هل طلبتَ من أحد يوماً أن ينطق الشهادتين؟

هل طلبتَ من أحد يوماً أن ينطق الشهادتين؟


24/07/2018

محاكم تفتيش القلوب

قبل مدة وفي بث مباشر طلب منّي أحدهم أن أنطق الشهادتين على الملأ لأُثبت له أني مسلم!!.. بالطبع رفضت ذلك.. تكرّر أمامي هذا الموقف في كثير من النقاشات والمحاضرات والمناظرات التلفزيونية، كنت أستهجنه كثيراً وشعرت بمدى سوئه حينما حصل معي شخصياً.

يحضُرني هنا تصرف تاريخي للمفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد حين رفض نطق الشهادتين في المحكمة مبرّراً ذلك بقوله: "لم أنطقها حتى لا أؤسس لوجود سلطة تفتش في قلوب الناس"، فأصدرت المحكمة حكماً بردّته عن الإسلام والتفريق بينه وبين زوجته، وبعد لجوئه الاختياري إلى هولندا كان أول ما بدأ به أبو زيد محاضراته في جامعة ليدن البسملة والنطق بالشهادتين.

نصر أبو زيد رفض نطق الشهادتين في المحكمة حتى لا يؤسس لوجود سلطة تفتش في قلوب الناس

أبو زيد رفض ذلك حينها، مع أنّ نطق الشهادتين كان من الممكن أن يجنّبه ويلات كثيرة عاناها فيما بعد، خسر من سمعته وسيرته وصفو حياته الكثير من أجل هذا الموقف.

محاكم التفتيش المسيحية في القرون الوسطى والتي كانت حرفياً تفتّش في قلوب وعقائد الناس وتعمل باسم قمع "البدع الهرطوقية والردة عن الدين"، كانت سلطة قضائية كنسية استثنائية، حتى أنّ البابا غريغوري التاسع، عمّمها في جميع أنحاء العالم المسيحي التي تقع تحت سلطته الدينية؛ فإذا كان لدى المسيحيين القدامى محاكم تفتيش واقعية، فنحن لدى مجتمعاتنا محاكم تفتيش معنوية لا تُبقي صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها.

اقرأ أيضاً: نصر حامد أبو زيد غرّد خارج السرب فأزهرت كلماته ومات غريباً

التفتيش في قلوب وضمائر الناس، آفة مستشرية لدى مجتمعاتنا العربية والإسلامية، عندما يحاول الظلاميون أن يضعوا أنفسهم مكان الله بمحاسبة الأفراد بناء على ما يعتقدونه تجاههم، ولو تسنّى لهم ربما بناء جنة ونار على الأرض لما توانوا لحظات.

الموقف الذي ذكرته أثّر فيّ كثيراً، وللأسف تكرّر بصور وأشكال عِدّة، كأنْ يسألني شخص وأحياناً قد لا أكون أعرفه قبل نقاشي "أنت مسلم أم ماذا؟"، وكأنّه لا يستطيع أن يتعامل معك كإنسان إلا إذا تأكّد أنك تشبهه تماماً، يجب أن يلعب لعبته الخبيثة في تصنيفك ليبدأ بعدها في جلدك واتهامك.

رغم أنّ للإسلام أفهاماً شتّى مايزال البعض يظن أنّ ما يتبنّاه هو منتهى العلم والفهم والحق والحقيقة

رغم أنّ للإسلام أفهاماً شتّى، لكن مايزال البعض يظن أنّ ما يتبناه هو منتهى العلم والفهم والحق والحقيقة، هو يجنح إلى تكفيرك لمجرد أنك تقول أفكاراً ليست في رأسه وجديدة على عقليته التي "لا تخطئ".

أسوأ ما يمكن أن نذهب إليه في أي نقاش هو محاكمة أفكار من يقابلنا، في هذه الحالة ستكون الأمور أشبه بالصراخ وأقرب للتباغض والنزاع.

ليس لأحد الحق في محاكمة أفكار الآخرين، لنا الحق فقط في نقاش الفكرة وما حولها، ليس لنا الحق في التفتيش في ضمائر الناس وحشر أنوفنا فيما يفكرون ويعتقدون، وبناء أحكام مسبقة عنهم.

لا نملك الحق في التفتيش في ضمائر الناس وحشر أنوفنا فيما يفكّرون ويعتقدون

قد نقبل أن تحاكم الأفكار بمقاييس المنطق والعلم والمنهج الأكاديمي السليم إن كنا نعمل في ميدان ثقافي فكري، لكن لا يصح أن نحاكم الأشخاص بناءً على أفكارهم ونصنفهم إلى شخص جيد إن وافقني فكري ومعتقدي، وسيئ ملعون خائن إن خالفه.

الإنسان العصري الحديث الذي ننشده لا يقبل أن يُفتَّش في ضميره وأن يُحدَّ من تفكيره وأن يتم ترهيبه بسبب أفكاره، الحرية غالية ومن حرية الفكر والمعتقد تنطلق كل الحريات الأخرى.

اقرأ أيضاً: كيف أصاب الناطقون بلسان السماء الإصلاح الديني بالشلل؟

في السويد مثلاً يُعد من العيب أن تسأل الإنسان عن ثلاثة: دينه أو طائفته، وراتبه الشهري، وتوجهه السياسي، وذلك حتى يبقى الخيط الناظم والابتدائي للعلاقة هو الإنسانية ولا شيء غيرها، ذلك أدعى ألا يصنّفه أحد ويضع الحدود والسدود بناء على اعتقاده الديني، أو يبغضه بسبب توجهه السياسي لو كان ضدّه، أو يفرِط في تحمّسه له إن كان ممن يتفق معه، أو ينظر له نظرة دونية بسبب سوء وضعه المادي، أو نظرة تبجيلية إن كان مقتدراً وميسوراً.

وددتُ دوماً أن ما تُعمره وتلطفه الإنسانية لا يهدمه ويفجره حقد النفوس وتعصبها.. وددتُ ألا ننقّب في ضمائر وأفكار بعضنا وألاّ نهرول لفضحها والتشهير بأصحابها، وأن نتخلص من العقلية الاتهامية للآخر وإصدار الأحكام، ونعتبر أي فكر أو اعتقاد يخالف السائد أنّه رجس من عمل الشيطان، وددتُ لو أنّ كل هذا ينتهي ونعيش بسلام.

الصفحة الرئيسية