هل شكلت اعتداءات "شارلي ايبدو" منعطفاً بتناول قضايا المسلمين بأوروبا؟

هل شكلت اعتداءات "شارلي ايبدو" منعطفاً بتناول قضايا المسلمين بأوروبا؟


12/12/2019

لا يبدو أنّ متتبعي المشهد الديني الفرنسي، في نسخته الإسلامية، قد استوعبوا تبعات المحطة المفصلية التي جرت في اعتداءات "شارلي إيبدو"، المؤرخة في 7 كانون الثاني (يناير) 2015، والتي نزعم أنّ تبعاتها على تناول قضايا الإسلام والمسلمين والإسلاميين والإسلاموفوبيا، مختلفة عندما نقارن بين إصدارات ما قبل الاعتداءات وما بعد الاعتداءات، على غرار ما جرى في الساحة الأمريكية مع اعتداءات نيويورك وواشنطن، المؤرخة في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وقس على ذلك مع قضايا الحقل الديني في الساحة العربية، مباشرة بعد اعتداءات الدار البيضاء والرياض وعمان، وباقي الاعتداءات الإرهابية التي عرفتها عدة دول عربية وأفريقية وآسيوية وأوروبية.

ما يصدر عن أقلية تنهل من مشروع "الإسلام هو الحلّ"، أو "الإسلاموية هي الحلّ"، تتسبّب للمسلمين وغيرهم بمشاكل مجانية

ما يهمنا هنا تلك الوقفات مع ملفين اثنين في الساحة الأوروبية، خاصة الساحة الفرنسية، بمقتضى الحضور الكبير لنسبة المسلمين مقارنة بباقي الدول الأوروبية: يتعلق الأمر بملف الإسلاموفوبيا وملف الإسلاموية، نسبة إلى الحركات الإسلامية، وخاصة الإسلاموية الدعوية المجسدة في السلفية هناك في فرنسا، والإسلاموية السياسية المجسدة في التيار الإخواني عبر بوابة "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، الذي قام بعملية تمويه دلالي عبر تغيير الاسم نحو "اتحاد مسلمي فرنسا"، ثم الإسلاموية القتالية.
كي نأخذ فكرة أولية عن هذه التحولات في التفاعلات الإعلامية والبحثية، بصرف النظر عن مرجعيات ومضامين هذه التفاعلات، يكفي أن نطرح السؤال الآتي: كيف نفسّر صدور خمسة كتب في فرنسا، مخصصة للظاهرة الإسلامية الحركية، في غضون شهر واحد فقط، من نهاية العام الجاري؟

اقرأ أيضاً: لماذا أخفقت محاولات "أخونة" الإسلام في أوروبا؟
وبيان ذلك؛ أنّه قبل منعطف اعتداءات "شارلي إيبدو"، كانت مثل هذه الأعمال نادرة أساساً، وكنا بالكاد نسمع عن صدور كتاب في السنة، لهذا الاسم أو غيره، وكان عددهم معروفاً عند أغلب المهتمين، من قبيل أوليفيه روا، وجيل كيبل، وفرانسوا بورغا، بينما نعاين فورة في الإصدارات البحثية خلال الأعوام الأخيرة.

 


والحديث هنا عن خمسة كتب صدرت في الأسابيع الأخيرة، وهي كالآتي: كتاب للباحث والكاتب محمد صيفاوي بعنوان "التقية: كيف يُخطط الإخوان المسلمون لاختراق فرنسا"، وكتاب ثانٍ للباحث الفرنسي من أصل جزائري حواص صنيقر، يتطرق لتحولات الإخوان المسلمين في زمن "إسلام السوق" أو الزمن الرأسمالي، وكتاب للباحث الفرنسي من أصل مغربي، محمد لويزي، حول الجمهورية والإسلام، يتطرق فيه بالنقد والتفكيك لأهم معالم تعامل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مع الظاهرة الإسلاموية بين 2017 و2019، وكتاب رابع للكاتب الفرنسي، أيان حامل، وهو عمل مخصص لقضية طارق رمضان؛ حيث يشتغل على ارتباطات الرجل في الداخل الفرنسي والخارج، والتمويلات وما إلى ذلك، وأخيراً وليس آخراً، كتاب ألفه باحثان؛ ألكسندر دير فال وإيمانويل رزافي، بعنوان "المشروع"، ويتطرق لمعالم اشتغال المشروع الإخواني على اختراق القارة الأوروبية.
مؤكد بداية أننا إزاء أعمال بحثية، تختلف في المضامين والمرجعيات والرسائل، لكنّها تساهم بشكل أو بآخر، في تنوير الطريق للمتتبع والناقد والرأي العام وصناع القرار، في معرض قراءة الظاهرة الإسلامية الحركية في الساحة الفرنسية، بينما كان الأمر يتعلق من قبل بالاشتغال على القضايا التي تهم الجاليات المسلمة، من أصل عربي وأمازيغي على الخصوص، ومعها مشاكل الجالية في الاندماج والثقافة وتدبير المؤسسات التربوية والمساجد والمراكز الثقافية وغيرها، قبل أن نعاين اليوم، خاصة خلال العقدين الأخيرين، تحولات واضحة في الإصدارات البحثية، أي الانتقال من مقام الاشتغال على قضايا الإسلام، نحو الاشتغال على قضايا الإسلاموية، الدعوية والسياسية والقتالية، كأننا نعاين انتقال التعامل العربي المحلي مع ثنائية "الدين والدين"، نحو التعامل ذاته، بكل القلاقل النظرية والعملية المصاحبة له، ولكن في فرنسا، وليس في المنطقة العربية.
ومؤكد ثانياً؛ أنّ مضامين هذه الإصدارات، لا يمكنها إلا أن تغذي خطاب ظاهرة الإسلاموفوبيا، بشكل أو بآخر؛ لأنّ الحديث هنا لم يعد يتعلق بالمسلمين فحسب، أو قل الإسلام الثقافي، أو الإسلام التقليدي الذي كان يُجسّد تديّن الجيل الأول والثاني من المهاجرين المغاربة والعرب والأمازيغ، المسلمين، وإنما يهم فئة من الجيل الثالث والرابع، أي الأجيال التي تأثرت بالتديّن الإسلامي الحركي، ويكفي في هذه الجزئية الدقيقة، تأمل هذا التحول:
لم نكن نقرأ من قبل أيّة إصدارات أو أبحاث، أو حتى مقالات، تتطرق لموضوع التقية عند الأجيال الأولى من المهاجرين، بينما تطورت الأحوال هناك مع المسلمين، في منعطف مجتمعي عنوانه قدوم الإسلاموية، فكانت إحدى نتائج هذا المنعطف، أننا انتقلنا في مرحلة ما قبل اعتداءات "شارلي إيبدو" للحديث عن التقية في مقالات نادرة، وبالكاد في هذا الإصدار أو ذلك، من قبيل ما جاء في بعض أعمال الباحث الفرنسي، جيل كيبل، إلى مرحلة ما بعد تلك الاعتداءات، تطلبت إصدار كتاب خاص حول مفهوم ومشروع التقية، وهذا أمر كان لا مفكراً فيه من قبل؛ لأنّ المشروع الإسلاموي لم يكن قائماً أساساً، إلا أنّ حضوره واختراقه للمخيال الإسلامي في الساحة، تسبّب، ضمن محددات أخرى، في حتمية تسليط الضوء على حقيقة وتفاصيل أيّ مشروع إسلامي حركي يراهن على التقية من أجل خلخلة التديّن الإسلامي لدى الجاليات المسلمة.
من نتائج هذه المتابعات ذات المرجعية الإسلاموفوبية، لهذه الإصدارات وغيرها، وأخذاً بعين الاعتبار تعدّد المرجعيات الإسلاموفوبية، يمكن الجزم بأنّ الخطاب الإسلاموفوبي سيكون متفرعاً على عدة اتجاهات، ولكن يمكن تصنيفها في اتجاهين اثنين:
اتجاه يبقى معتدلاً في نقده للحضور الإسلامي، ينهل من مرجعية فرنسية تدعو إلى إعادة النظر النسبي في قانون 1905 المشهور، الذي سَطّر معالم تعامل الدولة الفرنسية مع العمل الديني، وكرّس الفصل القانوني الصارم بين السياسة والدين، متأثراً ببعض نتائج الثورة الفرنسية في 1789، والتي جاءت للقطع مع انزلاقات المؤسسة الدينية الكنسية، ومن بين أهم رموز هذا الاتجاه العلماني المعتدل، نجد على الخصوص المؤرخ جان بوبيرو، رجل مفهوم العلمانية في فرنسا وأوروبا، من فرط الإصدارات التي حررها والتي تتطرق لمفهوم العلمانية، لعلّ أهمها كتابه المشهور "العلمانيات الفرنسية السبع"، ويمكن أن نضيف أسماءً أخرى، من قبيل الفيلسوف ريجيس دوبريه الذي كان أحد مرافقي تشي غيفارا، وأحد رموز اليسار المناهض للدين منذ بضعة عقود، لكنّه قام بعدة مراجعات فكرية، أفضت إلى انخراطه في نقاشات علمية رصينة مع رجال الكنيسة حول المسألة الدينية.

 

لا بد من معرفة تفاصيل أيّ مشروع إسلامي حركي يراهن على التقية من أجل خلخلة التديّن الإسلاموي لدى الجاليات المسلمة

وهنا، في المقابل الاتجاه الذي يهمنا أكثر في هذه المقالة، أي الاتجاه الإسلاموفوبي المتشدد أساساً، وكان في ما يُشبه حالة كمون قبل اعتداءات "شارلي إيبدو"، وهو الاتجاه الذي لا نتوقع منه في حالة قراءة الكتاب الذي يتطرق لخطاب ومشروع التقية مثلاً، أن يُعيد النظر في خياره الإسلاموفوبي المتشدد إن لم نتحدث عن اتجاه إسلاموفوبي متطرف، بل سيزداد هذا الخيار تشدداً، وبالنتيجة، سيُصبح أكبر تطرفاً في تبني مواقف معادية ضدّ كلّ ما له علاقة بالمسلمين، خاصة مع أتباعه الذين ينهلون من مرجعية عرقية أو مرجعية مسيحية محافظة، بالأحرى مرجعية يسارية متشددة، لم تقم بمراجعات في التعامل مع المسألة الدينية، ونجد من رموز هذا الاتجاه العديد من الأسماء، لعلّ أشهرها الكاتب و"الظاهرة" الإعلامية هناك، إريك زمور، أو الفيلسوف آلان فلنكنكروت، أو الباحث ألكسندر دير فال، سالف الذكر، وغيرها من الأسماء التي تحظى بمتابعة كبيرة، على الصعيدين الإعلامي والبحثي.

اقرأ أيضاً: ما حلمت به أوروبا من تخريب المعنى يتحقق في أمريكا
والملاحظ في هذا السياق، ونحن نتحدث عن دولة أوروبية تضمّ أكبر جالية من المسلمين؛ حيث يُناهز عددهم سبعة ملايين، أنّ هذه الأعمال تتطرق لأقلية إسلاموية ضمن الجالية، لا يتجاوز عددها الآلاف، ورغم أنّ غالبية المسلمين المعنيين هنا، وهم الأصل، منذ عقود وليس منذ سنين، مندمجون في الحياة المجتمعية، حتى إنّ منهم العديد من النخب السياسية والفكرية والرياضية والفنية وغيرها، إلا أنّ ما يصدر عن هذه الأقلية التي تنهل من مشروع "الإسلام هو الحلّ"، أو "الإسلاموية هي الحلّ"، من باب التدقيق المفاهيمي، تتسبّب للمسلمين وغير المسلمين في مشاكل مجانية، هم في غنى عنها، كما لو أنّ المسلمين في فرنسا كانوا يعيشون خصاصاً في المشاكل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية