هل تتخلص الهند من إرث التجريف الاستعماري وتهزم الفقر والطبقية؟

الهند

هل تتخلص الهند من إرث التجريف الاستعماري وتهزم الفقر والطبقية؟


12/05/2020

رغم أنّها تضمّ أكبر نسبة من الفقراء في العالم، مقارنة بحجم سكانها الهائل، إلّا أنّ شبه القارة الهندية، التي نُهبت لصالح الإمبراطورية البريطانية، أصبحت حديث الإعلام العالمي؛ لما تحرزه من تقدّم في الحدّ من الفقر، بيد أنّ تلك النسب المرتفعة من معدلات التنمية، لم تشفِ بعد الجراح الاجتماعية والاقتصادية التي خلّفها الاستعمار.

البراغماتية البريطانية
كانت الإمبراطورية البريطانية الأكثر براغماتية بين سواها من الأوروبيين، وبسبب تلك البراغماتية، تمّت عملية النهب لشبه القارة الهندية، دون أن يمسّ الاستعمار الروح الشعبية والثقافية للهنود، كما فعل الفرنسيون في مستعمراتهم الأفريقية.

في عملية النهب لشبه القارة الهندية، لم يمسّ الاستعمار الروح الشعبية والثقافية للهنود بخلاف ما فعل الفرنسيون في مستعمراتهم

ويقدّم كتاب "التأثير الاقتصادي والاجتماعي للحكم الاستعماري في الهند"، للاقتصادي الإنجليزي، إنجوس ماديسون، توطئة لمدى التجريف الذي عملت على صناعته بريطانيا في الهند؛ إذ دفعت سياسة السوق الحرة بريطانيا إلى التفكير في أنّ الهند بإمكانها أن تصبح سوقاً عالمياً يتحول إلى دولة كبرى، إضافة إلى أنّ السيطرة على الهند كانت عنصراً أساسياً في هيكل القوة العالمية، من حيث الجغرافيا واللوجيستيات والقوى العاملة العسكرية، ويشرح ماديسون كيف أعلنت بريطانيا عن رغبتها في تطوير الهند، إلّا أنّها لم تكن صادقة بشأن ذلك، فقد رفضت المساعدة، خاصة في الأماكن التي استشعر البريطانيون فيها أنّ مساعدتهم تتعارض مع مصالحهم الاقتصادية، كما رفضوا منح الحماية لصناعة الغزل والنسيج الهندي حتى تحول منافسها الرئيس إلى اليابان، بدلاً من مانشستر، ولم يفعلوا شيئاً تقريباً لمواصلة تطوير عملية التعليم التقني.

كان أكبر تغيير قام به البريطانيون في الهيكل الاجتماعي هو استبدال أمير الحرب، ممثل الطبقة الأرستقراطية من قبل البيروقراطية والجيش، ويشرح ماديسون كيف كانت السياسة قصيرة الأجل ضارة بالقدرة الإنتاجية للاقتصاد، ما دفع السكان المحليين إلى التمرد، وكانت شركة الهند الشرقية وإدارتها هي الحاكم الفعليّ للبلاد، بداية من عام 1806 قامت الشركة بتدريب مجنديها الشباب في كلية هيليبيري، بالقرب من لندن؛ إذ كانت التعيينات ما تزال مقتصرة على نظام المحسوبية، ولكن بعد عام 1833 اختارت الشركة الأفضل من بين المرشحين عن طريق الامتحان التنافسي، حتى عام 1853؛ إذ أصبح الاختيار بالكامل مبنيّ على الجدارة ونتائج الامتحان، بدأ الإنجليز نظام الفحص تأثراً بالنموذج الصيني، الذي كان يعمل بشكل جيد لمدة ألفي عام، وكان لها الشكل نفسه من المواصفات المطلوبة، التركيز على التعلم الكلاسيكي والكفاءة الأدبية، وعام 1829؛ تمّ تعزيز هذا النظام من خلال إنشاء مناطق في جميع أنحاء الهند البريطانية، تكون صغيرة بما يكفي ليتم التحكم فيها بشكل فعّال من قبل مسؤول بريطاني فردي يمارس من ذاك الوقت، فصاعداً سلطة استبدادية بالكامل؛ حيث تعمل في جباية الدخل، وتمسك بزمام مؤسَّستي القضاء والجيش، ورئاسة الشرطة، حتى أصبح هذا الترتيب في وقت لاحق حجر الزاوية للإدارة الإمبراطورية في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية.
صدمة الاستعمار
عندما حصلت الهند على استقلالها من بريطانيا، في 15 آب (أغسطس) 1947، كانت غالبية الأنجلو-هنود إما غادرت بالفعل، أو هاجرت بعد فترة وجيزة من الاحتلال، ويتحدث كثيرون في الخدمة المدنية الهندية عن الصدمة التي عانوا منها أثناء مشاهدة أعمال العنف التي اندلعت في الأعوام التي سبقت نهاية الحكم البريطاني وحمام الدم الذي سيتبع ذلك، خاصة عندما تمّ الكشف عن خطوط التقسيم التي ستخضع لها البلاد؛ إذ كان الإستعمار بالتأكيد تجربة أكثر صدمة بالنسبة للمواطنين المستعمَرين من المستعمِرين، لقد عانوا من الفقر وسوء التغذية والمرض، والاضطرابات الثقافية والاستغلال الاقتصادي والقمع السياسي والبرامج المنهجية التي تهدف إلى خلق شعور بالنقص الاجتماعي والعرقي، وذلك بحسب الباحث الإنجليزي في علم الاتصال السياسي، كولين ألكسندر، الذي يوضح الفصام الاقتصادي والاجتماعي الذي أحدثه الاحتلال البريطاني للهند، من خلال دراسة بعنوان "صدمة الاستعمار"، والتي تصف كيف عانى المجتمع الهندي من الغرق في الأفيون والكحول والمخدرات، التي قُدمت له من المحتل الإنجليزي، فهرب بها من واقعه الأليم.

تشهد الهند في القرن الحادي والعشرين نمواً اقتصادياً ملحوظاً على الصعيد العالمي، وطفرة على مستوى التعليم والرعاية الصحية

حتى أقنع البعض أنفسهم بالتفوق الفكري للرجل الأبيض، وحقّه في الحكم على "أعراق أقل"، بينما وجد عدد منهم العزاء في المسيحية، جاء العديد منهم ليروا دورهم كحارس سلام بين مختلف الجماعات العرقية والدينية، وذلك رغم المفارقة التي أثارها البريطانيون في تشجيع واستغلال تصنيف الموضوعات الاستعمارية على هذه الأسس العرقية في المقام الأول، ويقدم الباحث في معهد آدم سميث بلندن، تيم ورستول، أطروحة أكثر عمقاً لتأثير الاحتلال، نشرتها مجلة "فوربس"، عام 2017، جاءت هذه الأطروحة رداً على تعليقات بعض الساسة الإنجليز، الذين يدعون أنّ الاحتلال البريطاني ترك الهند أكثر ثراءً مما دخلها، ليردّ ورستول مستهزئاً بمثل هذا الخطاب العاري من الصحة، موضحاً أنّ الزيادة الوحيدة التي حققتها الهند بفضل الإنجليز هي الزيادة السكانية، فالثنائية التي شكلتها الهند مع الصين، قبل الثورة الصناعية، والتي جعلت منهما قوة جبارة تنتج ما يقرب من 75% من الناتج الصناعي العالمي، حتى عام 1750، باتت أكثر الأمم تخلفاً ومرضاً وجهلاً يوم استقلالها، عام 1947.

شاهي ثارور

وهم التحرّر
عام 2016؛ نشر السياسي الهندي المقيم في بريطانيا وعضو البرلمان منذ عام 2009، والبالغ من العمر 63 عاماً، شاشي ثارور، كتابه قبل الأخير "عصر الظلام: الإمبراطورية البريطانية في الهند"، يحاول ثارور من خلال 333 صفحة، وهي محتوى الكتاب، رسم صورة حقيقية واقعية لما فعلته الإمبراطورية البريطانية بحقّ بلاده، وسبر أغوار أكاذيب الساسة الإنجليز، الذين يحاولون تصوير هذا الاستعمار كأنّه إسداء خدمة للهنود، وهو في حقيقته ليس إلّا درب من دروب النهب، لدولة لم يعرف مواطنوها الفقر، بحسب كلام المؤلف، والذي تحدثّ عن الفصل الطبقي والطائفي، الذي لم تعرفه الهند إلّا بقدوم الإنجليز، الذين قادوا حملة من الفصل العرقي والطبقي لتحقيق مصالحهم الاستعمارية، كما تحدثّ عن المشاكل بين الهندوس والمسلمين، موضحاً كيف افتعلها المحتل، ليفرق المقاومة ويحدّ من تضافر جهودها، وفي مؤتمر صحفي عقد لمناقشة الكتاب، أوضح ثارور أنّ ما يقدمه الكتاب، هو رسالة تاريخية لشباب القرن الحادي والعشرين، حتى لا ينسوا من الذي أفقرهم، ونهب ثرواتهم، وأضاع مستقبلهم وطمس ماضيهم، ليعرفوا من هو العدو الحقيقي.

وفي إطار الحديث عن الفصل الطبقي، والذي تشكّل الهند أحد أقبح صوره في العالم أجمع، يتحدث ثارور عن أنّ بلاده لم تعرف هذا الشكل من الفصل الاجتماعي قبل الاحتلال، كان هذا الرأي مطابقاً لكلام أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، الدكتورة محيا زيتون، في حديثها لـ "حفريات": "سافرت إلى الهند في ستينيات القرن الماضي، وشاهدت بنفسي أحد أبشع أشكال الفقر في العالم، والتقسيم الطبقي للمنبوذين والأرستقراطيين، لكن بالرجوع إلى التاريخ الحقيقي للمجتمع الهندي، فإنّ ما كان من فصل طبقي بعد الاستعمار، وهو مستمر حتى اليوم، لم يكن عادة أصيلة في الهند، إنّما هو استحداث لقتل أيّة نزعات تمرد، ووأد أيّة محاولة ثورية لقوات مقاومة ضدّ الاستعمار، لقد شكّلت الهند والصين الكبرى قبل تفتتها، نمطاً هائلاً من الإنتاج، كادت أن تكون به الحاكم الفعلي للعالم، لكنّ هذا النمط لم يعجب الأوروبيين، الذين جابوا الأرض استعماراً لخيرات شعوب أخرى، ويمكننا القول: إنّ دولة الرفاه التي يعيشها المواطن الحالي في أوروبا، ليست إلّا ثروات المستعمرات التي جرفتها الإمبراطوريات السالفة".

اقرأ أيضاً: قانون المواطنة الجديد.. هل تشهد الهند ظهور نظام للفصل العنصري؟
تشهد الهند في القرن الحادي والعشرين نمواً اقتصادياً ملحوظاً على الصعيد العالمي، وطفرة على مستوى التعليم والرعاية الصحية، يزعم بعض الاقتصاديين أنّ استمرار هذه الطفرة بالوتيرة نفسها، ربما هو الطريق الأمثل للتخلص من إرث الفقر والطبقية والطائفية، الذي جذّرته بريطانيا في أقدم مستعمراتها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية