هل مستقبل "بي بي سي" على المحك؟

هل مستقبل "بي بي سي" على المحك؟


12/05/2022

ترجمة: محمد الدخاخني

غالباً ما يكون أداء حكومة رئيس الوزراء البريطانيّ، بوريس جونسون، ضعيفاً، لكنّها لا تتوقّف أبداً عن التّرويج لنفسها على أنّها عالية الأداء، كثيراً ما يصف جونسون إنجازاته بأنّها "رائدة على مستوى العالم"، على الرّغم من أنّ الحقائق تقول خِلاف ذلك في كثير من الأحيان. وهكذا، عندما تَعِد وزيرة الثّقافة البريطانيّة، نادين دوريس،  بـ "عصر ذهبيّ" للبثّ البريطانيّ، للتّنافس مع خدمات بثّ من قبيل "نتفليكس" و"أمازون"، يسود شكّ كبير، لا سيما أنّ "بي بي سي" ما تزال الأشهر في العالم، ومن حيث حجم طاقم العمل، أكبر كيان إذاعيّ في العالم.

لدى "بي بي سي" 22,000 موظّف، من بينهم 2,000 صحفي، ومن غير الواضح كيف سيبدو "العصر الذّهبيّ" الجديد الذي تُبشّر به دوريس، لكنّ البعض يرصد ثأراً ضدّ كيانات إذاعيّة حالية، بما في ذلك "بي بي سي" والقناة التّلفزيونيّة المستقلّة الرّابعة.

خضعت "بي بي سي"، لتحقيقات لا حصر لها حول معايير التّحرير بها، ومستقبلها، وحيادها (أو نقصه)، وتمويلها. ويزعم معلّقون يساريّون، أنّها عشّ لشخصيّات المؤسّسة اليمينيّة

بدأت "بي بي سي" عملها قبل قرن من الزّمان بالضّبط، ومنذ عام 1922، غالباً ما كانت هناك علاقة حبّ-كره بين الحكومات البريطانيّة والكيان الإذاعيّ، الذي يُموّل من خلال "رسوم التّرخيص"، وهي ضريبة تُفرض على كلّ من يشاهد التّلفزيون، وتُحدّد الحكومة المبلغ؛ هذا يعني أنّ "بي بي سي" مستقلّة من النّاحية التّحريريّة، لكنّها في الغالب من النّاحية الماليّة كرة قدم سياسيّة، وتركل دوريس كرة القدم هذه الآن.

التمويل من الشركات الكبرى

"بي بي سي"، التي كانت تسمّى في الأصل "شركة الإذاعة البريطانيّة"، مُوّلت في البداية من قِبل شركات كبرى، من قِبل بارونات وسائل الإعلام عالية التّقنيّة في عشرينيّات القرن الماضي، صُنّاع "اللاسلكيّ"، هذا الاختراع الجديد الذي نُطلِق عليه الآن الراديو.

منظر عام لمكتب البي بي سي في لندن

خسر المموّلون الأموال؛ لذلك تدخّلت الحكومة البريطانيّة، وأعادت تسميتها "هيئة الإذاعة البريطانيّة"، وحدّدت مؤخّراً رسوم التّرخيص عند 159 جنيهاً إسترلينيّاً سنويّاً، وهو ما يُعادل 43 بنساً في اليوم فقط، وتسمح هذه الرّسوم للبريطانيّين بالوصول إلى العديد من القنوات التّلفزيونيّة والإذاعيّة الوطنيّة والمحلّيّة، والبرامج، والبرامج الإذاعيّة، والأفلام، والمسلسلات، والأخبار الدّوليّة، وخدمات الاستدراك.

رسوم الترخيص

إنّ شراء صحيفة بريطانيّة واحدة ذات جودة عالية، مثل "التّايمز" أو "الغارديان"، يُكلّف أكثر من 2 جنيه إسترلينيّ في اليوم، لكن رسوم التّرخيص، وبالتّالي "هيئة الإذاعة البريطانيّة" نفسها، مهدّدة الآن.

جمّدت دوريس بالفعل رسوم التّرخيص لمدّة عامين، وتقول إنّه ينبغي إلغاؤها بالكامل، وهي غير واضحة بشأن كيفيّة تمويل "هيئة الإذاعة البريطانيّة"، فيما بعد.

الخلاف حول التّمويل، وعدم اليقين بشأن المستقبل، يُهددان بتدمير "بي بي سي" التي تعد واحدة من أعظم المؤسّسات البريطانيّة وأحد أكثر مصادر الأخبار الموثوقة في العالم

 إنّ دوريس شخصيّة غير اعتياديّة؛ فهي مؤلّفة بعض الرّوايات، لكنّها تعرّضت لمراجعات متباينة لكلّ من رواياتها وسياساتها. وصفت "الديلي تلغراف" روايتها "The Four Streets" (الشّوارع الأربعة)؛ بأنّها "أسوأ رواية تمّ الاطّلاع عليها خلال 10 أعوام"، وقدّمت "النّيوستيتسمان" أسوأ نقد ممكن لعمل روائيّ، حيث كتبت أنّ "دوريس ليست جيدة جداً في اختلاق الأشياء".

بصفتها وزيرة للثّقافة، اتُّهمت مراراً وتكراراً بأنّها تجهل طبيعة وظيفتها، مشيرةً، على سبيل المثال، إلى أنّ القناة الرّابعة المستقلّة تُكلّف أموال دافعي الضّرائب البريطانيّين، وهذا غير حقيقيّ.

اقترح أحد النّقاد، بسخرية؛ أنّ دوريس "كتبت من الكتب أكثر ممّا قرأت"، وبعد ذلك، في مقابلة غريبة، أوضحت أنّ وظيفتها تشمل ضمان الوصول إلى "ملاعب التّنس"، وليس إستادات التّنس، وأنّ المشاهدين يمكنهم "تحميل بثّ" البرامج التّليفزيونيّة (ربما كانت تقصد تنزيل خدمات البثّ؟)، وأنّ الإنترنت في بريطانيا سيكون الأكثر أماناً في العالم، كان المعنى مرّة أخرى غير واضح.

تردّ دوريس على ذلك بأنّها تخلط الكلمات لأنّها تعاني من "عسر القراءة" (الديسلكسيا)، لكنّ منتقديها قلقون من أنّها تسعى إلى ثأرٍ سياسيّ يهدف تحييد "بي بي سي" والقناة الرّابعة ونقّاد آخرين؛ لأنّها، وزملاءها المحافظين، ينظرون إلى الصّحفيّين على أنّهم يساريّون، أو ليبراليّون، أو متحيّزون ضدّ حزبها.

قص أجنحة "بي بي سي"

في هذا، تسير دوريس على الأقلّ على خطى العمالقة. كلّ رئيس وزراء بريطانيّ مهمّ في الذّاكرة الحيّة، سواء على اليسار أو اليمين السّياسيّ، كانت لديه خلافات مع "بي بي سي"، حاول كثيرون قصّ أجنحتها.

 كانت تغطية "بي بي سي" لأزمة السّويس، عام 1956، مكروهة من قِبل من هم في السّلطة، وفي الثّمانينيّات من القرن الماضي، حاولت مارغريت تاتشر، حرفيّاً، إسكات تغطية "بي بي سي" للجماعات شبه العسكريّة الجمهوريّة خلال الاضطرابات التي وقعت في أيرلندا الشّماليّة. أرادت تاتشر، أيضاً، إلغاء رسوم ترخيص "هيئة الإذاعة البريطانيّة"، وإجبارها على بثّ إعلانات.

وطالب رئيس الوزراء العماليّ، توني بلير، بإجراء تحقيق في التّغطية الانتقاديّة التي قامت بها الهيئة لحرب العراق، عام 2003، وقد أدّى ذلك إلى استقالة رئيسها ومديرها العامّ.

في القرن الماضي، خضعت "بي بي سي"، أيضاً، لتحقيقات لا حصر لها حول معايير التّحرير بها، ومستقبلها، وحيادها (أو نقصه)، وتمويلها. ويزعم معلّقون يساريّون، مثل أوين جونز؛ أنّ "بي بي سي" هي عشّ لشخصيّات المؤسّسة اليمينيّة.

أعظم المؤسّسات البريطانيّة

ربما تشير عقود النّقد ببساطة إلى أهميّة "بي بي سي" في الحياة العامّة والثّقافة البريطانيّتين، لكن دوريس قد تُغيّر ذلك. إنّ الخلاف حول التّمويل، وعدم اليقين بشأن المستقبل، يُهددان بتدمير واحدة من أعظم المؤسّسات البريطانيّة وأحد أكثر مصادر الأخبار الموثوقة في العالم.

رئيس الوزراء البريطانيّ، بوريس جونسون

إنّني متحيّز لأنّني عملت في "بي بي سي" لأعوام، ولذلك، أقترح، بأدب، أن يقوم شخص ما في وزارة دوريس بالعودة إلى تحقيق "بيكوك"، الذي أُجري في الثمانينيات، والذي كان بمثابة مراجعة لتمويل "هيئة الإذاعة البريطانيّة"، بأمر من مارغريت تاتشر. استنتج البروفيسور بيكوك، لدهشة تاتشر، أنّه بدلاً من بث الإعلانات أو دفع اشتراكات؛ فإنّ رسوم ترخيص "بي بي سي" هي "الخيار الأقلّ سوءاً" لضمان استمرار هذا الكنز الوطنيّ. للأسف، حتّى إذا أُقنِعَت دوريس في النّهاية أنّه من الخطأ تقويض المؤسّسة البريطانيّة الوحيدة التي كانت حقّاً "رائدة على مستوى العالم" على مدى قرن من الزّمان، فإنّ حالة عدم اليقين التي أوجدتها تعني أنّ بعض الأضرار التي حدثت بالفعل سيكون من الصّعب إصلاحها.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

غافن إسلر، ذي ناشونال، 4 أيار (مايو) 2022

https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2022/05/04/the-future-of-the-bbc-and-its-funding/




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية