هل تعود أمريكا إلى "استراتيجية الاحتواء" مع روسيا؟

هل تعود أمريكا إلى "استراتيجية الاحتواء" مع روسيا؟


15/03/2022

هناك رأي يتبنّاه الكثير من علماء السياسة والعلاقات الدولية المعاصرين يحاجج بأنّ عداء روسيا تاريخياً للغرب كان نتاجاً لانعدام أمنها، ومع ذلك فإنّ سياستها الخارجية ستستجيب لــ‏‏"منطق وخطاب القوة" فقط.

إنّ في هذا الرأي الكثير من الصواب؛ خاصة في الجزء الأول، لكنّ الادّعاء بأنّ سياستها الخارجية ستستجيب لــ‏‏"منطق وخطاب القوة"؛ فهو محلّ الاختبار اليوم في حربها ضد أوكرانيا وحلفائها في الغرب.

استجابة روسيا لــ‏‏"منطق وخطاب القوة" محلّ الاختبار اليوم في حربها ضد أوكرانيا وحلفائها في الغرب

في مقال في مجلة الـ"فورين بولسي" 12 آذار (مارس) 2022 قال الصحفي الأمريكي مايكل هيرش: ‏إنّه سواء انتهى غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا في أيّ وقت قريب أم لا، فإنّ المؤكد هو كراهية الرئيس الروسي الدائمة وعدم ثقته في الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، والتي يعتقد أنّها لم تترك له خياراً سوى شنّ حرب غير مبررة.

إنّه ليس بوتين فقط، هذه الآراء يتشاطرها العديد من النخب الروسية التي دعمته على مدى عقدين من الزمن، كما أنّها كانت سبباً رئيسياً في شعبية بوتين المحلية -على الأقل حتى وقت قريب، عندما واجه غزوه مقاومة شرسة- حتى عندما حوّل نفسه إلى ديكتاتور وروسيا إلى دولة شمولية تقريباً تُذكّرنا بالاتحاد السوفييتي في أسوأ حالاته.

اقرأ أيضاً: ما حقيقة طلب روسيا مساعدات عسكرية من الصين؟

ويضيف هيرش أنّ عداوة بوتين تستحق التحقيق بعمق، حتى لو كان ذلك فقط لفهم السبب الذي يجعل واشنطن والغرب يواجهان بشكل شبه مؤكد "صراعاً طويلاً" آخر مع موسكو ـ على حدّ تعبير الرئيس الأمريكي السابق جون كينيدي ـ ينافس الحرب الباردة التي استمرت (45) عاماً.

عداء بوتين للغرب حكاية مركّبة من تاريخه الشخصي والمهني ومن تاريخ روسيا نفسها أو قراءته الشخصية له

إنّ العداء الدائم لدى الرئيس الروسي تجاه الغرب هو حكاية معقدة، مركّبة من تاريخ بوتين الشخصي البالغ من العمر (69) عاماً عندما كان طفلاً في الحرب العالمية الثانية ورجل مخابرات سوفياتياً محترفاً، فضلاً عن تاريخ روسيا نفسها المتشابك الذي يمتدّ إلى (1000) عام، أو على الأقل قراءة بوتين الشخصية ومقاربته لهذا التاريخ. 

في عمق المشهد المعقد اليوم، يبدو أنّ بوتين، والعديد من المسؤولين والنخب والباحثين الروس ذوي الميول اليمينية الذين يدعمونه، لا يريدون أن يكونوا جزءاً من الغرب ونظام القيم الليبرالي بعد الحرب فحسب، بل يعتقدون أيضاً أنّ مصير بلادهم هو أن تكون حصناً قوياً ضدّ هذه القيم التي تحرّكها العولمة.

 المشهد اليوم أكثر تعقيداً من مجرّد التعليق الصحفي اليومي على وسائل الإعلام ومحطات التلفزة

ربما من هنا يمكن لنا فهم عمق العداوة من خلال تأكيد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان يوم الأحد 13 آذار (مارس) الجاري عندما قال: إنّ أيّ هجوم روسي على أراضي ‏حلف شمال الأطلسي سيؤدي إلى ردٍّ من الحلف.  وقال سوليفان (في برنامج واجه الصحافة): ‏‏"لقد كان الرئيس بايدن واضحاً مراراً وتكراراً بأنّ الولايات المتحدة ستعمل مع حلفائها للدفاع ‏عن كلّ شبر من أراضي حلف شمال الأطلسي، وهذا يعني كلّ شبر".

هذا في الوقت الذي أدّى فيه تصاعد الهجمات الروسية في أوكرانيا خلال عطلة نهاية الأسبوع إلى اقتراب الحرب ‏من ‏حدود حلف شمال الأطلسي، دون أيّ تأثير دبلوماسي واضح في الأفق. وقد نفذت روسيا ‏غارة ‏جوية على قاعدة عسكرية كبيرة في غرب أوكرانيا على بعد حوالي (15) ميلاً من الحدود ‏البولندية ‏يوم الأحد 6 آذار (مارس)؛ ممّا أسفر عن مقتل (35) شخصاً على الأقل، وإصابة أكثر من ‏‏(100)، ‏وفقاً لمسؤول محلي.

اقرأ أيضاً: إيران تُحمل أمريكا مسؤولية توقف مفاوضات فيينا.. ماذا عن روسيا؟

وقد وقع الهجوم في جزء من أوكرانيا، وشهد قتالاً أقلّ ممّا شهده في ‏المدن ‏الشرقية القريبة من الحدود الروسية، وجاء بعد تحذير يوم السبت الماضي من موسكو بأنّها تعتبر ‏شحنات ‏الأسلحة الغربية المحتملة إلى أوكرانيا "أهدافاً مشروعة". وقد استضافت المنشأة ‏العسكرية المستهدفة  قوات ‏حلف شمال الأطلسي لأعوام. ‏

وفي الوقت نفسه الذي تدمّر فيه قوات بوتين أوكرانيا، يشارك مبعوثه في فيينا، مع الولايات المتحدة، ‏في المفاوضات النووية مع جمهورية إيران الإسلامية. الإسرائيليون، الذين يعرفون جيداً ‏ما ‏يعنيه أن يكون هناك جيران مصممون على محو دولتهم من الخريطة، يحاولون وضع ‏حدٍّ ‏للحرب ومساعدة أولئك الذين يعانون نتيجة للحرب، لكنّهم لا يستطيعون أن ينسوا أنّ بوتين ‏لديه ‏قوات عسكرية متمركزة على حدودهم الشمالية في سوريا

بعد 75 عاماً على نظرية كينان ونهاية الحرب الباردة يبدو أنّ أمريكا تعود إلى الاحتواء للتعامل مع روسيا.

لا شكّ أنّ المشهد اليوم يبدو معقداً جداً؛ وأكثر تعقيداً من مجرّد التعليق الصحفي  اليومي على وسائل الإعلام ومحطات التلفزة. بالنسبة إلى خبراء وعلماء السياسة وتاريخ الحروب هذه الحرب ما زالت في بدايتها، وبالتالي من الصعب تصنيفها ومعرفة نوايا الأطراف الفاعلة فيها وكيف ستنتهي.

تقول مجلة "الإيكونوميست" 14 آذار (مارس) الجاري: إنّ الغرب كان يتمتع بخبرة طويلة في إبقاء قوة معادية في أوروبا الشرقية بعيداً دون اللجوء إلى الحرب. في عام 1947 جادل جورج كينان، الدبلوماسي الأمريكي الشهير، ومهندس سياسة الاحتواء في العلاقات الدولية، في مقال مجهول في مجلة "فورين أفيرز"، بأنّ عداء روسيا كان نتاجاً لانعدام أمنها، ومع ذلك فإنّ سياستها الخارجية ستستجيب مع ذلك لـ "منطق وخطاب القوة".

اقرأ أيضاً: هل تمزق أوكرانيا الحلف بين الصين وروسيا؟

لذلك يجب على أمريكا أن تتبنّى "سياسة احتواء حازمة، مصممة على مواجهة الروس بقوة مضادة لا يمكن تغييرها في كلّ نقطة يظهرون فيها علامات على التعدي على مصلحة عالم سلمي ومستقر"، وقد أصبحت هذه النظرة أساس استراتيجية أمريكا ضدّ الاتحاد السوفييتي طيلة الحرب الباردة.

ما الذي تغيّر في استراتيجية الاحتواء؟ يبدو أنّه لا شيء، لماذا؟ لأنّه بعد (75) عاماً على نظرية جورج كينان، ونهاية الحرب الباردة، يبدو أنّ أمريكا تعود إلى الاحتواء للتعامل مع روسيا. وكما أكدت مجلة "الإيكونوميست": ‏"الاستراتيجيّون يُعيدون تعلّم دروس الحرب الباردة، وأمريكا تعود إلى استراتيجية الاحتواء للتعامل مع روسيا".  




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية