هل ترتبط الذائقة الفردية بالذوق العام؟

هل ترتبط الذائقة الفردية بالذوق العام؟


20/09/2021

الذائقة؛ اسم آخر للذوق وهو اسم مستحدث، كالفاهمة أي قدرة الفرد على الفهم؛ تتعلق الذائقة بجملة من المبادئ والمعايير والقيم والميول والتفضيلات الذاتية، بل الشخصية الخالصة، التي تجعلنا نحب أشياء، وننفر من أشياء أخرى، ونستمتع بأشياء، ولا نستمتع بأشياء أخرى، ونحكم على أشياء بأنها جميلة وعلى أشياء أخرى بأنها أقل جمالاً، أو بأنها قبيحة، وعلى أطعمة وأشربة بأنها لذيذة وعلى أخرى بأنها أقل لذة... كأن معنى الذائقة يدور على الحب والمتعة واللذة وعلى الحكم الجمالي أو الذوقي، وهذه ثلاثة أمور شخصية، تختلف من شخص إلى آخر أو أخرى (الشخص ذكر وأنثى)؛ لذلك تعد الذائقة دليلاً قاطعاً على استقلال الفرد وحريته، من حيث المبدأ (والفرد ذكر وأنثى أيضاً).

 

الذائقة الفردية وثيقة الصلة بالمعرفة الفردية والشخصية وتنمو باطراد بنمو المعرفة لدى الفرد

ومن البديهي أنّ الذائقة الفردية وثيقة الصلة بالمعرفة الفردية والشخصية، وتنمو باطراد بنمو المعرفة لدى الفرد (أنثى وذكر)، فهي؛ أي الذائقة ملكة من ملكات العقل ترتبط بالقدرة على التمييز بين الجمال والقبح، ومن ثم بين الخير والشر، وبين النافع والضار. وتكون الذائقة بصرية وسمعية ولفظية، أدبية وفنية بصورة خاصة، ومن ثم، قد تتحكم الذائقة في سلوك الفرد فتصير مثل العلامة الفارقة، التي تميزه عن غيره من الأفراد. نحن، بنات المجتمع التقليدي، البطركي، والذكوري، نختار لأولادنا وبناتنا ثيابهم/ـن ونختار ألوانها، بما يناسب ذوقنا ورأينا في ما يصلح للإناث وما يصلح للذكور، ونشتري لهم/ـن الألعاب التي نحبها نحن، ونفرض عليهم/ـن الأطعمة والأشربة، التي نحبها نحن، ونشتري لهم القصص والكتب التي نحبها نحن .. ما يعني أنّ للسلطة، التي تبدأ بسلطتنا على أولادنا وبناتنا، نفوذاً لا يقيد حرية التفكير والتعبير فقط، بل يقيد الميول والاتجاهات وإمكانية التمتع والتلذذ وحرية الاختيار.

اقرأ أيضاً: هل نحن بخير حقاً؟

الذائقة ترتبط بالأخلاق مثلما ترتبط بالمعرفة، فالنفور من الأعمال القبيحة والأقوال الرديئة والعادات الرديئة علامة على عذوبة الشخصية رهافة الذوق وسمو الأخلاق ورقي المعرفة، في الوقت نفسه. الذوق والمعرفة والأخلاق ثلاث دوائر متقاطعة؛ المساحات المشتركة بين هذه الدوائر لا تشكل شخصية الفرد فقط، بل تشكل الآداب العامة أو الأخلاق العامة والوعي الاجتماعي  والوعي الجمالي، وهذه ثلاثة أمور تميز أي جماعة من الجماعات وأي شعب من الشعوب. كل من له/ـا نصيب من المعرفة له نصيب مقابل من الذوق والأخلاق، أي كما تكون معرفتنا تكون أخلاقنا وأذواقنا.

 

الذوق والمعرفة والأخلاق ثلاث دوائر متقاطعة المساحات المشتركة بينها تشكل الآداب العامة

الذائقة الفردية تؤسس الذوق العام، وهو بدوره؛ أي الذوق العام يستقل بذاته عن الأفراد، ليصبح نظاماً عاماً مؤسَساً على ما هو مشترك بين الأفراد من قيم جمالية كالآداب العامة للمجتمع، كما أنه يعيد إنتاج الذائقة الفردية لتصبح مستقلة بذاتها أيضاً، وقد يصبح الذوق العام جزءاً من الثقافة الاجتماعية، أو العادة التي تتشكل حسب فاهمة المجتمع وإدراكه وشروط وجوده، وتختلف تلك الفاهمة من مجتمع إلى آخر، ومن المجتمعات الصغيرة إلى المجتمعات الكبيرة؛ أي من مجتمع الريف إلى مجتمع المدينة؛ فالآداب العامة في الريف تكون أشد صرامة منها في المدينة، وتكون في الثانية أكثر حداثة ومدنية من الأولى.

تلعب التربية الجمالية دوراً كبيراً في نمو ذائقة الفرد، ونمو حريته وقدرته على الإبداع، وبناء شخصيته. فما يميز الذائقة بأنها فردية؛ هو ارتباطها بموضوع فرديّ بحت، يخص الفرد بذاته، كالذائقة الفنية والأدبية، أو ذائقة القراءة أو الكتابة، فيضع الفرد جزءاً من ذاته في الموضوع المحدد، فيصبح الموضوع مرتبطاً ارتباطاً تاماً بالذات الفردية، وقد تحدد ملامح شخصية الفرد لتصبح هوية فردية، فلان فنان سرياليّ، وفلانة كاتبة اجتماعية، على سبيل المثال.

 

تلعب التربية الجمالية دوراً كبيراً في نمو ذائقة الفرد وحريته وقدرته على الإبداع

وتساهم الذائقة الفردية في تخلص الفرد من العنف والتعصب والعشوائية؛ أي إنها تنتج حالة من الانضباط الفردي، يتماشى مع القوانين الناظمة للمجتمع، ونقول القوانين الناظمة المرتبطة بالأخلاق العامة في الحياة، وليست القوانين أو الأعراف السائدة والمتوارثة التي تحدد النظام الاجتماعي السلطوي، والتي تحدّ من النماء الجمالي ومن حرية الفرد الشخصية، هذا النماء الذي يؤسس الذوق العام المشترك، يجب أن يتجلى في حياة المجتمع ككل بالجمال والتطور والانفتاح على الثقافات الجمالية الأخرى، لكن السلطات السياسية والدينية والاجتماعية القائمة بذاتها على أرض الواقع  تحصر جميع وسائل الإبداع والجمال في قبضتها، مثلما يحصل في سوريا وغير مكان من المجتمعات الشبيهة بها، فيضعف الشعور المرتبط بالذائقة الفردية ويتلاشى الجمال ليصبح ذوقاً جمعياً لا يتخطى حدود القوانين السلطوية، حتى في الانتماء الوطني والهوية الوطنية، وعلاقة الأفراد بالقانون والعدالة والمساواة.

اقرأ أيضاً: كيف اكتسب الاستبداد خبرة تصنيع غريزة الخوف؟

فالعلاقة المباشرة بين القانون وأفراد المجتمعات المتقدمة علاقة تصالحية، لذلك نرى الذائقة الفردية تتجلى في الذوق العام عند تلك المجتمعات بوضوح في تطبيق القانون وعدم الإخلال به، ويرتبط ذلك بالنظام السياسي القائم على العدالة في تطبيق القانون، وعلى دعم المناهج التعليمية للتربية الجمالية والأخلاقية التي تنمّي الذائقة الفردية لتنسجم مع الذوق العام، فالحديقة ليست ملكاً للنظام السياسي، إنما هي ملك للمجتمع الذي يضم السياسيين والقانونيين وأجهزة الأمن وعمّال النظافة، والآداب العامة المقوننة بقانون مؤسساتي لا تسمح بقطف الزهور من تلك الحديقة، أو رمي الأوساخ في الشارع العام، على عكس ما يحصل في بعض المجتمعات الخاضعة للاستبداد، فتكون ردة الفعل عند الأفراد تخريب المؤسسات الحكومية رداً على الظلم لقناعتها أنّها ملك للسلطة السياسية، التي تملك كل شيء. إنّ ما يجري في سوريا وغيرها من البلدان المنكوبة بأوطانها يؤكد التلازم بين التصحر المعرفي والانحطاط الأخلاقي وتردي الذوق العام.

 

السلطة التي نمارسها في أسرنا بقصد أو بغير قصد تغرس مبادئ السلطة المستبدة القائمة

السلطة، التي نمارسها في أسرنا، بقصد أو بغير قصد، بوعي أو بغير وعي، تغرس مبادئ السلطة المستبدة القائمة، في أذهان بناتنا وأولادنا ونفوسهم/ـن، وتحدد ما يمكن أن تكون عليه السلطة في المستقبل، حين يكبر الأولاد والبنات ويصيرون آباء وأمهات. فليس علينا أن نحدد أذواق أولادنا وبناتنا باسم تربية الذائقة، علينا أن نوفر لهم/ـن شروطاً مناسبة من الحرية والكفاية لتنمو ذائقة كل منهم/ـن بنمو معرفته/ـا وقيمه/ـا ونمو شخصيته/ـا.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية