هل تفرض الحرب في القوقاز الانتقال إلى نظام عالمي جديد

هل تفرض الحرب في القوقاز الانتقال إلى نظام عالمي جديد


29/10/2020

لم تخرج الحرب في القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم نارغوني قره باغ الانفصالي، عن جدلية بسط النفوذ بين القوى الكبرى، فالصراع هناك يتعلق بأمور أكبر من الانقسامات العرقية والنزاعات الإقليمية عميقة الجذور، لدرجة أن البعض يعتبره اشتباكا آخر مُصمما، على الأقل جزئيا، لتشكيل نظام عالمي جديد.

ومر العالم منذ القرن السابع عشر وحتى الآن بأربع مراحل لتطور النظام الدولي بدأت بمعاهدة وستفاليا سنة 1648 والتي أنهت الحروب الدينية وأقامت النظام الدولي الحديث المبني على تعدد الدول القومية واستقلالها مرورا بالفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وصولا إلى الفترة بين الحرب العالمية الثانية وحتى الحرب الباردة، والتي اتسمت بالثنائية القطبية حتى بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

أما المرحلة الأخيرة فبدأت منذ نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي بانهيار الاتحاد السوفييتي وحتى الآن، ويطلق عليها النظام الدولي الجديد والتي ظهرت معه العولمة، وتعود بدايات شيوع هذا المفهوم إلى حرب الخليج الثانية، والتي تطلق على الغزو العراقي للكويت في عام 1990.

وبعد أشهر قليلة منذ ذلك التاريخ، ظهر ذلك المفهوم عند إعلان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب من على منصة قاعة اجتماع الهيئة التشريعية لمجلس النواب الأميركي في 17 يناير 1991 بداية النظام العالمي الجديد. واليوم لماذا قد تكون الحرب في القوقاز منطلقا هذه المرة لتشكيل نظام عالمي جديد؟

ولتفسير تلك التبريرات، رأى جيمس أم دورسي، وهو زميل قديم في مدرسة أس. راجاراتنام للدراسات الدولية في تقرير نشرته مجلة “موديرن دبلوماسي” الأميركية، أن الرهان أصبح كبيرا لأذربيجان، التي تدعمها تركيا، إن لم تكن هي من حرضتها، بسبب الممرات التجارية ما يعني أن الأمر برمته منصب على صراع النفوذ في تلك المنطقة بالذات.

صراع النفوذ

يعطي الباحث دورسي، وهو صاحب مدونة “عالم الشرق الأوسط المضطرب” لمحة عن ذلك الصراع، حيث يقول إن ميناء باكو البحري التجاري الدولي يسعى إلى ترسيخ انطلاقته في منافسته مع الموانئ الروسية والإيرانية والتركمانية والكازاخية على بحر قزوين، لكي يصبح نقطة تقاطع رئيسية في ممرات النقل الأوراسية المتنافسة. ومن المرجح أن تخرج باكو كأكبر ميناء تجاري في بحر قزوين.

ولا شك أن النجاح الأذري في استرداد بعض المناطق الخاضعة لسيطرة أرمينيا، والتي استولت عليها في مطلع تسعينات القرن الماضي، سيعزز مسعى باكو لأن تصبح الميناء الرئيسي على بحر قزوين في مفترق الطرق بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا.

ويقع بحر قزوين عند تقاطع طريق النقل الدولي العابر للمر المائي من الصين وإلى غاية أوروبا عبر كل من كازاخستان وأذربيجان وجورجيا وتركيا، وكذلك ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يهدف إلى ربط الهند بأوروبا عبر إيران وروسيا، وهذه الطرق تجعلها أطماعا للعديد من القوى الفاعلة في تلك الرقعة من سطح الكوكب.

ويعتقد دورسي أن النجاح العسكري الأذري، المدعوم بشراسة من تركيا، سيرسخ أيضا ادعاءات أنقرة بأنها لاعب مهم في أراضي الاتحاد السوفييتي السابق التي تعتبرها روسيا اليوم دائرة نفوذها وبالتالي قد تطفو على السطح توترات تماما مثل ما يحصل بينهما في شمال سوريا، فكلاهما يريد بسط السيطرة على حساب الآخر.

وليس ذلك فحسب، بل ستعزز الحرب القائمة في إقليم قره باغ المشاعر القومية لدى الإيرانيين من أصل أذري الذين يمثلون 25 في المئة من سكان الجمهورية الإسلامية، والذين صعد الكثير منهم إلى هيكل السلطة الإيرانية وثمة الكثير من المتابعين الذين يعتقدون أن طهران تحاول أن تنزع فتيل الأزمة مهما كانت التكاليف حتى لا ترتد عليها في الداخل.

وفي إشارة إلى المشاعر التي يثيرها الصراع في القوقاز، يقف الإيرانيون في المناطق، التي تحد أذربيجان على قمم التلال لمشاهدة القتال من بعيد. ولقد اشتبكت قوات الأمن الإيرانية مؤخرا مع متظاهرين من العِرق الأذري في عدة مدن كانوا يهتفون “قره باغ لنا. وستظل لنا”.

وكان المتظاهرون يشيرون إلى ناغورني قره باغ، المقاطعة الأرمينية الكائنة داخل أذربيجان، والتي تقع في قلب الصراع في القوقاز. ويخدم المتظاهرون كتذكير بالاحتجاجات البيئية في محافظة أذربيجان الشرقية الإيرانية وقت ثورات الربيع العربي 2011 والتي تحولت في أكثر الأحيان إلى تجلّ للقومية الأذرية.

ولأن النظام العالمي الجديد الذي يتوقع أن يتشكل انطلاقا من الأزمة في القوقاز من طرف القوى العظمى، تبدو الولايات المتحدة حتى الآن تسير في طريق الدبلوماسية فقط، بسبب الانتخابات الأميركية على الأرجح، ولكن قد تتجه إلى رمي بكامل ثقلها بعد أن تظهر النتائج ويدخل الساكن الجديد للبيت الأبيض حتى يعرف المتابعون استراتيجيتها في هذه المشكلة.

من المهيمن

يعتقد محللون منذ فترة طويلة أن قواعد النظام العالمي هي عبارة لا تزيد على كونها ستارا للهيمنة الأميركية على العالم، وبقية دول العالم غير الغربية ترى أن العبارة هي تعبير عن سيطرة الغرب، كله، على الكون. وحيث أن الولايات المتحدة هي التي وضعت القواعد من الناحية العملية، فقد كان من الطبيعي أن يكون النظام بأكمله متحيزا لصالحها.

ولذلك فمنطقة القوقاز تشكل دافعا لاحتمال دخول واشنطن في هذه المشكلة عاجلا أم آجلا، فالموقع التنافسي لميناء باكو، على سبيل المثال، تعزز عشية اندلاع القتال بين أرمينيا وأذربيجان بإطلاق طرق سكك حديدية جديدة من الصين إلى أوروبا والتي تعبر أذربيجان وتركيا.

وقد افتتحت الصين الشهر الماضي طريق سكة حديدية جديدا من جينهوا في شرق الصين إلى باكو، والذي سيقلل وقت النقل بمقدار الثُلث. وفي يونيو الماضي، أرسلت قطارها الثاني من مدينة شيان إلى إسطنبول عبر باكو، حيث يتصل بخط سكة حديدية إلى العاصمة الجورجية تبليسي، ومدينة قارص التركية ثم إلى إسطنبول.

ويؤكد الأذريون أن وضع ناغورني قره باغ يهدد باكو كنقطة تقاطع رئيسية في ممرات النقل الأوراسية. ويقول أورخان باغيروف، الباحث في مركز تحليل العلاقات الدولية، وهي مؤسسة فكرية لها علاقات وثيقة بالحكومة في باكو “عن طريق مواصلة احتلالها، تُشكّل أرمينيا تهديدا ليس فقط على سلامة أراضي أذربيجان، بل على الاستقرار والتعاون الإقليمي”.

وكان باغيروف يشير إلى الجهود الروسية، والإيرانية، والتركمانية والكازاخية الأخيرة لمضاهاة باكو في تحديث الموانئ المطلة على بحر قزوين تحسبا لانطلاق طريق النقل الدولي العابر لبحر قزوين وممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب.

وتعيد روسيا تطوير ميناء لاجان لكي يصبح أول ميناء خال من الجليد على بحر قزوين والذي يقدر على التعامل مع إعادة شحن 12.5 مليون طن، ومن المفترض أن يعزّز الميناء التجارة مع الخليج وكذلك أيضا الشحن من الهند عبر إيران.

ويقول دورسي إن ميناء لاجان سوف يتيح لروسيا الاستفادة من طريق النقل الدولي العابر لبحر قزوين والذي يُعد جزءا من مبادرة الحزام والطريق الصينية عبر نظام السكة الحديدية الروسية وأيضا الموانئ الكازاخية والتركمانية والأذرية.

كما سيعزز الجهود الروسية والإيرانية والهندية للبدء في ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، والذي سيربط موانئ بحر قزوين لإقامة ممر من الهند إلى روسيا عبر إيران وإلى شمال أوروبا، في منافسة مع قناة السويس.

وسيربط ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب ميناء جواهر لال نهرو، أكبر ميناء حاويات في الهند والذي يقع شرق مومباي، مرورا بميناء جابهار الإيراني المطل على خليج عمان وميناء بندر أنزلي المطل على بحر قزوين إلى ميناء أستراخان الروسي المطل على نهر فولجا؛ ثم بالسكة الحديدية إلى أوروبا.

وتشير بعض التحليلات والتقارير الدولية إلى أن الطريق سيخفض وقت وتكاليف الشحن من الهند إلى أوروبا بدرجة كبيرة. وقد قال بي.بي سواين المسؤول الرفيع في وزارة التجارة الهندية في وقت سابق هذا الشهر إن الربط سيخفض مسافة السفر بمقدار 40 في المئة والتكلفة بمقدار 30 في المئة.

وفي حين تستثمر إيران في زيادة القدرة والربط في ميناء أمير آباد بينما تؤكد في الوقت ذاته على قدراتها البحرية في بحر قزوين، كانت تركمنستان قد افتتحت في 2018 ميناء تركمانباشي البحري بقيمة 1.5 مليار دولار، بينما كشفت كازاخستان في نفس العام عن ميناء كوريك.

ويهدد القتال بين أذربيجان وأرمينيا في ظل دعم تركيا وإسرائيل للأذريين، ومكافحة روسيا من أجل التوصل إلى اتفاق مستدام لوقف إطلاق النار، وسعي إيران لاتخاذ موقف حيادي في قتال يحدث على حدودها، ومحاولة السعودية والإمارات إحباط التقدمات الإيرانية أينما استطاعتا بالتغطية على منافسة الموانئ في بحر قزوين بمظاهر صراعات الشرق الأوسط التي لا تُحصى.

وترى الباحثة في الشأن الإيراني شيرين هانتر أنه وبسبب العامل الإيراني، بات القوقاز مرتبطا بقضايا الشرق الأوسط، فقد حاولت إسرائيل والسعودية الضغط على إيران عبر أذربيجان، وهكذا، الطريقة التي سيتطور الصراع وينتهي بها قد تؤثر على حسابات القوى في الشرق الأوسط والصراع الموسع سيفرض تحديات سياسية على اللاعبين الدوليين الرئيسيين.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية