هل انقضت الحاجة إلى الأمثال في الثقافة العربية؟

هل انقضت الحاجة إلى الأمثال في الثقافة العربية؟


26/08/2021

بكثير من الأسف ما زلنا نسمع ونقرأ لبعض التفكيكيين العدميين، كلاماً مؤدّاه أنّ هناك حاجة ماسة لإحداث قطع تام مع الموروث القديم، وخاصة ما تعلق منه بظروف زمانية ومكانية محددة، بدعوى أنّ ما صلح لقرون سالفة لم يعد صالحاً لقرننا هذا. وهي أطروحة باطلة يراد بها باطل؛ لأن الموروث قابل للتطوير والإثراء بالحذف والإضافة، إذا صادف عقولاً ديناميكية نيّرة، ولكن أنّى لتفكيكي عدمي أن يدرك حقيقة أنّ كل ما نشهده الآن من تشرذم على كل الصعد، ليس إلا دليلاً على القصور عن فهم وتفهّم الموروث على نحو جدلي وخلاّق. ونظراً لأن منظومة الأمثال العربية قد مثّلت هدفاً متكرّراً للقائلين بانقضاء الحاجة إلى السرديات القديمة، فيسعدني أن أعضدها بهذه المرافعة.   

 

الموروث قابل للتطوير والإثراء بالحذف والإضافة، إذا صادف عقولاً ديناميكية نيّرة

 

 تُعدّ الأمثال من أبرز قوانين المرور في الأنثروبولوجيا الثقافية العربية؛ فمن لم يقف عليها ولم يلمّ بمعانيها ودلالاتها ومراميها، حكم على نفسه بالحرمان من ولوج منطقة تمثّل الذروة العليا في المدوّنة العربية القديمة. وإذا كان من نافلة الحديث القول بأنّ كبار علماء الأنثروبولوجيا الثقافية العربية، قد أفردوا أدب الأمثال بالتأليف والتصنيف، مثل العسكري والزمخشري والميداني الذي بلغ بها ستة آلاف مَثَل في "مجمع الأمثال"، فإنّ من الضرورة بمكان أيضاً ملاحظة أنّ المثل يُعدّ المتن الراسخ، فيما أنّ شرحه مهما طال واتسع يُعدّ الهامش الذي لا يدّخر منشؤه وسعاً للارتقاء به إلى مستوى المتن الذي يظل متناً رغم قِصَره وعفويته ومخالفته للقاعدة اللغوية أحياناً، بل رغم اعتباطيته الشديدة في أحيان أخرى. إنّ المثل بهذا المعنى، يمثل سلطة تصل حد سطوة القانون ونفوذ الحقيقة، وإلى الحد الذي يمكن الاكتفاء به لإفحام الخصم وإرداء مَنْطقه بالضربة القاضية؛ لأنه يسبح في أزمان عديدة: زمن قوله وزمن تفعيله وزمن روايته وزمن تدوينه وزمن قراءته الذي ما زال يمتد حتى الآن.

 ومن الأمثال المركزية الفاصلة والحاسمة في الثقافة العربية، المثل الذي نصّه : (لا في العِير ولا في النّفير) الذي لم يدّخر الميداني وسعاً لشرحه والارتقاء بشرحه له إلى مستواه التاريخي والإيديولوجي والبلاغي، من خلال المسارعة إلى التوظيف المباشر لسلطة المفضل الضبي الذي قطع بأنّ أبا سفيان بن حرب هو قائل المثل، ثم شرع في سرد قصته التي تتلخص بأنّ أبا سفيان وهو عائد من الشام بقافلة قريش، أحس بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يتربّص مع أصحابه بالقافلة، فأرسل إلى قريش يستنفرها. ولما نجح في تأمين القافلة بعيداً عن المجال الحيوي لخطورة المسلمين، أرسل يطلب من قريش الرجوع إلى مكة، فأبت إلا المِضيّ لمواجهة الرسول وأصحابه باستثناء بني زهرة الذين صادفهم أبو سفيان في الطريق فبادرهم قائلاً: لا في العير ولا في النفير؟! ومن المعلوم أنّ الغلبة بعد ذلك قد كانت للمسلمين في بدر.

 لا يدّخر الميداني وسعاً أيضاً، لتعزيز سلطة المفضّل بسلطة الأصمعي، الذي يتولّى بدوره مهمة تحديد معنى ودلالة المثل، فيؤكد أنه يُضرب للحطّ من شأن الرجل وتصغير قدْره. ثم يشرع في سرد قصة استمرارية فاعليته في العصر الأموي؛ حيث عمد خالد بن يزيد إلى توبيخ الخليفة عبدالملك بن مروان حينما قال له: اسكت يا خالد فوالله ما تُعدّ في العير ولا في النفير! بأن همس له: ويحك ؛ من في العير والنفير غيري؟ جدي أبو سفيان صاحب العير وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير!

 لقد اشتملت القصتان المرويتان بلساني الضبي والأصمعي، على كل عناصر السرد مثل: الحدث والشخوص والحوار والمكان والزمان، فضلاً عن أنّ القصة الثانية اشتملت  على حجاج سياسي خطير جداً، ناهيك بأنها تؤكد وتستحضر عناصر السلطة التي كان الأمويون يتمتعون بها في الجاهلية، وهي العير والنفير أو (رأس المال والقوة العسكرية).

 

إذا كان لمَثَل واحد فقط كل هذه الدلالات التاريخية والإيديولوجية والبلاغية، فما بالك بالأمثال مجتمعة؟

 

 ويزخر متن هذا المثل الذي يُعد شاهداً على نهايات العصر الجاهلي وبدايات العصر الإسلامي، بالملامح البلاغية الشاهقة؛ فهو على سبيل المثال يقوم على التقابل والتقسيم الصوتي المتوازن (لا في العير _ ولا في النفير)، كما ينطوي على تأكيد عنصري القوة اللذين كان الأمويون يملكونهما عبر استخدام أداة النفي "لا". ناهيك بالسجع العفوي في (العير والنفير) وحرف الراء الذي أفاد معنى الحسم. وأما الواو التي فصلت بين رأس المال والقوة العسكرية فهي ليست مجرد حرف عطف فقط، بل حلقة وصل تظهر التكامل بين أدوات الإنتاج وقوى الإنتاج. وأما حرف الجر "في" فقد أفاد الاستغراق والملكية التامة.

إن ما تقدم لا يعدو كونه مقاربة خاطفة لمَثَل واحد فقط؛ أي إنه ليس أكثر من معاينة عجلى لغيض من فيض فعلاً. فإذا كان لمَثَل واحد فقط كل هذه الدلالات التاريخية والإيديولوجية والبلاغية، فما بالك بالأمثال مجتمعة؟ إنه سؤال نتعمّد الإبقاء على جوابه معلّقاً؛ أملاً بأن يبادر بعض التفكيكيين العدميين لحكّ عقولهم!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية