هل تبدلت مواقف محمد عمارة الفكرية وفقاً لتغيّر مواقفه السياسية؟

هل تبدلت مواقف محمد عمارة الفكرية وفقاً لتغيّر مواقفه السياسية؟


17/03/2020

هل تندرج "الخلافة الإسلامية" في فكر الدكتور محمد عمارة تحت الممارسات السياسية المتغيّرة أم القضايا الدينية الأصولية الثابتة؟ هل أثّرت الأيديولوجيا في فكر عمارة، فأنتج المعرفة ولوّنها تبعاً لتغيّر مواقفه السياسية أم لا؟

انطلق الدكتور محمد عمارة، في سبعينيات القرن الماضي، من دراسة الفكر الاعتزالي؛ فكانت رسالته لنيل الماجستير عام ١٩٧٠ عن المعتزلة "أهل التوحيد والعدل" ومشكلة الحرية الإنسانية، وجعل أطروحته في الدكتوراه عام ١٩٧٥ حول نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة، وانشغل بعدها بجمع الأعمال الكاملة لأعلام النهضة من الإصلاحيين أمثال؛ رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، وصولاً إلى الشيخ علي عبد الرازق، معلناً من خلال تحقيقه لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" عن موقفه من قضية "الخلافة الإسلامية"؛ إذ وضع آراء عبد الرازق المُنكرة لدينية الخلافة، ضمن الفكر الإصلاحي الذي بدأه محمد عبده، ووصفه بأنّه "امتداد متطور للشيخ محمد عبده في الإصلاح الديني، بل إنّ آراءه في موضوع الخلافة قد كانت في عدد من نقاطها الجوهرية، وليس في كلّها؛ تفصيلاً وتطويراً وبلورة لآراء الأستاذ الإمام في ذات الموضوع".(1)

انطلق عمارة في السبعينيات من دراسة الفكر الاعتزالي؛ فكانت رسالته لنيل الماجستير عن المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية

ورأى عمارة أنّ تديين قضية الخلافة لا يعدو كونه موقفاً سياسياً غير مقنع؛ مستدلاً بدليلٍ وصفه بأنّه "لا يقبل النقض أو الجدال؛ وهو أنّ الأزهر نفسه عاد بعد أعوام، وألغى موقفه السابق من علي عبد الرازق، وأعاده إلى زمرة العلماء، وذلك عندما زالت الظّروف السياسية التي دفعت إلى اتّخاذ الموقف الأول، ولو كانت المسألة دينية لما حدث ذلك، إذ إنّ الإسلام هو الإسلام، والدّين هو الدّين، ولا فرق بينه في عهد الملك فؤاد وبينه في عهد الملك فاروق".(2)

اقرأ أيضاً: محمد عمارة في محطته الاعتقادية الأخيرة

واحتفاءً من الدكتور عمارة بموقف عبد الرازق الفكري؛ أعاد نشر الكتاب مرتين؛ الأولى عام ١٩٧١ بمجلة الطليعة القاهرية، والثانية عام ١٩٧٢ في المؤسسة العربية للدراسات والنشر بلبنان، مُشيراً في مقدمة تحقيقه للكتاب إلى أنّ هدفه "أن نصل الحاضر الذي نعيشه والمستقبل المأمول بأكثر هذه الصفات إشراقاً وأعظمها غنى، ونتعلم الشيء الكثير من شجاعة هؤلاء الذين اجتهدوا، وقالوا ما يعتقدون، صواباً كان ما قالوه أم خطأ، دونما رهبة من (الذات المصونة) التي تربعت على العرش في بلادنا قبل تموز عام ١٩٥٢م".(3)

عندما تسيطر الأيديولوجيا على الباحث لا يُقدّم ببحثه مقاربات للحقيقة، وإنّما يُوظّف الأفكار لخدمة مواقف سياسية مُسبقة

ورأى عمارة أنّ ما اشتمل عليه الكتاب من نِقاط ضعف لا تقدح في قيمته وأهميته كعمل فكري، حيث "كان الكتاب شديد الفعالية، وأدّى دوره كاملاً، كما كان صاحبه حادّ البصيرة في رؤية اتجاه حركة التطوّر والتاريخ، تلك الحركة التي جاءت مِصداقاً لما أراد، رغم ما وُجّه إليه ووُجّه به من اتهامات وعقوبات".(4)

وفي التسعينيات؛ مسح الدكتور عمارة ما سبق وسطّره في السبعينيات في قضية الخلافة؛ ففي 7 مقالات نشرتها جريدة "الشعب"، لسان حال حزب العمل الإسلامي، بدءاً من ١١ كانون الثاني (يناير) ١٩٩٤ إلى ١ شباط (فبراير) ١٩٩٤، بلغة وعظية رنانة؛ اتّهم عمارة أفكار الشيخ على عبد الرازق حول الخلافة بالهرطقة، وأخذ يسوق بعض القرائن التي تُشير إلى أنّ الكتاب لطه حسين أو أحد المستشرقين وليس لعبد الرازق، وهذا ما ردّ عليه أكثر من باحث لتفنيد تلك القرائن(5).

رأى عمارة أنّ الصراع بين الإسلام متمثلاً في الإسلاميين وبين الغرب الصليبي متمثلاً في معارضي الإسلاميين من المسلمين

ومن الجدير بالذكر أنّ تهمة التفكير في كون الخلافة ممارسة سياسية وليست دينية، التي برأ منها الدكتور عمارة الشيخ على عبد الرازق ونسبها إلى الدكتور طه حسين، عاد عمارة مرة أخرى وبرّأ منها الدكتور طه حسين هو الآخر، فنقل عمّن وصفهم بالثقات؛ أنّ عبد الرازق أسرّ لهم بتراجعه عن موقفه من قضية الخلافة (قال مثل ذلك عن طه حسين)، وكأنهما باجتهادهما الفكري كانا على معصية وتابا عنها، وبرحيلهما كفّن الدكتور عمارة الفكرة، وأوصى بحفظ التحقيق فيها، وكأنها شكوك انتابت أصحابها، وليست دراسات تفكيكية لفكرة أصولية هي لبّ خطاب "جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين" والدافع لهدم الدول وقتل المئات.

اقرأ أيضاً: "الخلافة والملك" للمودودي: تجميل أزمة تداول السلطة

أخذ الدكتور عمارة يحطب في حبل الجماعات تماماً؛ فصارت الدعوة للخلافة ديناً واجباً وليست سياسة متغيّرة، فالخلافة هي الفردوس المفقود، كما تُروّج الجماعات في معاداتها للدولة القُطرية وسعيها لاسترداد الخلافة المثالية من منظورها ومسلكها في تصنيف "أنا" أو "الشيطان"، فشيطنوا من يُخالفهم في فهمهم للإسلام واتهموه بأنّه جزء من مشروع علماني غربي للنّيل من الفكر الإسلامي الذي يُقدمونه، ليس بوصفه تصوراً حول الدين ولكن بوصفه هو الدّين نفسه، فلم يعد، من منظور عمارة، الجدل الذي نشأ حول الكتاب، وليد صراع سياسي سببه سعي الملك فؤاد لأن يتربع على عرش الخلافة خلفاً للسلطان العثماني بمساندة ومباركة الإنجليز، وإنما سببه الصراع بين الإسلام، متمثلاً في الإسلاميين، وبين الغرب الصليبي، متمثلاً في معارضي الإسلاميين من المسلمين الذين يراهم عمارة متأثرين بالغرب.

تغيّرَ موقف الدكتور عمارة الفكري عدة مرات تبعاً لتغيّر موقفه السياسي، حيث مارس نوعاً من التوجيه الأيديولوجي

وفي كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤؛ مسح الدكتور عمارة ما سبق وسطّره في التسعينيات حول الخلافة؛ ففي بحثه الذي شارك به في مؤتمر "الأزهر في مواجهة الإرهاب والتطرف"؛ رأى أنّ الخلافة الإسلامية ليست نظاماً مُلزماً، وكلّ ما ارتضاه النّاس من أنظمة حكم معاصرة يُلزم النّاس الإذعان لها كالخلافة، وأنّ ما تقوم به بعض الجماعات التي وصفها بالمتشدّدة من تكوين دولة باسم "الخلافة" وتنصيب أحدهم أميراً عليها، لا علاقة له بالإسلام. (6)

هكذا تغيّرَ موقف الدكتور عمارة الفكري عدة مرات تبعاً لتغيّر موقفه السياسي، حيث مارس نوعاً من التوجيه الأيديولوجي، تلك السمة السائدة في ثقافتنا الإسلامية؛ فآليات القراءة التي اتبعها عمارة في تلك القضية الفكرية، وإن تظاهرت بمظهر "الموضوعية" لإخفاء طابعها الأيديولوجي النفعي، إلّا أنّها وقعت في أسر ضيق النظر والتحيّز غير المشروع؛ فطرحت بعض الأسئلة وأضمرت بعضها، ما أدى إلى ازدواج آلياتها وتناقضها، منتجة على المستوى الجزئي ومتحيّزة أيديولوجياً على المستوى الكلي العام؛ فعندما تسيطر الأيديولوجيا على الباحث لا يُقدّم ببحثه مقاربات للحقيقة، وإنّما يُوظّف الأفكار لخدمة مواقف سياسية مُسبّقة.

_______

(1) على عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، تحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٨٨، ص٣٣.
(2)  السابق، ص٤١.
(3) السابق، المقدمة.
(4) السابق، ص٤٢.
(5) الخطاب والتأويل، ص١٠٥:٩٢.
(6) يُنظر: د. محمد عمارة، بحث الخلافة الإسلامية، ص٢٦: ٣٠ كتاب مؤتمر الأزهر حول الإرهاب ٢٠١٤م.

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية