هل أصبحت "الجمعة السوداء" مؤامرة كونيّة على الدين؟

هل أصبحت "الجمعة السوداء" مؤامرة كونيّة على الدين؟


05/12/2019

درج الإنسان منذ فجر التاريخ على تقسيم الحياة إلى مناسبات وذكريات ومواسم تُعلن عن نفسها بمجرد أن يحين وقتها؛ فالأعياد والاحتفالات سلوك إنساني عام يُثير في نفوس عامة الناس شعور الفرح والسعادة، ويثير في نفوس قلّة منهم شعوراً بالاستياء وإحساساً بالمؤامرة، فيرى في الأعياد مؤامرة تُحاك ضدّ هويته، فما زال بعضُ المتدينين يُردد ما جاء في مجلة الدوحة من وجوب "إعادة النظر في أمرِ أيامنا الوطنية والقومية بحيث نصل إلى أن نحظر استخدام كلمة "عيد" لأيّة مناسبة إلا الفطر والأضحى، في جميع وسائل الإعلام، وذلك التزاماً بتعاليم الإسلام". (1)


والواقع أنّها ليست تعاليم الدين وإنما هي دلالات صكّها بعض الفقهاء، ورددّها بعض الوعّاظ، ولاقت هوى في نفوس أبناء الجماعات الساعية إلى التّمايز الدّيني عن أبناء وطنها، فمثل هذا التفكير الذي يحصر كلمة "عيد" في عيديّ الفطر والأضحى يتناقض مع الاستعمال القرآني لكلمة "عيد"، التي جاءت في القرآن الكريم بمعنى "الذكرى السعيدة"، في قوله تعالى: "قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّـهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا". سورة المائدة، الآية [١١٤] وهو المعنى الذي جاءت به معاجم اللغة(2)، فميلاد النبي، صلى الله عليه وسلم عيد، وميلاد كل واحد منّا عيد له ولمحبيه، واستقلال الوطن عيد، وتفتّح الزهور مع الربيع عيد، فكل ذكرى سعيدة تحمل بهجة وسعادة للإنسان هي عيد.

الأعياد سُنّة فطرية جُبل النّاس عليها، وعرفوها منذ وُجدت حركة الاجتماع والتقاليد والذكريات، حركتها سياقات تاريخية وثقافية واقتصادية

وأمّا الخبر الآحاد الذي رُوي عن النبيِّ، صلى الله عليه وسلم في سُنن أبي داود عن فضل عيديّ المسلمين الدينيين الفطر والأضحى، لا ينفي ما سواهما من الأعياد العامة التي تقّرها كلّ دولة، وتُعرف بالأعياد الرسمية أو القانونية، وتتنوع بين دينية وشعبية وتاريخية وسياسية، فالخبر من قبيل الحثّ على إشاعة أجواء الفرح والسعادة خوفاً من النبي، صلى الله عليه وسلم، على أمّته التي ما زالت حديثة عهد ببداوة أن تتنسّك تنسّك الأموات، فلا تفرح ولا تبتهج في أيّ يومٍ حتى في يوم العيد.

اقرأ أيضاً: هل يجوز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم؟ الإفتاء المصري يرد
فالأعياد سُنّة فطرية جُبل النّاس عليها، وعرفوها منذ وُجدت حركة الاجتماع والتقاليد والذكريات، ولا تخلو من سياقات تاريخية أنتجتها وخلفيات ثقافية تقف وراءها، وخطط اقتصادية تُروّج لها بُغية تحريك ركود الأسواق، لا كما يُروّج جانبٌ من الخطاب الدينيّ، الذي يُفسّر كل ما حوله بأنّه مؤامرة كونية غربية على الإسلام، فيُحذّر، مثلاً، من "كذبة نيسان" ظنّاً منه أنّ المقصود بها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم؛ الذي تُشير بعض الآراء إلى أنّ ميلاده صلى الله عليه وسلم كان في  ٢٠ نيسان، ويتجاهل أصحاب نظرية المؤامرة أنّ هناك عشرات التفسيرات لـ "كذبة نيسان"، ومن أشهرها أنّ تقويم "Jovian" السائد في الغرب حتى عام ١٦٩٨م كان العام يبدأ فيه بشهر نيسان (أبريل) وعندما تغيّر إلى التقويم الحالي "Gregorian" الذي يبدأ العام فيه بشهر كانون الثاني (يناير)، لم ينتبه بعض الناس، فاحتفلوا ببداية العام الجديد في أول نيسان (أبريل) فأُطلق عليهم "April’s Fools" "حمقى أبريل"، ثمّ أصبح المُزاح الكاذب في هذا اليوم تقليداً وعادةً إنجليزية، من أشهرها الإعلان "أنّ حديقة الحيوان الإنجليزية ستقوم بتنظيف الأسود بجوار برج لندن في أول أبريل"، ونشرت الإذاعة البريطانية "بي بي سي" خبراً "أنّ البطاريق تطير مهاجرة في الأول من أبريل"، ثم تناقلت بعض الشعوب تلك العادة مع تفاوت بينهم في الاهتمام بها.

الكثير من الأعياد تتبادلها وتتناقلها الشعوب من بعضها البعض وليست مُؤامرات خارجية للنّيل من الدين وتحريف الثوابت

فهناك أعياد وعادات شرقية استعارها الغرب، وأخرى غربية نقلها الشرق، فنقلت الولايات المتحدة الأمريكية الاحتفال بأعياد الربيع عن اليابان التي أهدت الولايات المتحدة ٣٠٠٠ شجرة كرز عام ١٩١٢، تلك الشجرة المرتبطة بأعياد الربيع "هانامي" في اليابان منذ أكثر من ألف عام، فهي من أقدم الأعياد التي عرفها الإنسان القديم عندما كان يخرج من كهفه، وقد تصالح مع الطبيعة بعد فصل شتاء أعاقه عن الرعي والصيد، ورغم أنّ المصريين احتفلوا بعيد الربيع منذ أكثر من خمسة آلاف عامٍ، إلا أنّ المصري المعاصر لم يعرف احتفالات عيد الربيع إلا في بدايات القرن الماضي، فبدأت بين أهل المدينة أول الأمر، فلم يكن أهل الريف يشعرون به وقلّما يعرفون تاريخاً له، لكنه أصبح الآن من الأعياد الشعبية والرسمية التي يحرص عليها أهل الرّيف.


ومما استعاره الشرق من الغرب احتفالات "الجمعة البيضاء"، أو "الجمعة السوداء" الذي عادةً ما تكون في نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ويعود الاحتفاء بهذا اليوم إلى عام ١٨٦٩ عندما تعرّضت الولايات المتحدة لأزمة مالية وحالة من الكساد التجاري تسببت في كارثة اقتصادية كُبرى دفعت السّوق إلى اتخاذ عدة إجراءات لمواجهة تلك الكارثة، منها تخفيضات كبرى على السلع والمنتجات لبيعها بدلاً من كسادها، ومنذ ذلك الوقت أصبح تقليداً سنوياً تقوم به كبرى المتاجر والوكالات، وبات يوم العروض والخصومات الكبيرة هو اليوم الأفضل لشراء هدايا عيد الميلاد، وسرّ وصْف هذا اليوم باللون الأسود ليس ناتجاً عن الكراهية أو التشاؤم، وإنما لحالة التجمهر والاختناقات المرورية والزحام الشديد أمام المحلات منذ فجر هذا اليوم، ما دفع شرطة مدينة فيلاديلفيا عام ١٩٦٠ إلى إطلاق اسم "الجمعة السوداء" "black Friday" عليه لأول مرة، غير أنّ موقع "أمازون" عام ٢٠١٤ في نسخته العربية أطلق عليها يوم "الجمعة البيضاء" بدلاً من السوداء وتبعته مواقع التسوق الإلكتروني العربية، لِما يحمله يوم الجمعة من خصوصية دينية لدى أغلبية العرب من المسلمين، أخيراً "الجمعة البيضاء" من الأعياد التي يفرضها "السّوق"، ينشط على مدى الأربع وعشرين ساعة "الكونية" حيثُ لا تمييز بين ليل ونهار أو بين نوم ويقظة، فلا تُوقف الحدودُ الجغرافية شركاته العابرة للقارات ولا متاجره الإلكترونية.

هوامش:
(1) دوريش مصطفى الفار في جريدة الدوحة العدد رقم "٩" ١ سبتمبر ١٩٧٩.
(2) العيد في معجم اللغة هو "الذكرى التي تعود (تتكرر) من همٍّ أو مرضٍ، أَو شُوقٍ أو نحوه"، ثم خُصّصت كلمة "العيد" في الذكرى السعيدة التي يتكرر ذكرها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية