هل من حقّ جماعات الإسلام السياسي تمثيل نفسها سياسياً؟

هل من حقّ جماعات الإسلام السياسي تمثيل نفسها سياسياً؟

هل من حقّ جماعات الإسلام السياسي تمثيل نفسها سياسياً؟


01/01/2024

 

إنّ الهدف الواضح والمعلن لجماعات الإسلام السياسي، هو الوصول إلى السلطة، وفي حالة عدم استطاعتها الوصول للسلطة بالعنف أو الثورة أو الانقلاب، فإنّ الخيار الوحيد أمامها هو أن تسعى لتمثيل نفسها سياسياً داخل النظم القائمة، في محاولة للسيطرة من الداخل، وللوصول إلى السلطة باستغلال الآليات الديمقراطية، وبعد الوصول إليها تهدف هذه الجماعات لاستخدام نفس الآليات الديمقراطية لتغيير بنية السلطة ذاتها لصالحها؛ أي لتطبيق ما تسميه النظام الإسلامي أو الحكم الإسلامي.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل من حق هذه الجماعات تمثيل نفسها سياسياً؟ إنّ هذه الجماعات، وبسبب سيطرتها على المجال العام الشعبي وانتشارها في الخطاب الديني، تدّعي لنفسها حقوقاً سياسية تؤهلها للتمثيل السياسي، ومن ثم الانخراط في النظم السياسية القائمة، وفي هذا السياق، فإنّ السؤال عن مشروعية التمثيل السياسي للجماعات الدينية يصير ملحاً.

عدم الوعي بخطورة ادعاء الجماعات الدينية لحقوق سياسية، هو نتيجة لعدم القدرة على التمييز بين الديني والسياسي

وأقول ابتداء، إنّ عدم الوعي بخطورة ادعاء الجماعات الدينية لحقوق سياسية، هو نتيجة لعدم القدرة على التمييز بين الديني والسياسي، وللخلط بين حقوق الدين وحقوق الدولة، ولانعدام الفواصل الحاسمة بينهما، مما يجعل الجماعات والتيارات الدينية، أو المدعية لنفسها شرعية دينية، تتخذ وظائف سياسية. ويرجع هذا إلى فشل المجتمعات العربية في تجذير الحداثة سياسياً، وهو التجذير الذي كان يمكن أن يفصل حقوق السيادة السياسية بالكامل عن المجال الديني. ونظراً لأنّ تحديث المجتمعات العربية كان منقوصاً، ومشوّهاً في المجال السياسي بوجه خاص، فقد ظلّت الجماعات الدينية تقوم بوظائف سياسية؛ إذ لم تنجح مؤسسة الدولة في الامتلاك الكامل للمجال السياسي والسيطرة عليه، وفشلت في تحييده دينياً، ولم تنجح في أن تكون هي المجال الحصري للسيادة السياسية، فظهرت بجانبها جماعات الإسلام السياسي لتشاركها المجال السياسي، وتنافسها في حقوق السيادة.    

التمييز بين السيادة والحاكمية

    إنّ الدين في ذاته لا يطمح لأن يكون مصدراً للسيادة السياسية، وذلك حسب طائفة كبيرة من المفكرين، وعلى رأسهم علي عبد الرازق، في كتابه "الإسلام وأصول الحكم". السيادة السياسية هي التعبير السياسي عن سيادة شعب ما، طالما تجسدت هذه السيادة في دولة. أما الحاكمية لدى الإسلام السياسي؛ فهي نقل لنمط السيادة السياسية إلى المجال الديني، بناء على تصور الإله باعتباره حاكماً مثل البشر، وبما أنّ الحاكمية قائمة على مماثَلة بين الحاكم البشري والإله، فهي تدخل ضمن آليات الخطابة والإقناع، واستمالة الجمهور المتدين بطبعه.

لأنّ تحديث المجتمعات العربية كان منقوصاً، ومشوّهاً في المجال السياسي فقد ظلّت الجماعات الدينية تقوم بوظائف سياسية

ويفترض مبدأ السيادة الحديث أنّ الدين يدخل ضمن الحقوق السيادية للدولة؛ إذ إنّ من حقوق السيادة السياسية السيطرة على المجال الديني؛ فيجب حسب هذا المبدأ أن تسيطر الدولة على هذا المجال، وعلى كل ممارساته؛ فشؤون الدين هي من حقوق السيادة السياسية للدولة، بمعنى أنّه يجب أن تخضع المؤسسات والجماعات الدينية للدولة لا العكس، وإلّا انقلبت الدولة إلى دولة دينية خاضعة لكهنوت ديني سلطوي، أو أن تتحوّل إلى الطائفية الدينية على أحسن الفروض.

أما فكر الحاكمية، فمنشأه فراغ سياسي كان يجب أن تملأه الدولة العربية، لكنّها لم تفعل، جراء عدم اكتمال نمو هذه الدولة عند العرب.

خلفية من تاريخ الحاضر

إنّ فكرتنا القائلة إنّ ظاهرة الإسلام السياسي واستفحالها في العالم العربي، كانت نتيجة عدم اكتمال الدولة الحديثة عند العرب، تؤكدها الأحداث التي شهدتها الدول التي سقطت بعد ما يسمى بالربيع العربي، ذلك لأنّ الذي حدث أنّ الدولة ذاتها انهارت، بعد أول تحرك سياسي مسلح للإسلام السياسي. فنظراً لأنّ بناء الدولة الحديثة غير مكتمل؛ بل ومشوه في العالم العربي، فلم تكن الدولة حينئذ قادرة على التعامل مع خطر الإسلام السياسي، وانهارت أمام ما أحدثه من فوضى. فلو كانت هذه الدول قد شهدت نمواً طبيعياً واكتمالاً لبنائها، لكانت استطاعت المواجهة والصمود أمام الإسلام السياسي، وهو ما لم يحدث، ولو كانت تلك الدول قد استطاعت تطوير نظم تعليمية حديثة تنقل شعوبها من الجهل والخرافة إلى التنوير، لما سقطت هذه الشعوب، من الأصل، في ألاعيب الإسلام السياسي، ولما صارت هدفاً لعمليات غسيل المخ، التي يبرع فيها مستغلاً التدين الفطري للمسلمين، فلم تكن الأنظمة الحاكمة وحدها هي التي انهارت؛ بل انهارت الدول نفسها من جراء الضعف الأصلي والهشاشة المتأصلة فيها.

السيادة السياسية هي التعبير السياسي عن سيادة شعب ما، طالما تجسدت هذه السيادة في دولة

ماذا يحدث عندما تتخذ الجماعات الدينية لنفسها وظائف سياسية، وتدعي لنفسها حقوقاً سياسية؟ يحدث ما حدث في أوروبا في عصر النهضة ومطلع العصر الحديث: حروب أهلية بين الطوائف الدينية وزوال لسلطة الدولة، وعند تطبيق منطق الحاكمية على المجال السياسي، يحدث ما وصفه هيجل في كتاباته اللاهوتية الأولى، وما وصفه سبينوزا في رسالته في اللاهوت والسياسة، وهو الانتقاص من سلطة الدولة والضعف العام في الكيان الاجتماعي كله. ليس للجماعات الدينية حقوق سياسية، فالحق السياسي الوحيد لا يتجزأ، وهو حق الشعب وحده، الذي لا يمكن أن يتمثل إلّا في كيان سياسي واحد، هو الدولة القومية. أما الادعاء بحق الجماعات الدينية في نصيب من المجال السياسي، وفي دور ووظيفة سياسية تقوم بها، فهو يأتي من الفكر ما بعد الحداثي، الذي يضفي على الاختلاف الثقافي والديني طابعاً سياسياً، ويمنحه حقّ التمثيل السياسي، الذي يسمح بممارسة سياسات الهوية "Identity Politics"، تلك السياسات التي تنبع من الانتماء الثقافي والديني، لا الانتماء القومي.

إلحاق سيادة سياسية والاعتراف بحق تقرير المصير السياسي لجماعات دينية إنقاص من السيادة الشعبية ومن الديمقراطية

تهديد الهويات الدينية المطالِبة بتمثيل سياسي لسيادة الدولة

إنّ إلحاق سيادة سياسية والاعتراف بحق تقرير المصير السياسي لجماعات دينية، هو إنقاص من السيادة الشعبية، ومن ثم من الديمقراطية ذاتها؛ بمعنى إنّ أيّ كيان أقل من الدولة، ينتمي إليه الناس بصورة تلقائية حياتية غير سياسية، مثل؛ الجماعة الدينية، غير قادر بطبيعته على العلو على مثل هذا المستوى الأدنى، والأقل من الوحدة ومنافسة الوحدة التي تمثلها الدولة. فالدولة وحدها هي التي تمثل الكيان الأعلى، والانتماء الأشمل والأكبر، أما أي انتماء آخر قطاعي؛ أي ديني أو طائفي أو غيره، فهو غير قادر على الوصول إلى الإلزام الأعلى والأشمل، الذي تمثله العضوية في دولة ذات سيادة سياسية شعبية. وعند تطبيق مبدأ التعددية بإعطاء الانتماءات الدينية، أو غيرها، حق الإلزام السياسي، تتشتت ولاءات الفرد بين عدد فوضوي كبير من الهويات، ويضيع ولاؤه وانتماؤه للدولة، وهما الولاء والانتماء الأصليان والطبيعيان، كما تصاب الأخلاق العامة بالتشتت والفوضى؛ إذ تصير هناك أخلاق دينية، وأخلاق مهنية أو وظيفية، وأخلاق نقابية أو حزبية، وأخلاق تجارية؛ وفي هذه الحالة ينتفي أي مبدأ يتم على أساسه تنظيم المجتمع هرمياً، باعتبار أنّ الدولة هي الانتماء الأعلى، ويظهر الانتماء للدولة والواجب نحوها، على أنّه مجرد أحد الانتماءات والواجبات الكثيرة المتساوية القيمة.

وعند اكتساب الهويات الدينية أو الطائفية لصفات سياسية، وعند ادعائها لحقوق سياسية، تضيع سيادة الدولة السياسية على هذه القوى الدينية والطائفية، وتزول صفتها الآمرة والملزمة النابعة من سيادتها السياسية الضائعة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية