هل سقطت الهيمنة الإخوانية على العالم العربي؟

هل سقطت الهيمنة الإخوانية على العالم العربي؟


18/10/2018

رشيد العزوزي

رغم ما راكمته العلوم السياسية من دولة المدينة مع اليونان، حتى ما بعد فلسفة العقد الاجتماعي، لا يزال البعض مصمماً على وجود "نظرية سياسية إسلامية في الحكم كاملة مكتملة"  تستمد شرعيتها من "النص" لا من التاريخ.

نظرية يزعم أصحابها أن لها قدرة عجيبة في الاستجابة لشروط العصر، رغم إقرارهم بتبدل الوقائع والطبائع في الأمم والأجيال، وتغير الأحوال وانقلابها "الآن وهنا" في زمن الحداثة السياسية، والرأسمالية الاقتصادية، في ظل دولة قطرية مدنية يرأسها حاكم بموجب تعاقد اجتماعي، بدل أمة يسوسها خليفة بحق إلهي.

مخاض بعث أيديولوجية

مع زوال الخلافة العثمانية، لم تجد الأفكار الإخوانية المتبلورة للتو بداً من رثاء التاريخ الإسلامي، والصدح بالاحتكام للدين في كل صغيرة وكبيرة، في السياسة كما في المجتمع والاقتصاد، بنوع من الارتباك، مهددة "دولة الكفر" في بلاد الإسلام الوليدة بـ"شرع اليد" داخليًا  و"الجهاد" خارجياً.

سرعان ما انفضحت نوايا هذا "الجهاد" التخريبية في بلاد عربية وإسلامية (دار الإسلام)، قبل ما وراء الحدود (دار الكفر)، ما ألزمها تغيير أولوياتها وقبولها بالديمقراطية "الغربية" في الممارسة السياسية، لتقتحم العملية الانتخابية وفق "برنامج مقدس" تقوده "شخصيات ربانية" مؤمنة بالخلافة وأهل لها.

هذا يعني أن رموز الإسلام السياسي في العالم العربي لم يقتنعوا بعد أن الخلافة مسألة دنيوية يختلف الناس حولها، وحول آلياتها وطبيعتها، بعيداً عن المقدس المطلق بطبيعته أو المدنس بدونيته، وأن "وحدة العرب كانت إسلامية لا سياسية، كما كانت زعامة الرسول فيهم زعامة دينية لا مدنية، وكان خضوعهم له خضوع عقيدة وإيمان، لا خضوع حكومة وسلطان".

ومع ذلك، واقع انقلاب الخلافة إلى ملك، وتحول الملك إلى دولة قطرية، حتّم على منظري الفكر الإخواني البحث عن صيغة وسط، تهم فقه الدولة "الإسلامية"، سرعان ما وصفوه بالوسطية، معتمدين في مسعاهم على 3 مصادر أساسية تتمثل في الأحكام السلطانية أولاً، ومرايا الملوك والأمراء ثانياً، والسياسة الشرعية ثالثاً.

عمومًا، لم يخرج الفقه السياسي العربي التراثي عن هذه التصورات للسلطة في التاريخ الإسلامي إلا من خلال صدمة الحداثة الأوربية التي خلخلت التنظيمات العثمانية في أواخر أيامها، وهو ما عبر عنه خير الدين التونسي بعبارته الشهيرة "السيل الذي لا يمكن دفعه"، بتعبير عبد الجواد ياسين.

وهنا دخلت مفاهيم جديدة في النسق السياسي الإسلامي مع الطهطاوي، بفعل ازدياد ضغط الحداثة السياسية من جهة، والاحتكاك والمثاقفة مع الغرب من أخرى، لتكون النتيجة إصدار "الجمعية الوطنية التركية"، عام 1922، بيانًا تميز فيه بين أمراء الدنيا، وخلفاء التاريخ، وهو ما يمكن اعتباره المدخل الأساس لحل الخلافة، عام 1924.

وفي خضم ذلك، ظهر مفهوم "الحكومة الإسلامية" و"الدولة الإسلامية" أو ما يعرف اليوم بالإسلام السياسي، مع حسن البنا وعبد القادر عودا، ويوسف القرضاوي، لأهداف أيديولوجية بحتة، وعبدالوهاب خلاف ومحمد يوسف موسى لأهداف تعليمية جامعية صرفة، معلنين بذلك عن ولادة تصور غير تراثي نسبياً في فلسفة الحكم سيعرف انتشاراً وهيمنة واسعة من بغداد إلى طنجة.

أسس الهيمنة

يقدم التيار الإخواني نفسه لمريديه بصفته "وسطياً"، رغم أن معظم التيارات الإسلامية التي ادعت "الوسطية" تورطت في عمليات إرهابية لاحقاً، بل إن راشد الغنوشي يقول إن مدرسة حسن البنا ما بين بين؛ يعني أن فكرة الدولة عند عامة الإسلاميين تقع بين طرح النفاة (نفي الدولة الإسلامية) أي العلمانيون، وبين تصور الإمامية ويقصد الشيعة.

في هذا السياق الذي لا يخلو من لبس، حمّل الخبير في حركات الإسلام السياسي عبدالفتاح الحيداوي في اتصال مع كيوبوست الدولة مسؤولية اكتساح المد المحافظ، لأنها "تركت مكانة للإخوان تم ملأها اعتماداً على المجتمع المدني، تحت مسمى التنشيط الثقافي والعمل الخيري"، منبهاً إلى ضرورة استعادة الدولة لزمام المبادرة في هيكلة الشأن الديني، و"النزول بكل ثقلها إلى الأعمال الميدانية الخيرية، حتى تسحب البساط من تحت هذا الفكر الذي يستغل هذه المساحة للتأطير والجلسات واللقاءات".

وهو ما كان له بالغ الأثر على الفرد والمجتمع في المنطقة العربية التي تأثرت بهذا النوع من الخطاب، لدرجة استطاع معها التفرقة بين المرء وزوجه، والمواطن ووطنه؛ نشداناً لأممية جديدة، مستغلين لذلك مؤسسات المسجد والجمعية الإعلام والمدرسة.

استغلال جعل الباحث في الفكر الإسلامي نادر حمامي يقرّ، في اتصال مع كيوبوست، بـ"أن المؤسسات والدولة والأنظمة التعليمية والإعلام في جوهرها مؤسسات محافظة، إضافة إلى أنّ النخب التقدميّة في الغالب نخبوية، ولم تجد الطريق إلى المجتمع والفضاء العمومي"، على عكس المشايخ الذين سلكوا الطريق القصير والسهل لخطف قلب المتلقي -لا عقله- وباللغة التي يفهم، والمعاني التي يحترم، بحكم قوة الصيرورة التاريخية وضغط التنشئة الاجتماعية.

اتكأ الخطاب الإخواني على جهاز مفاهيمي ينهل من المقدس المشترك الذي يحظى بقبول مبدئي عند الجميع، مستدعياً التاريخ الإسلامي (خلافة آل عثمان)، كما يفعل إخوان تركيا مثلاً، أو تلك العربية الإسلامية (خلافة دمشق وبغداد)، مقدمين إياها في حلل بهية متعالية عن الواقع، ليس للاستئناس السياسي، وإنما باعتبارها خياراً إستراتيجياً وحيداً، كل الجهود يجب أن تنصب على إحيائه، ضداً في منطق تقدم التاريخ، لأهداف انتخابية مختصرة في شعارات صعب على الجماهير العربية مقاومتها.

من بين هذه الشعارات، نجد الشعار الأكبر للجماعة "الإسلام هو الحل"، وكفى، دون تقديم برامج حقيقية تعتمد على أرقام ودراسات، وتربط إنجازها بفترة زمنية محددة في تونس خلال ولاية انتخابية مثلاً، أو الخرطوم بعد 30 سنة من الحكم، علماً أن خبراء القانون الدستوري يجمعون على إمكانية تحقيق الانتقال الديمقراطي في ولايتين على الأكثر.

أما في الرباط فإيمانًا من إخوان المغرب بأن الشعب ملّ وسئم من فساد أحزاب سياسية -اعتبرت امتداداً للحركة الوطنية أو تلك التي خلقت لأهداف مخزنية في إطار هيكلة المشهد السياسي وفق توازنات معينة- لم يجد حزب العدالة والتنمية أحسن طريق لضمان أصوات الناخبين من رفع شعار "صوتك فرصة لمحاربة الفساد والمفسدين"، شعار سرعان ما تراجع لصالح شعار آخر كان عنواناً للتجربة البنكيرانية "عفا الله عما سلف"، وهو ما اعتبره كثر ضرباً عميقاً لمصداقيتهم ومؤشراً على تراجعهم.

مؤشرات التراجع

لم يفاجأ المتتبعون للشأن السياسي العربي بالنجاح الانتخابي الذي حققته "أحزاب الإسلام السياسي" بعد 2011، بالقدر الذي لم يتفاجأ به أيضاً العارفون ببنية وثوابت التاريخ السياسي للمشرق العربي وشمال إفريقيا بفشلهم في الحكم والتسيير قبل وبعد الربيع العربي مع التجربة السودانية مثلاً أو المغاربية. 

فإخوان السودان (الجبهة القومية الإسلامية) تحكم البلاد زهاء 3 عقود بعد انقلابهم على حكومة شرعية منتخبة، انتصاراً لرسالة السماء على أمل تنزيلها على الأرض، وإن تطلب ذلك خوض جهاد مقدس مع شركاء الأرض والتاريخ في جنوب السودان توحيداً لـ"دولة الشريعة"، ناهيك عن قمع الحريات وفشل البرامج الاقتصادية، كما تؤكد وقائع ومؤشرات وأرقام.

قد دفع الشعب السوداني -المغلوب على أمره- فاتورة هذه المخططات، ودشن دخوله عام 2011، بنصف وطن، بعد انفصال الجنوب وإعلان قيام دولته المستقلة لأسباب؛ أهمها عقم السياسة الإخوانية فيما يخص التعامل مع الآخر، لا سيما إن كان هذا الذي اعتبر قسراً آخر ليس إلا مكوناً أصيلاً من مكونات البلاد، فقط له هويته المميزة، التي من حقه التعبير عنها بالطريقة التي يشاء، لا التي تودها حكومة الخرطوم.

مع العلم أن الحكومة المركزية ليست في وضع قوي يسمح لها بالتسلط والتجبر، بدورها عاشت وتعيش على وقع أزمات اقتصادية مالية حادة؛ فسعر الدولار الأمريكي كان يساوي 10 جنيهات سودانية عندما سيطرت على الحكم، في حين نجده قد تضاعف حالياً مرات. كذلك، فإن ديون السودان الخارجية كانت عند مجيء حكومة الإخوان تساوي 13 مليار دولار، بينما تصل اليوم إلى 53 مليار دولار.

وبالرجوع إلى مؤشر منظمة الشفافية الدولية، نجد أن نسبة التضخم بلغت شهر أيار(مايو) الماضي 111%، كما ذكرت المنظمة أن 47% من السكان يعيشون تحت خط الفقر (أقل من دولار في اليوم)، ناهيك عن البيروقراطية التي تنخر جسد الإدارة السودانية، ما جعل من البلاد واحداً من البلدان الـ10 الأكثر فسادًا في العالم، وهو ما ينطبق على تجارب من المرجعية نفسها في المغرب وتونس ومصر.

فهل انتهت الأيديولوجية الإخوانية سياسيًا على الأقل؟

يجيب الحيداوي: "إن كبار مؤسسي الإخوان أعدموا واغتيلوا ولم تنتهِ الأخونة، السيناريو يعيد نفسه بألوان مختلفة؛ العمل على المستوى الميداني باق ومستمر في مصر وغيرها، وهو أساس وجودهم… لقد تغيّرت إستراتيجيّات "الإخوان" مع الوقت، بحيث يتلونون مع الظروف المحيطة".

وأضاف الخبير ذاته: "الإخوان المسلمون منسجمون مع فكرة التأسيس منذ حسن البنا إلى الآن، فعلى امتداد تاريخهم وقعت لهم "محن" كبيرة، استفادوا منها في الدعوة، منذ جمال عبدالناصر حتى السادات وإلى مبارك، فعاشوا داخل السجون دون مشاكل".

ويسترسل المتحدث قائلاً: "الأنظمة لم تفهم أن عمق هذا النوع من التربية الفكرية السياسية يكون داخل السجون، إنهم يستمرون بمنطق ووهم الابتلاء، وبه دخلوا إلى كل البيوت، وهكذا كلما أخمدت هذه الأيديولوجية تظهر على السطح تنظيمات أخرى تلتقي مع الجماعة الأم في مفهومي الولاء والبراء لترتيب الأوراق من جديد".

ومن جهته، اعتبر نادر حمامي هذا التراجع والانحسار التنظيمي "حتمية تاريخية يمليها تقدم سير المجتمع نحو العلمنة في الأعم الغالب، ولكنه بطيء، ويعرقله انعدام وجود إرادة حقيقية أكثر فاعلية "لأن كل المجهودات" ظلت قاصرة اجتماعياً بالخصوص"، منبهاً إلى أن "المشكلة الأكبر ليست الانحسار التنظيمي والسياسي، وإنّما الفكري والثقافي الذي يجب أن ينصب عليه المجهود التنويري".

عن "كيوبوست"

الصفحة الرئيسية