هل العلمانية هي الحل؟ (3)

هل العلمانية هي الحل؟ (3)


21/02/2018

تتمثل الدولة العلمانية بمجموعة من الأسس على النحو الآتي:

أ- إنّ حقّ المواطنة هو الأساس في الانتماء، بمعنى أنّنا جميعاً ننتمي إلى مصر، بصفتنا مصريّين، مسلمين كنّا أم أقباطاً.

ب- إنّ الأساس في الحكم، الدستور الذي يساوي بين جميع المواطنين، ويكفل حرية العقيدة، دون محاذير أو قيود.

جـ- إنّ المصلحة العامة والخاصة هي أساس التشريع.

د- إنّ نظام الحكم مدنيّ، يستمدّ شرعيته من الدستور، ويسعى إلى تحقيق العدل من خلال تطبيق القانون، ويلتزم بميثاق حقوق الإنسان.

العلمانية ليست مجرد نصوص قانونية متفرقة، أو مواد دستورية متناثرة، إنّما هي روح تسري في المجتمع

التعريف الشامل من وجهه نظر معرفية وفلسفية:

"التفكير في النسبي، بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق"، هذا هو تعريف العلمانية للدكتور مراد وهبه، الذي جاء في معرض حديثه عن رسالة في التسامح، للمؤلف الإنجليزي جون لوك، الذي خلص إلى أنّ المعتقدات الدينية ليست قابلة للبرهنة، ولا لغير البرهنة، فهي إمّا أن يعتقد، ولهذا ليس في إمكان أحد أن يفرضها على أحد، ومن ثم يرفض لوك مبدأ الاضطهاد باسم الدين، ويترتب على ذلك تمييزه بين أمور الحكومة المدنية وأمور الدين، ويقرّر مراد وهبه أنّ هذا التمييز هو نتيجة للعلمانية، وليس سبباً لها؛ فالعلمانية نظرية في المعرفة وليست نظرية في السياسة، وهذا التعريف يتّفق، إلى حدّ كبير، مع تعريف آخر؛ هو أنّ "العلمانية محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية".

في مصر علمانيون بلا علمانية

بذل الباحثون المصريون جهداً كبيراً في محاولة تحديد البدايات الجنينية للعلمانية المصرية، وإثبات أنّ مصر قد عاشت مراحل علمانية متعددة، قبل الهجمة التتارية الأخيرة، التي نكتوي بنارها في الوقت الحالي، فبعض الآراء ترجع إرهاصات العلمانية الأولى إلى الحزب الوطني (1879 – 1882)، الذي قاد الثورة العرابية بهدف نقل السلطة من أيدي الأرستقراطية التركية الشركسية، إلى أيدي كبار الملّاك والتجار الوطنيين، وتستند هذه الآراء إلى البيان التأسيسي للحزب، الذي وضعه محمد عبده، والذي نصّ فيه على أنّ الحزب سياسي، وليس دينياً، وأنّ القاعدة في المواطنة هي، من يعيش على أرض مصر، ويستظلّ بسمائها، ويحرث أرضها، بصرف النظر عن الجنس والدين والعقيدة، ويمضى الرأي في تتبع العلمانية المصرية، ويقول: "إنّ الحياة الاجتماعية السياسية، ظلّت، بعد ذلك، تحت قيادة الفكر الليبرالي العلماني، إلى أن عجزت ليبرالية كبار الملّاك، فيما بعد الحرب العالمية الثانية، عن مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي كانت تطرحها ضرورات التطور المستقل، فسقطت الليبرالية العلمانية، لتحلّ محلّها راديكالية، لكن أيضاً علمانية تمثّلت في النظام الذي أفرزته حركة 23 يوليو 1952، بكلّ ما أقدمت عليه من إصلاحات اقتصادية واجتماعية وإدارية وتعليمية، كان مضمونها العلمي واضحاً تماماً.

إنّنا نملك بعض العلمانيين بلا علمانية وبلا تيار علماني حقيقي يسري في نخاع المجتمع ودمائه

وقد تمّ تدعيم بعض جوانب هذا الرأي، وملء فجواته، من جانب علمانيين كثيرين، بغرض إظهار أنّ هذه الصورة التي نعيشها الآن، إنّما هي ردّة عن واقع متسامح سابق، ولا يهمّ إن كان الفرق بين الماضى والحاضر، كميّاً أو كيفياً، أو إن كانت علمانية الماضي مجرد قشرة هزيلة لواقع مهترئ. أمّا عن علمانية الوفد؛ فقد أبرزوا دور سعد زغلول عند تشكيل أول وزارة مصرية بعد الاستقلال، وضمّه لخمسة وزراء أقباط، من بينهم وزير للعدل، واستعان د. فؤاد زكريا في كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، بما رواه الأستاذ إبراهيم فرج (جريدة الوفد عدد يوليو 1989)، عن كيف أعرب النحاس باشا للزعيم الهندي نهرو، خلال زيارة له عام 1954، عن أمله في أن تكون الجمهورية المصرية جمهورية علمانية"، وفرج فودة أيضاً أعلن أنّ النحاس رفض الدولة الدينية، ودعا للدولة العلمانية، وهو ما يصفه فرج فوده بأنّه إعلان ثابت، بشهادة مكتوبة لا يمكن إنكارها؛ لأنّها أتت من إبراهيم فرج، وهو من عرف باسم ابن النحاس.

أمّا عن المرحلة الناصرية؛ فقد عدّ البعض أنّ "لبّ المشروع الناصري، موضوعياً كان علمانياً، نتيجة لملابسات عديدة، ونتيجة لطبيعة المرحلة التي نشأ فيها المشروع".

وبعد هذه البراهين، التي استمدّت من خلال الأحزاب أو النظم السياسية، احتاج الأمر، أيضاً، إلى براهين أخرى، من خلال مفكّرين تعزى إليهم بدايات التفكير العلماني، أو تنسب إليهم مراحل عافيته وصعوده، أمثال: الطهطاوي، حين قال: "حبّ الوطن من الإيمان"، التي تناقضت مع مقولة عبد العزيز جاويش "لا وطنية في الإسلام"، أو مثل محمد عبده، كما ذكرنا في البداية، أو الشيخ علي عبد الرازق، حين أصدر كتابه "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925، أو طه حسين، حين أصدر كتابه في الشعر الجاهلي عام 1926، أو سلامة موسى، حين قال: "إنّ اختلاط الأديان بالسياسة، كان على الدّوام مصدر آلام وحروب، بينما السلم والرخاء كانا في ابتعاد الدين عن السياسة، وإنّ تعاليم الإسلام والمسيحية، تقرران أنّ الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه، وليس لأحد أن يجعل من نفسه رقيباً عليها"، أو المهاجرين الشوام، مثل: فرح أنطون، ويعقوب صروف، وأمين المعلوف، وجورجي زيدان.

ورغم هذا الجهد الذي بذله كثيرون؛ فإنّ كلّ هذه الإرهاصات المفترضة، لم تكن انقباضات مخاض ما قبل الولادة؛ بل كانت رعشات زفرات ما قبل طلوع الروح، وللأسف؛ الجنين الذي منحتنا إياه تلك المراحل، هو جنين مشوَّه الملامح، هلامي القسمات، وإذا كان الانتقاء التاريخي قد جمّل الصورة؛ فإنّ الانتقاء المضاد، هو الذي سيظهر دمامة وقبح بعض خطوطها وألوانها وظلالها، ولنتساءل: أين هي العلمانية من قول سعد زغلول عن كتاب الإسلام وأصول الحكم؟ "قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت ممّن طعن منهم في الإسلام حدّة كهذه الحدة، في التعبير على نحو ما كتب الشيخ على عبد الرازق، لقد عرفت أنّه جاهل بقواعد دينه؛ بل بالبسيط من نظرياته، وإلّا فكيف يدّعي أنّ الإسلام ليس مدنياً، وليس نظاماً يصلح للحكم (……)، وما قرار هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي من زمرتهم، إلّا قراراً صحيحاً لا عيب فيه، وأين هي العلمانية من قوله أيضاً عن طه حسين، أمام مظاهرة الأزهريين "هبّوا إنّ رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق، فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟".

أين هي العلمانية حين رمى عبد الناصر رموز اليسار المصري في غياهب السجون، ولم يخرجهم منها إلا بناء على تكتيك سياسي، وليس بناء على اتضاح للرؤية أو تغيير للإستراتيجية؟ أين هي عندما حافظ على خانة الديانة في البطاقة الشخصية، واتسعت في عصره كليات العلوم الدنيوية الأزهرية المقتصرة على المسلمين؟

إنّ العلمانية ليست مجرد نصوص قانونية متفرقة، أو مواد دستورية متناثرة، إنّما هي روح تسري في المجتمع، وهذا الخلط هو الذي جعل شهيد التنوير المصري، فرج فودة، يعدّ "الدولة التي نعيشها دولة علمانية المبنى والنظام"؛ لذلك أقصى الأماني لدى كثيرين، أن يظلّ الحال على ما هو عليه، في مقابل المستقبل المظلم الذي ينتظرنا على أيدي أصحاب الدولة الدينية؛ بمعنى (يلي نعرفه أحسن من يلي ما نعرفوش).

حقاً إنّنا نملك بعض العلمانيين بلا علمانية، بلا تيار حقيقي يسري في نخاع المجتمع، "فالعالم العربي الحديث لم يعرف العلمانية قط، كجزء من مشروع حضاري أشمل، إنّما عرفها حيناً كثقافة تنويرية أو كمجموعة من القوانين المنقولة عن الغرب".

أهم مشكلة تواجه العلمانية مشكلة الأفراد الذين لا يتجمعون إلا ليتفرّقوا وتطغى خلافاتهم الأيديولوجية على أي اتفاق

وهذه، في الحقيقة، هي أهم المشكلات التي تواجه العلمانية، مشكلة الأفراد، الجزر المنعزلة التي لا تتجمع إلا لتفترق، تطغى خلافاتهم الأيديولوجية، من اليسار واليمين، على اتفاقهم المبدئي، فيكونون هم أنفسهم حملة أكفان علمانيتهم، ثم تأتي المشكلة الثانية، وهي أنّ العلمانية المصرية، حتى الآن، لم تؤسّس مشروعاً، إنّما هي (REFLEX) وردود أفعال، كما نلمس عضلة الضفدعة، هكذا بقطب كهربائي فتنقبض.

هكذا كانت العلمانية، مقال ينشر فى جريدة فيرد العلمانيون، حدث يجري فى جامعة فيهب العلمانيون، وردود الأفعال هذه مطلوبة بالطبع وبشدة، لكن المفروض أن تكون أحد جوانب الصورة، لا أن تحتل كلّ الصورة؛ بل فى بعض الأحيان، الإطار أيضاً.

وحين نرفع شعار "العلمانية هي الحل"، لا بدّ من أن ندفع ثمن هذا الشعار، كما دفعه الغرب منذ القرون، جهداً ودماء، فالعلمانية لا تقدم على طبق من ذهب، أو تهبط هبة من السماء، وأعتقد أنّنا ندفع الثمن حالياً، فإمّا أن نشتري المستقبل، أو نقع غرقى ديون الماضي، إلى أبد الآبدين.

الصفحة الرئيسية