هل ستقلب البشرية صفحة كورونا نحو مستقبل أفضل؟

هل ستقلب البشرية صفحة كورونا نحو مستقبل أفضل؟


29/03/2020

نادية عويدات

قلب فيروس كورونا الدنيا رأسا على عقب وكشف نقاط الضعف الاقتصادية والسياسية والصحية وحتى الأيديولوجية للدول، فظهر إلى لعيان ما كان مضمرا وما كان خفيا.

تجني البشرية بأكملها في هذه اللحظات الحرجة نتائج استثماراتها خلال العقود السابقة سواء كانت حكيمة أم عقيمة. فمثلا، في السنوات الأخيرة فاقت استثمارات الصين في مجال البحوث العلمية ما تخصصه الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة في هذا المجال. ربما نتيجة لذلك، أذهلت الصين العالم بقدرتها على بناء مستشفى حديث خلال عشرة أيام فقط لمعالجة مرضى كورونا بينما يرقد مرضى دول أوروبية مثل إسبانيا وإيطاليا على أراضي المستشفيات لقلة الأسرة والأجهزة الطبية. صحيح أن الصين لا تزال محط نقد عالمي بسبب أساليبها السلطوية إلا أن هذا لا ينفي الاعتراف بتمكنها الإداري.

استثمرت بلدان كثيرة في الآن نفسه، ومنها بلدان في منطقة الشرق الأوسط، مليارات الدولارات في صناعة الأسلحة، لكن هذا الاستثمار لم ولن يجدي نفعا أمام أخطار لا تراها العين المجردة، ولم يعهدها البشر منذ تفشي الطاعون في العصور الوسطى.

لقد أظهرت هذه الأزمة عبثية هذه السياسات خصوصا أن هذه الأسلحة، كما تشير دراسات كثيرة، يشكل المدنيون العزل نصيب الأسد من ضحاياها. لعل هذه الخلاصة دفعت بالأمين العالم للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى دعوة المشاركين في صراعات مسلحة حول العالم (وتشكل الدول الإسلامية خمسة وستين بالمئة منها) التوقف عن قتل بعضهم البعض ومواجهة عدو الإنسانية المشترك.

إن هذا التهديد العالمي لملايين البشر أظهر أيضا هشاشة، لا بل خطورة، بعض الأيديولوجيات والممارسات الدينية ليس فقط على المؤمنين بها بل على كل من قد يكون معرضا لخطرها حيث انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعاوى متعصبين لطوائف مختلفة تدعوا المؤمنين من تلك الطائفة إلى تحدي الفيروس المميت والاستمرار في التجمعات الدينية وكأن الفيروس سينحني احتراما لمعتقداتهم.

صور أحد هذه الفيديوهات راية دينية يتم تمريرها من مريض إلى مريض لتقبيلها لما فيها من صفات دينية من المعتقد أنها ستشفى المرضى الذين سارعوا لإظهار ولائهم بتقبيلها ولمسها في الوقت الذي سهل هذا انتشار الفيروس بالمستشفى الذي يرقدون به.

وفي مقطع آخر، أظهر شخصا يستهزئ بالفيروس أثناء قيامه بزيارة ضريح معين تحديا للتعليمات بل حث بقية المؤمنين على البقاء في تحدي لتوصيات السلامة العامة التي أوصت بها الدولة.

ولعلنا نعي جيدا أنه حيث يقطن هؤلاء ستعاني مجتمعاتهم من خسارات فادحة في الأرواح سواء آمنوا أم لم يؤمنوا بهذه المعتقدات والأيديولوجيات فمن خصوصيات هذا الفيروس الخبيث سرعته المذهلة على الانتشار، وعدم تميزه بين سني وشيعي ومسلم ومسيحي ويهودي أو متدين وملحد وبين صيني وأمريكي أو عربي.

لكن البشر بحاجة، في مقابل ذلك، إلى تقديس الحياة الإنسانية والحفاظ عليها بدل الاستهتار بها. فهل ستؤدي هذه الأزمة بعد تفاقمها إلى القضاء على كثير من هذه الممارسات اللاعلمية، ولو بعد حين؟ وهل ستدفع المؤمنين إلى تمحيص أكبر لمعتقداتهم وممارساتهم والتمييز بين العلمي والخرافي وحدود كل منهما؟

حتى داخل بلاد غنية مثل الولايات المتحدة، وهو بلد متقدم لا يوفر خدمات صحية مجانية لمواطنيه، سوف تهز هذه الأزمة أركانه بلا رجعة. وسوف تضعه أمام تحديات عدة منها الغلاء المذهل للخدمات الصحية وانعدام التأمين الصحي لملايين الأمريكيين، فماذا سيكون مصير كل هؤلاء؟ هل ستكون أميركا مجبرة على تغيير سياستها الرأسمالية وتتبع نهج بقية الدول الغربية بتوفير خدمات صحية مجانية؟ أم أنها ستتبع نظرية البقاء للأقوى وترك الضعفاء من مواطنيها لمواجهة مصيرهم وحدهم؟ أم أنها ستنتهج أسلوبا جديدا لا يمت لكل ما ذكرنا بصلة؟ فمثلا قرر الكونغرس تخصيص 2 تريليون دولار لامتصاص الكساد الاقتصادي فإلى أين سيوجه هذا الرقم الضخم بالضبط: إلى وول ستريت والبنوك والشركات الكبرى، أم الفقراء والمحرومين من التأمين الصحي المجاني؟

أبرزت هذه الأزمة العالمية أيضا مدى أهمية الاستثمار في العلم والتكنولوجيا، فقد أصبح المجال الافتراضي كما هو ملاحظ في ظل هذه الأزمة حاجة حياتية ملحة لتعليم أجيال لا بل ضرورة حتمية داخل نمط الحياة الجديد، ولعل من المفارقات الكبيرة في واقعنا اليوم أنه بينما يتوقف اقتصاد بلدان بأكملها عن العمل، تبحث شركات ضخمة مثل أمازون عن موظفين قادرين على العمل عن بعد في موقعها لتلبية الاحتياجات المتزايدة لمستخدمي الموقع.

إن هذا الفيروس الفتاك والذي يتوقع الكثير العلماء أنه لا يزال في بدايته، رغم أنه قد أصاب حوالي نصف مليون إنسان حتى الآن، وأدى إلى وفاة الآلاف خلال أسابيع قليلة، ولا يزال عداد الأرقام في تزايد يوما بعد آخر، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ستؤدي هذه الخسارة الهائلة الى إيقاظ الإنسانية من سباتها كما فعلت الحرب العالمية الثانية في أوروبا؟

أودت الحرب بحياة عشرات الملايين من البشر آنذاك الأمر الذي حفز الدول الأوروبية للمشاركة في النزاع إلى خلق ترابط تجاري واجتماعي وسياسي بين أطراف النزاع حين ذاك بحيث يصبح الصراع المسلح بينها مستحيلا في المستقبل، وعلى ركام الحرب العالمية الثانية تشكل الاتحاد الأوروبي. كورونا يقدم للبشرية الآن فرصة جديدة لكي تراجع نفسها وتبني مستقبلا مختلفا تماما. فماذا ستختار البشرية؟

هنا أمام هذا الوباء، والذي يعتقد الكثير من الباحثين وخبراء الاوبئة أنه لن يكون الأخير، هل ستؤدي هذه الأزمة إلى توحد الأسرة الإنسانية أمام هذا الواقع؟ أم أنها ستتفنن في إظهار شراستها تجاه الشعوب الأقل حظا؟

أبرزت هذه الأزمة كذلك حقيقة ترابط البشرية بعضها ببعض، وأسقطت كذلك العديد من الفوارق الشكلية والوهمية بين الشعوب. ولهذا فالأفكار التي تحرض على فئة ضد أخرى قد أصبحت بلا معنى.
فقد أصبحت لاجئة سورية في مخيم اليوم شبيهة بوضع مواطنة أميركية بلا تأمين صحي وغير قادرة على توفير العلاج لنفسها أو لعائلتها. كلتاهما ضحية لسياسات لا إنسانية سواء كانت سياسات داخلية أو خارجية. فهل سيحتكر من يملكون المال والسلطة والموارد لحماية أنفسهم ويتركون بقية البشر للهلاك أم أننا سنشهد صحوات للضمير الجماعي عند الشعوب والأمم؟

ولعلنا سنعاود السؤال المقلق: يا ترى ماذا ستختار البشرية؟

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية