هل من مدينة واحدة بناها الإسلاميون؟

هل من مدينة واحدة بناها الإسلاميون؟


29/11/2020

دغدغت فصائل الإسلام السياسي، بأطيافها المختلفة، مشاعر البسطاء؛ بحديث مكرّر عن مجد المسلمين الضائع، وحضاراتهم التي أظلّت العالم، مبشّرين بأنهم وحدهم القادرون على استئناف الإقلاع الحضاري، وتجسيد روعة الحضارة الإسلامية التي تغزلوا طويلاً في ملامحها المختلفة.

لكن ربما قليلٌ منهم تعرّضوا لجانبٍ جماليّ عظيم من جوانب الحضارة الإسلامية، وهو عمارة المدن والنمط المعماري المميز، الذي لم تبقَ له في حياتنا شواخص كثيرة؛ أعني عمارة الحياة، طرائق العيش، شخصية المدن، وروحها وهويتها.

اقرأ أيضاً: هكذا ستنهار الحضارة الغربية داخلياً

كلّما حاولنا الحديث عن أشهر المعالم المعمارية الشرقية، التي عكست لحظات الصعود الحضاري، واستعراض نماذج ومفردات مجدنا الضائع، لم تسعفنا الذاكرة، عادةً، سوى بشواخص تنتمي إلى قرون بعيدة، بينما لا نجد نماذج تنتمي لقرن أو قرنين أو ثلاثة مرّت.

سنجد نماذج مثل؛ تاج محل، الذي يأتِ على قمة أشهر أبنية العمارة الإسلامية، وفي الأصل هو قبر عظيم بناه إمبراطور المغول شاه جهان؛ حزناً على زوجته وتخليداً لذكراها.

لا يهتم الإسلاميون بالفنون ولا ينفقون عليها لضعف صلتهم بثقافة الجمال

لا شكّ في أنّنا أمام معنى عظيم، قلّ نظيره في عالمنا، هذا المبنى الرائع الذي استغرق بناؤه عشرين عاماً، ليكون تحفة معمارية تجمع فنون العمارة الإسلامية، يأتي بعده قصر الحمراء في الأندلس، أو إسبانيا، الذي بناه أمراء ينتمون إلى آخر السلالات العربية التي حكمت الأندلس، وهم بنو نصر، وقد بنِيَ في القرن الرابع عشر الميلادي، وتأتي في السياق نفسه نماذج معدودة؛ كمسجد قرطبة في الأندلس أيضاً، ومسجد السليمانية في إسطنبول، وقبّة الصخرة في القدس، ومسجد سامراء في العراق، وقلعة حلب في سوريا، ومساجد متعددة في القاهرة الفاطمية، فضلاً عن الأسبلة، والخانقات، وغيرها من الآثار المهملة في مصر.

اقرأ أيضاً: خالد عزب: العمارة الإسلامية ثمرة اشتباك السياسة والفلسفة والدين

من بين 57 دولة إسلامية، لم نجد دولة واحدة ترعى نمطاً معمارياً يستعيد تلك الملامح، التي ظهرت في العمارة الإسلامية، سواء في النماذج التي ذكرناها، أو التي لم نذكرها، مجدداً حضور أبجديات تلك الثقافة العظيمة.

تجوّل في أيّة عاصمة عربية؛ ستجد ناطحات السحاب وأبنية الإسمنت المسلَّح، ونوافذ الألمنيوم والحديد، ستجد كلّ مفردات العمارة الغربية وشواخصها، في المباني واللافتات والإعلانات، لكنّك لن تجد، إلّا فيما ندر، ملامح شرقية تحدِّد الشخصية والهوية الحضارية.

حتى في العواصم التي بنيت من العدم، لم ترزق بعقلية تستعيد أهم ما في العمارة الشرقية من ملامح، عقلية تهضم هذا الجمال، وتصوغ منه عمارة يتعانق فيها الخشب مع النحاس، والصدف مع الرخام والمرمر، وكلّ مفردات البيئة، الغنية أصلاً بعناصر هذا الفنّ، الذي تتجسد فيها روائع العمارة الشرقية؛ في الأسقف الخشبية والأعمدة الرخامية؛ التي تزدان بالرسوم النباتية، وأنظمة الإضاءة التي سبقنا بها تجارب الغرب، فضلاً عن نظم التهوية التي كان من الممكن لو تمّ تطويرها والنسج على منوالها، أن تنخفض، إلى حدّ بعيد، تكلفة تكييف الهواء في مدننا، التي لا روح فيها، ولقدّمنا إلى العالم خدمة عظيمة ترشّد استخدام الطاقة المبدَّدة.

كلّ مفردة من مفردات العمارة الإسلامية حافلة بالإعجاز الفني والوظيفي

إنّ كلّ مفردة من مفردات العمارة الإسلامية حافلة بالإعجاز الفني والوظيفي؛ تأمّل حمّاماتنا القديمة، وأنظمة تسخين المياه والبخار، وطريقة التعرج في الخروج من الحمّام، التي تضمن أن يبرد جسم الشخص قبل الخروج، فلا يتعرض لنزلة برد بعد حمّام منعش.

تأمّل طريقة بناء البيت، وكيف كان الإنسان يكتفي من كلّ شيء يحتاجه، في استحضار لمعنى البيت المنتِج، بديلاً عن البيت الذي يستهلك كل شيء، ويصدر لنا الغرب اليوم، في أحدث صيحاته، المطبخ الذكيّ، الذي أصاب الأسرة بالكسل، مقابل الخصوصية التامة التي كان يضمنها لساكنه؛ من مطحنة الغلال، إلى بئر الماء، إلى حديقة حافلة بكل الثمرات.

تأمّل المساجد والأسبلة في القاهرة القديمة، وعاين تلك الحالة الروحية التي تبعثها فيمن يطأ تلك المعالم، لتدرك أنّ الروح التي تقف خلف تلك الشخوص؛ هي روح عظيمة، جديرة بأن تبعَث في مبانٍ ومعانٍ يراها الناس ويلمسونها، وتصافح وجوههم وأرواحهم كلّ يوم.

اقرأ أيضاً: "تفكيك منابر أثرية" يثير شكوكا بشأن العناية بالآثار في مصر

لم يهتم الإسلاميون، أو غيرهم، في الحقيقة، ببناء مدينة واحدة تذكّر بعظمة هذه الأمة، أو قدراتها؛ أنفقوا المليارات على الدعاية والسياسة، ولو أنفقوا عُشرها على بناء مدينة أو صيانة أثر إسلامي عظيم، لكان أجدى من كلّ ما فعلوه.

لكنّ السؤال هو: لماذا لم يفعلوا ذلك؟ لماذا لم يبنوا مدينة على الطراز الإسلامي أو يرمّموا أثراً إسلامياً واحداً، أو يجعلوا وقفاً للإنفاق على صيانة الآثار الإسلامية في العالم؟

أظنّ أنّ السبب، برأيي، هو ضعف في ثقافة الجمال والإحساس به، ضعف الصلة بالحياة مقابل صلة وثيقة بالموت، وهو السبب ذاته الذي دفع طالبان إلى هدم الآثار بدعوة هدم الأصنام، التي يبنونها كلّ يوم، في حقيقة الأمر، بتنكرهم للجمال وانشغالهم بالحرب والموت، على حساب الحياة التي تحتفي وحدها بالجمال، سواء كان في الماضي أو في الحاضر؛ لذلك يبقى السؤال: هل لو بنى الإسلاميون مدينة واحدة تحتفي بهذا الفنّ ألم تكن أجدى من كل ما فعلوه، سواء في مدراس لا تعلّم شيئاً من فنون الحياة، أو صحف ومجلات لا تنشر سوى ثقافة اليأس والموت وكراهية الحياة؟!

كان من الأجدى أن ينفق الإسلاميون الأموال على بناء مدينة أو صيانة أثر إسلامي بدلاً من هدر المليارات على الدعاية والسياسة

أليس من اللافت أنّهم لا يستثمرون أموالهم عادةً سوى في أنشطة خدمة طفيلية، لم نعرف لهم استثماراً في البحث العلمي أو الإنتاج السلعي بشكل عام؟!

كان نعوم تشومسكى يقول: "الأحزاب الغربية تتعاظم تنموياً، وتتآكل أيديولوجياً"، للتأكيد على أن نجاح أيّ حزب هو في إنجازه التنمويّ، وتحسين جودة الحياة، وهو رأي سديد قاله قبل أعوام، وحاولنا أن نعلّمه للإخوان وغيرهم، لكنّهم لم يفهموه، واستبدلوا البرامج التنموية بالشعارات والكلام المعسول، والحديث عن الهوية المهددة.

اقرأ أيضاً: إدارة التنوع للهروب من أزمة الهوية في المجتمعات العربية

بينما كانت الإجابة عن سؤال التحديث عبر اختيار طريق البناء الصحيح، الوسيلة الأنجع في الإجابة عن سؤال الهوية؛ كان بالإمكان، لو كان لدى الإسلاميين تصوّر حضاريّ فعليّ، لأن ينجزوا شيئاً لافتاً في العمارة، أو البيئة، أو الصحة، أو غيرها من مجالات الحياة، لكنّهم أبناء ثقافة الكلام والشعارات الفارغة، والتاريخ الشرقيّ الذي يحتفي بالكلام أكثر من الفعل، ارتفع فيه شأن الشعراء، بينما مات الفلاسفة كَمَداً أو حرقاً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية