هل أطلق فيلم "عيار ناري" الرصاص على ثورة يناير؟

هل أطلق فيلم "عيار ناري" الرصاص على ثورة يناير؟


28/10/2018

"للحقيقة أكثر من وجه". بتلك العبارة ينتهي فيلم "عيار ناري"، الذي أحدث ضجة في الإعلام بعد عرضه الأول في مهرجان الجونة السينمائي، في أيلول (سبتمبر) 2018، خاصةً بعد أن حمل الفيلم رسائل أو تساؤلات ترغم المشاهد على إعادة النظر في أهم حدث مر على مصر في القرن الحادي والعشرين؛ وهو ثورة يناير وشهدائها، فبين مؤيد ومعارض، تضاربت ردود الأفعال تجاه الفيلم.

حبكة وغموض

يبدأ الفيلم من نهايته، بلقطات متقطعة في منزل فقير، يظهر فيها أحمد مالك (علاء أبوزيد) وهو محور الأحداث، ملقى على أرض منزله ملخطاً بالدماء، وبجواره أخوه محمد ممدوح (خالد أبوزيد)، يبكيه، وتحاول عارفة عبدالرسول (الأم) إخفاء دموعها على ولدها الذي سقط صريعاً إثر عيار ناري اخترق أمعاءه، لتبدأ الأحداث الحقيقية للفيلم في مشرحة زينهم بالقاهرة حيث المقر الذي حمل آلاف الجثث التي سقطت في أحداث ثورة يناير وتوابعها، إذ يتجمهر أهالي القتلى الذين يبدو من هيئتهم أنهم من فقراء المدينة، وبداخل المشرحة يعمل الطبيب الشرعي أحمد الفيشاوي (ياسين المنسترلي)، الذي يعاني من مشاكل نفسية بسبب والده (أحمد كمال)، وزير الصحة الأسبق، والسجين على ذمة قضايا فساد تتعلق بوزارة الصحة المصرية، مما يدفع الإبن إلى تعاطي الكحول وإدمانه حتى في أوقات العمل الرسمية، ويبرع مدير التصوير عبدالسلام موسى في تباينات الإضاءة التي ظهرت في الأحداث؛ فكل المشاهد التي تمّت داخل المشرحة، تبدو الإضاءة باهتة كئيبة، تشعرك برغبة في انتهاء المشهد حتى تنقشع تلك الغمامة.

اقرأ أيضاً: 14 فيلماً جسدت صورة الإرهابي في السينما المصرية.. تعرّف عليها

يقع علاء أبوزيد تحت أيدي الطبيب، الذي يقدم تقريراً طبياً مفاده أنّ العيار قد أصاب القتيل من مسافة أقل من متر واحد، وهو ما يعني أنّ الطلقة قد أصابته من نفس المساحة وليس من قناصة الداخلية، بحسب ادعاء عائلته بأنه قد سقط صريعاً في المظاهرات الكائنة بمحيط وزارة الداخلية المصرية، وهو ما يكذبه تقرير الطبيب الشرعي، ويضع الفيلم المشاهد أمام تساؤل حتى نهاية الفيلم، هل أتت الرصاصة من أحد المتظاهرين إلى جوار علاء، وأنّ الشرطة براء من دم متظاهري يناير؟ وهل يحاول الفيلم عرض الصورة معكوسة وشيطنة المتظاهرين وتطهير يد الداخلية من دماء آلاف الشهداء الذين سقطوا على امتداد شهور وسنوات الثورة؟ هنا يمتد التشويق حتى نهاية الفيلم، حتى تمضي الأحداث فتظهر خطيبة القتيل (أسماء أبواليزيد)، التي تحمل سراً لا يظهر إلّا في مشهد الاعتراف النهائي.

الملصق الدعائي للفيلم يجمع أبطاله

تعددت المعاني والثورة واحدة

خلال احتجاجات المتظاهرين أمام مجلس الوزراء في تبعات ثورة يناير في ديسمبر من العام نفسه، يظهر الإعلام المصري محاولاً تشويه صورة المتظاهرين، مثلما حدث من الإعلامي خيري رمضان الذي عرض فيديوهات يسخر فيها من لباس المواطنين الذين شبههم بالبلطجية، دون الوعي أن هذا هو شكل الأغلبية من المواطنين، فالطبقة الوسطى بمختلف شرائحها تشكل الغالبية العظمى من شعب مصر، وقد مثلت أحداث الثورة فرصة أمام مختلف الطبقات الإجتماعية للنزول إلى الشوارع والتعبير عن غضبهم، غير أنّ هذا ما أتاح الفرصة أمام تيار الإسلام السياسي في مصر وقتها، للتنمّر ضد المتظاهرين، مثلما حدث مع واقعة الفتاة التي تم تعريتها في التظاهرة،  حيث رأينا أبناء التيار الإسلامي يتهمون الفتاة بأنّها تريد الإيقاع بين الجيش والشعب، وتارة أخرى يتساءلون ما الذي ذهب بها إلى هناك؟

الناقد السينمائي الشيخاوي: بالرغم من التناغم الكبير بين عناصر الشخصيات، إلّا أنّ الإخفاق أتى من جانبين

يحاول الفيلم إثارة تلك القضية من جديد: مَن هؤلاء المتظاهرون وما هي دوافعهم للتظاهر، أو بالأدق ما الذي ذهب بهم إلى هناك؟

حبكة الفيلم تضعه في منزلة فيلم جريمة، والإثارة والغموض على عدة أصعدة برع فيها كاتب السيناريو، فشخصية الطبيب المثيرة للجدل لكل من حوله برع فيها أحمد الفيشاوي، إذ تصر على إظهار الحقيقة التي تتناقض مع ما ترغب به الجموع، بينما أخفق المخرج في توظيف الشخصية من ناحية الظهور والسيطرة على الأحداث، وهو ذات الإخفاق في توظيف شخصية أحمد مالك باعتبارها شخصية محورية في الفيلم، وتبقى الشخصية المسيطرة التي تؤجج الأحداث هي شخصية الأخ "محمد ممدوح"، الذي برع في دوره واستحق أن يكون هو محور الأحداث، ومنظماً لإيقاع الفيلم المتباطئ في البداية، فالتناقضات التي حملها أداء ممدوح منذ اللقطات الأولى، تضع المشاهد حائراً متسائلاً عن تواطؤ الأخ في قتل أخيه، أم أنّ هذا الألم والغضب اللذين يكسوان وجهه حقيقيان وهناك سر أكبر تحمله الأم وحدها؟

لقطة في المشرحة من فيلم "عيار ناري"

البعد الفلسفي

على الرغم من الكتابة الجيدة لحبكة الشخصيات من السيناريست، والإخفاق في تعميق الشخصيات من قبل المخرج، إلّا أن البعد الفلسفي للفيلم لا يجعله فيلماً موجهاً بالدقة التي يراها البعض؛ فالمعنى الفلسفي الذي أخفق الكاتب في التصريح به في الخاتمة هو ما تدور لأجله أحداث الفيلم، أين تكمن الحقيقة، وهل تتغير بتغير الزمن، والناظرين إليها، أم أنها واحدة باقية أبد الدهر؟

يفقد الفيلم بريقه في المشهد الختامي، فبعد تلك الرحلة التي امتدت ساعتين من التشويق والتناغم بين الشخصيات، يصرح الكاتب بما يريده من طرح الفكرة. وهو ما يعد الإخفاق الأكبر في نظر الناقد السينمائي التونسي الطاهر الشيخاوي، الذي قال لـ "حفريات": "بالرغم من التناغم الكبير بين عناصر الشخصيات، إلّا أنّ الإخفاق أتى من جانبين، أولهما كان عدم استخدام الشخصيات لأبعد من ذلك، فالمخرج جعل من الشخصيات خادمة لقضيته الفلسفية وليس العكس، وكان من الأفضل جعل الشخصيات هي المحور الذي تخدمه القضية، أمّا الشق الأخير فقد أفسد عنصر الإثارة الذي يجعل بصمة الفيلم عالقة في ذهن المشاهد وهو المضي من قاعة العرض والتفكير في خط النهاية".

اقرأ أيضاً: العنف الديني في مصر... سنوات ما قبل 25 يناير

وينوه الشيخاوي إلى أنّ "المخرج المبدع وحده من يمتلك القدرة على ترسيخ صورة عمله في ذهن المتفرج أطول فترة ممكنة، ويخرج المشاهد من العرض بتساؤلات، بدلاً من إجابات مقولبة يقدمها المخرج والكاتب في النهاية، فالمطلوب أن يرى كل متفرج القضية من منظوره الخاص وليس منظور المخرج. وما دون ذلك فالفيلم نجح فنياً بشكل كبير".

لقطة من الفيلم

إعادة الهيكلة

يحاول الفيلم تقديم إعادة هيكلة للحقائق التي رسخت في ذهن المصريين منذ أحداث ثورة يناير، وهي ليست بالمحاولة الأولى؛ فالتجربة السينمائية السابقة للمخرج كريم الشناوي في فيلم "اشتباك" الذي عمل فيه كمخرج منفذ، طرحت نفس الفكرة، وهي البعد الفلسفي لفكرة من يمتلك الحقيقة، وكأن تلك الموجة من الأفلام تحاول استعادة الأحداث وتقديم وجهة نظر مغايرة بعد أن هدأ جمر الثورة في قلوب أبنائها، وهي ذات الفكرة التي أيدّها الكاتب المصري عماد الدين حسين وناقشها مع "حفريات" قائلاً: "يطرح الفيلم فكرة فلسفية دون التحيز لأحد الأطراف، وهي أنّ الحقيقة ليست واقعاً بقدر ما هي قرار، فالجموع في الفيلم قررت الحقيقة التي تراها، وهكذا رسختها في أذهان العامة، دون أن يعي الجميع أنّ الحقيقة الكاملة، تكمن خلف عدة حواجز ولا أحد يستطيع الإمساك بها، حتى الطبيب الذي حارب لإثبات صحة موقفه، تراجع في النهاية لأجل مصلحة الجموع، بإقرار منه أن تلك هي الحقيقة التي قررتها الأغلبية".

يحاول فيلم "عيار ناري" تقديم إعادة هيكلة للحقائق التي رسخت في ذهن المصريين منذ أحداث ثورة يناير

تستمر الحبكة في إطارها المتماسك، من خلال ظهور الصحفية مها (روبي)، التي تنجرف خلف القضية من باب الطموح الصحفي، والتي تستشعر أنّ الأم والخطيبة هما من يملكان القصة الحقيقية. وعلى الرغم من أهمية دور الصحفية، إلّا أنّ نمطية الشخصية أفقدتها بريقها، وجعلت من دورها أداء للشخصية أكثر منه تجسيداً خلاقاً للدور، إذ تكوّن فريق عمل مع الطبيب الذي استخدمها لمساعدته في استعادة الحقيقة، بعد أن تم تكذيبه من الأجهزة الرسمية.

اقرأ أيضاً: العنف الديني في مصر... سنوات ما بعد يناير

تتبلور الأحداث في النهاية، من رابط رباعي بين علاء وأخيه وخطيبته وأمه، فالأسرة الشعبية الفقيرة وحدها هي من سيطر على أحداث الفيلم، وأثراه بالمزيد من التفاصيل، ليتراجع الطبيب والصحفية، في النهاية، عن إظهار أية حقائق غير ما قررته الجماعة، حفاظاً على صورة هذه العائلة المسكينة، الذي قتل فيها الأخ أخاه دفاعاً عن أمه التي ضربها القتيل من أجل رغبته في ملكية المنزل وحده، لأجل خطيبته التي حملت منه سفاحاً، فيبتعد الفيلم في ختامه كل البعد عن المساحة الثورية التي افترشها منذ البدء، مسدلاً الستار على الحقائق التي تتوه وسط تيار الزمن المنجرف، ورغبات الجموع الغفيرة.

الصفحة الرئيسية