هل ستناضل الجماعات الإسلامية الجديدة لاستقلال الدين عن الدولة؟

هل ستناضل الجماعات الإسلامية الجديدة لاستقلال الدين عن الدولة؟


30/08/2018

عندما بدأ "الإسلام السياسي الجماعاتي" يؤمن بالاستقلال بين الدعوي والسياسي بدأ "الإسلام السياسي الرسمي" يدعو إلى الدمج بين الدعوي والسياسي، ويتحمس اليوم لـ "أسلمة" كتّاب السلطة الدينية السياسية ومستشاريها الإعلاميين وموظفي وزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية ومقاولين في الدين والإعلام "الديني".
هل سيتحول الصراع بين "الجماعات الإسلامية الجديدة" والسلطة السياسية إلى عكس ما كان عليه الحال سابقاً؟.. بمعنى هل ستناضل الجماعات الإسلامية الجديدة لأجل استقلال الدين عن الدولة والديني عن السياسي، وتتمسك السلطة السياسية بدمج الديني بالسياسي؟

هل ستناضل الجماعات الإسلامية الجديدة لاستقلال الدين عن الدولة والديني عن السياسي وتتمسك السلطة السياسية بالعكس؟

حدث هذا في التاريخ؛ فقد انحاز كبار الصحابة، رضي الله عنهم، منذ بدأ النزاع بين الأمويين والهاشميين إلى استقلال الحكم عن الدين.. واعتكفوا في المدينة، وسُمّي أصحاب هذا الاتجاه "المرجئة"، لكن يزيد بن معاوية في اقتحامه للمدينة المنورة والمذابح التي أقامها لأهلها وللصحابة والتابعين قضى على هذا الاتجاه وأذلّ أهله، .. لم يكن أهل المدينة ومن فيها من الصحابة والتابعين يرفضون يزيداً، ولكنهم أرادوا دنيوية الحكم بدلاً من تديينه، فقُتلوا لأجل ذلك وأُجبروا على البيعة والخضوع.

ثم وفي تطور آخر، ثار التابعون من المرجئة وقاتلوا لأجل الاستقلال بين السياسي والدعوي أو ضد تديين الحكم، وهي الثورة المسماة ثورة العلماء بقيادة ابن الأشعث، ولكن الحجاج قضى عليها وذبح علماء "المرجئة" ذبحاً وأهمهم وأشهرهم سعيد بن جبير.

اقرأ أيضاً: العقلانية بما هي أزمة الإسلام السياسي
حاول الجيل التالي من المرجئة أن يحوّروا موقفهم في اتجاه فقهي فكري وفلسفي عندما بدأت المدارس الفقهية والفكرية في التشكل فكان المعتزلة (كانوا يسمون في البداية الجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان"، وذُبح خالد القسري ذبح الجعد بن درهم معلم الجهم في المسجد في يوم عيد الأضحى، ولكن المعتزلة أنشأوا تياراً دينياً وفقهياً قوياً واقترب منهم أيضاً أو بدأ في فلكهم المذهب الحنفي في الفقه والتشريع.
حدث هذه المرة ويا للغرابة بشكل معاكس، فقد استعان المعتزلة بالحكم والسياسية عندما انحاز إليهم المأمون وتحوّلت فلسفة الاستقلال بين الديني والسياسي إلى الدمج، ولكن على أساس عقلاني، وصار العقلانيون يلاحقون النقليين وقُطع رأس مرشدهم في بغداد أحمد بن نصر الخزاعي وعلق رأسه في بغداد!

انحاز كبار الصحابة رضي الله عنهم منذ بدأ النزاع بين الأمويين والهاشميين إلى استقلال الحكم عن الدين

واليوم فإنّ البيئة الدينية الرسمية أو برعاية رسمية تنشئ بقوة وانتشار الحالة نفسها التي تدعو إليها جماعات الإسلام السياسي، بل إنّها تشكِّل ملاذاً آمنا للأفكار والجماعات المتطرفة والعنفية، ويبدو واضحاً أنّ الجماعات المتطرفة تكتسب مزيداً من المؤيدين والتمويل، ومن البديهي الاستنتاج أنّ الأداء الإعلامي للمتطرفين والبيئة الإعلامية المحيطة ساعدتهم على اكتساب التأييد والمتطوعين للمشاركة في العمل والقتال معهم، لا يمكن تجاهل هذه المؤشرات الواضحة في ميزان التأييد والمعارضة للتطرف والإرهاب.

لا يشكك أحد في معاداة المؤسسات الدينية والإعلامية في البلاد العربية للتطرّف والإرهاب. ولكن يبدو واضحاً أيضاً أنّ التطرّف يتسلّل إلى الأفراد والمجتمعات، من خلال هذه المؤسسات، ويمكن الاستنتاج، بداهةً، أنه ما من مؤسسات ووسائل إعلام معروفة للناس يلجأون إليها، من أجل معرفة الجماعات المتطرفة وأفكارها ومواقفها، وأنّ الناس لم يعرفوا هذه الجماعات، إلا من خلال المؤسسات القائمة في الدول العربية والإسلامية، وهي وإن لم تكن تقصد أن تخدم المتطرفين، فقد فعلت.

استعان المعتزلة بالحكم والسياسية عندما انحاز إليهم المأمون وتحوّلت فلسفة الاستقلال بين الديني والسياسي إلى الدمج

تمثِّل المؤسسات الدينية (دور العبادة والإفتاء والدعوة والإرشاد والتعليم الديني) الحلقة الأضعف، والأكثر خطورةً، في مواجهة التطرّف والكراهية، ذلك أنّ المساجد والأنشطة الدينية تمثّل الساحة الأكثر أهميةً وجاذبيةً للجماعات المتطرفة، للبحث عن الأنصار والمؤيدين، كما أن جزءاً كبيراً من الفكر والمحتوى الديني المتاح والمتقبل والمتبع في الحياة الدينية والسياسية يمثل، أيضاً، مصدراً أساسياً للتطرف والدعوة والتجنيد للجماعات الإرهابية.

ويمكن القول إن كثيراً من الخطاب الديني الذي يقدّم في المساجد والمدارس والفضائيات، على الرغم من أنه يقدم برعاية دول تحارب المتطرفين، ويفترض أنها ضد التطرف، إلا أنه خطاب يشجع على التطرّف والكراهية. ويبدو أن المتطرفين أكثر دأباً وجهداً في توضيح أفكارهم، وإسنادها بالأدلة المعتمدة في الخطاب الديني، السائد والتقليدي.

اقرأ أيضاً: المعتزلة قادوا ثورة العقل لتعرية ظلم السياسة ومفاسدها

ولا يمكن، بالطبع، إهمال الدور الديني الرسمي والمجتمعي، أو تحييده، فذلك يُضعف المواجهة مع التطرّف والإرهاب، ويظهر المتطرفين وكأنهم أنصار الدين في مقابل أعداء الدين. ولكن، إذا أمكن الجمع بين الدور الديني المعتدل والمتسامح ومخاطبة الجمهور والمواطنين بالمصالح الوطنية والعالمية كما هي، وكما يجب أن تكون، فإن ذلك يجعل المواجهة مع التطرّف بعيدةً عن ساحتهم التي يتفوقون فيها.

لم تُعرف الجماعات المتطرفة إلا عبر المؤسسات القائمة في الدول العربية والإسلامية فخدمتهم بذلك دون قصد

إنّ القراءات العقلانية والمعتدلة للدين، والتي تعرّضت للإقصاء والملاحقة على يد السلطات السياسية، مثل أعمال نصر حامد أبو زيد وعلي عبد الرازق ومحمد أركون وابن رشد وطه حسين، هي الأكثر أهميةً وفاعليةً في بناء الاعتدال وتكريسه، وقد يكون محتواها متقدماً فكرياً ويصعب على نسبةٍ كبيرةٍ من الجمهور والمتدينين والشباب والناشئة استيعابها، لكن يمكن خدمة هذه الأفكار بمزيدٍ من التبسيط والشرح، وتحويلها إلى محتوىً قابل للهضم والاستيعاب، في المدارس والمساجد.

اقرأ أيضاً: خطايا الإسلام السياسي المتولدة عن "الصحوة الإسلامية"

وقد تبدي المؤسسات الإعلامية في الدول العربية والإسلامية حماساً كبيراً لمواجهة المتطرفين والردّ عليهم، وفي ذلك حسنات وإنجازات كثيرة، لكن الأداء الإعلامي العربي والإسلامي مليء بالثغرات التي ينفذ منها التطرّف، والحال أنّ المؤسسات الإعلامية، عندما تخلّت عن دورها الفكري والثقافي العميق والجاد، وغلب عليها الترفيه، حدث لها من الضعف مثل ما حدث للمؤسسات الدينية، وهي اليوم حتى تكون قادرةً على خدمة أهداف الدول والمجتمعات، لا تحتاج إلى الانشغال المباشر بنقد التطرف، وذمّ المتطرفين، قدر ما تحتاج إلى تشكيل بيئة ثقافيةٍ واجتماعيةٍ تشجّع على القيم الأساسية الإيجابية التي تحمي من الكراهية والتطرّف، وتحمي المجتمعات والأفراد من تأثير المتطرفين وأفكارهم، وبناء شراكةٍ مع المجتمعات، والمشاركة الصحيحة والإيجابية مع المجتمع العالمي.

عندما تخلّت المؤسسات الإعلامية عن دورها الفكري والثقافي الجاد أصابها من الضعف ما لحق بالمؤسسات الدينية

يتضمن الخطاب القائم على التوسع في انتقاد الإرهاب توسعاً في نشر الأخبار قد يخدم المتطرّفين، من حيث يُراد العكس، لكن الخطاب الإعلامي في توسّعه، في المحتوى والخدمات الإعلامية التي تساهم في سد الفراغ المعرفي والفكري، تشكّل قيماً واتجاهاتٍ تصرف الشباب والناشئة عن التطرّف والجماعات المتشدّدة، وتكرّس قيم الجمال والتسامح في المجتمع، وتزوّد المواطنين بالمعرفة والخدمات التي تقلِّل من الشعور بالخواء والفراغ، وتحسّن حياتهم، وتجعلهم ينفرون من التعصب والكراهية.

اقرأ أيضاً: في نعي الإسلام السياسي

وفي المواجهة الإعلامية والفكرية مع التطرّف، ربما يكون التجاهل أفضل من الردّ والمبالغة في الانشغال بالتطرّف، وأفضل في ذلك الانصراف إلى الانشغال الشامل بالفكر والحياة والفنون والأخبار وشؤون العالم، والاهتمام به، حتى مع الحضور الكبير للقصص والأخبار القادمة من عالم التطرّف والإرهاب؛ فالحياة يجب ألاّ تتوقف، والعالم يمضي، كل يومٍ، إلى آفاق واهتمامات وتجارب جديدة، لا يجوز الانشغال عنها، مهما كانت الحوادث جسيمةً في عالمنا، فلا خيار لنا سوى أن نكون جزءاً من العالم، يجب أن نتقبله ويتقبلنا.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية