر، في كتابه "المسيحيون ليسوا نصارى": إنّ "كلمة النصارى ليست، بالضرورة، مستمدة من بلدة الناصرة، التي نشأ فيها عيسى، فالناصرة والنصارى لفظان مختلفان"، ويؤكد أنّ "النصرانية؛ لفظٌ أطلِق على طائفة من الناس ابتدعوا فكراً مخالفاً للمسيحية، لذا يرفضون التسمّي به".

يرى كثيرون أنّ كلمة نصراني أُخرجت عن دلالتها القرآنية خاصة في أدبيات جماعات الإسلام السياسي والجماعات الجهادية

بينما يشير المفكر العراقي، د.جواد علي (1907-1987)، صاحب الكتاب المشهور "المفصَّل في تاريخ العرب"، في فصل يحمل عنوان "النصرانية بين الجاهلين": إلى أنّ "لفظ النصرانية والنصارى من الألفاظ المعرَّبة، ولهما أصول سريانية من كلمة (Nasraya)؛ التي كانت تطلق على مسيحيِّي الشرق، ويرى بعض المستشرقين أنّها مستمدة من الكلمة العبرية (Nazerenes)؛ التي أطلقها اليهود على أتباع المسيحية، وقد ظلّ اليهود يطلقون على أتباع المسيحية اسم النصارى، وبهذا المعنى وردت في القرآن الكريم، وصارت النصرانية علماً لديانة المسيحيين عند المسلمين، بحسب تسمية القرآن الكريم".

وقبل دراسة د.جواد علي بقرون، كتب تقي الدين المقريزي (المتوفَّى 845هـ)، في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار"، (في الجزء 2، ص 482): "نزلت السيدة مريم إلى قرية الناصرة، فنشأ فيها عيسى، ثمّ أصبح يسوع الناصري، نسبة إلى تلك القرية، حين بعثه الله إلى بني إسرائيل. وبعد مماته، تفرّق الحواريون يدعون إلى دين يسوع الناصري، وأُطلق عليهم لفظ "الناصرية"، حتى تلاعب العرب بهذه الكلمة، وقالوا: "نصارى""، ويقصد المقريزي هنا؛ العرب قبل الإسلام، ومن الواضح أمامنا، اليوم، أنّ القرآن الكريم استخدم اللفظ المتداول بين العرب.

ثانياً: هل يستخدم المتشددون كلمة النصارى بهدف الاستهانة؟

أذكر أنّه قبل 16 عاماً؛ حين كنت مرافقة لبعض الأخوات المسلمات من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، كنا نتلقى التوجيه دوماً، بأن نشير إلى المسيحيين بالنصارى في جلساتنا، ولعلّ هذا الخطاب يتغيّر على لسان بعض القياديين في التنظيم؛ الذين استخدموا كلمة "مسيحيّ" في خطاباتهم، لأسباب دبلوماسية، بغرض طمأنة المسيحيين، حتى إن كانوا يضمرون ما هو خلاف ذلك.

اقرأ أيضاً: "المسيح الأسمر" في مواجهة عنصرية الرجل الأبيض

وتسمية المسيحيين بالنصارى، بحسب اللفظ القرآني، جاءت في فتاوى ابن باز (1910-1999)، مفتي المملكة السعودية الراحل، في الجزء 5 ص 387؛ حيث قال: إنّ كلمة مسيحي هي نسبة إلى المسيح ابن مريم، ومن يطلق على نفسه مسيحيّاً يزعم الانتساب للمسيح، والمسيح بريء منهم؛ لأنّه لم يقل إنّه ابن الله، فالأولى أن يُقال لهم "نصارى""، أما الشيخ محمد ابن صالح العثيمين (1929-2001) فقال: "نرى أنّ نسمّي النصارى بـ"النصارى"، كما سمّاهم الله، عزّ وجلّ، وكما هو معروف في كتب العلماء السابقين، كانوا يسمّونهم "اليهود والنصارى"، لكن لمّا قويت الأمة النصرانية، بتخاذل المسلمين، سَمَّوا أنفسهم "المسيحيين"؛ ليضفوا على ديانتهم الصبغة الشرعية، ولو باللفظ" ("لقاءات الباب المفتوح"، 43، السؤال رقم 8).

اقرأ أيضاً: هدية من مدرس مسيحي

وهذه الفتاوى انتشرت من شبه الجزيرة العربية إلى أنحاء البلاد العربية، وقد استخدمها الإسلاميون، للأسف، أحياناً، في إثارة النعرات الطائفية.

ثالثاً: كيف تناول القرآن لفظ "نصارى"؟

تناول القرآن المسيحية؛ كونه جاء في مرحلة لاحقة، بينما لم تتناول الأناجيل الإسلام؛ كونها جاءت في مرحلة سابقة، وهذه بديهيات، ونحن نتحدث هنا عن الكتب المقدسة، لا أصحاب العقائد.

يتغيّر الخطاب على لسان قيادات الإخوان فيستخدمون كلمة "مسيحيّ" في خطاباتهم لأسباب دبلوماسية بغرض طمأنة المسيحيين

هذا ينقلنا إلى المنطقة الشائكة، وهي: كيف تناول القرآن "المسيحيين"، أو كما ذُكروا فيه "النصارى" في 13 آية؟ علماً بأنّنا هنا نركّز على مصطلح "النصارى"، وليس مصطلح "أهل الكتاب" الذي جاء في 20 موضعاً آخر؛ (لأنّ "أهل الكتاب" تسمية تطلق على اليهود والنصارى بالدرجة الأولى، والصابئة والمجوس بدرجة أقل).

بكلّ تأكيد، تمّ تطويع الآيات واستخدامها بحسب الخطاب الديني المُراد؛ فالخطاب الديني الداعي إلى الإخاء، عادة يستشهد بالآية: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: (82)]،  بينما يستدلّ أصحاب الخطابات المتشددة، في أحاديثهم، بآية: { لَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: (120)].

إشكالية تاريخية النصّ

إنّ قضية تناول المسيحيين في القرآن، تقع في لبّ إشكالية تسمَّى "أزلية النصّ أم تاريخية النصّ"؟ إذ اختلف فريقان في قراءة النصوص؛ أحدهما اعتمد على أزلية النصّ، الذي تعطيه الصلاحية في أيّ زمان ومكان، والآخر اعتمد على تاريخية النصوص، التي تعتمد على دراسة أسباب النزول في سياق بعينه، والفريق الأخير يلجأ إلى دراسة احتياج الزمان والمكان للنصوص، وبما أنّ المكان والزمان متغيّران فيمكن الانفصال عن حرفية النصّ، وعدم الالتزام به نصّاً في إطار التأويل؛ بما فيه ترك تسمية المسيحيّين بالنصارى، في الحياة اليومية، وتسميتهم بما اختاروه لأنفسهم؛ من باب العمل بمبدأ المواطنة.

اقرأ أيضاً: حبيب جرجس: نظير محمد عبده في المسيحية المصرية

ولعلّ المواطنة كانت سبباً في إلغاء الجزية من أنظمة البلاد العربية، وذلك أكبر دليل على الإقرار بتاريخية النصّ في المسألة، رغم وجود آية صريحة تقول: {قاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: (29)]، التي تمّ تعطيلها في البلاد ذات الأغلبية الإسلامية؛ فإن كانت الجزية قد تعطلت في التاريخ المعاصر، عملاً بمبدأ المواطنة،  فما الذي يمنع استخدام لفظ المسيحيّين في الحاضر في التعاملات اليومية، إقراراً بالمبدأ نفسه، واحتراماً لما اختاره المسيحيّون لأنفسهم من أسماء؟

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية