هل ندرك أننا نتعامل مع أكثر من "غرب" واحد؟

هل ندرك أننا نتعامل مع أكثر من "غرب" واحد؟


06/11/2018

تُعيد الندوة الدولية التي نظّمها، مؤخراً، الأزهر الشريف، بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين، على مدار ثلاثة أيام، تحت عنوان "الإسلام والغرب.. تنوّع وتكامل"، إلى الأذهان إشكالية علاقتنا بالغرب التي أدرجها شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، تحت موضوع حوار الحضارات؛ الذي وصفه في مستهلّ كلمته بـ "المكرور الذي قيل فيه كلامٌ كثير، وصدرت بيانات وتوصيات لا يستهان بقدرها في الدعوة إلى الحوار بين الحضارات، وضرورة الالتقاء على أمر جامع بينها، من أجل إنقاذ عالمنا المعاصر من مخاطر الصّراع والسلام المتوتر".

اقرأ أيضاً: الأزهر يرد على "صدام الحضارات" بندوة عن تكامل الإسلام مع الغرب

وبجمل شديدة الإيجاز، سعى الدكتور الطيب، لتفكيك تلك الإشكالية، مؤكداً موقف الأزهر المتطلع للتعاون العلمي مع الغرب والاصطفاف معه في مواجهة الإرهاب والتطرف، ومعرباً عن قناعته بـ "أنّ الشرق، أدياناً وحضارات، ليس له أيّة مشكلة مع الغرب، سواء أخذنا الغرب بمفهومه المسيحيّ، المتمثل في مؤسساته الدينية الكبرى، أو بمفهومِه كحضارة علمية مادية، وذلك من منطلق تاريخ الحضارات الشرقية، ومواقفها الثابتة في احترام الدين والعلم، أياً كان موطنهما، وكائناً من كان هذا العالِم أو المؤمن".

يتعيّن علينا التفاعل مع الحضارة الغربية من منظور أنّها الحضارة الحديثة التي لا تمثّل الغرب وحده

وأضاف "مَن يشرفنا منكم، أيها السـادة الضيـوف الفضلاء، بزيارة كلياتنـا الأزهرية العريقة، في حيّ الأزهر القديم، يرى معهداً لتعليم طلابنا، الذين هم شيوخ المستقبل، اللغات الأوروبية، وإعداد المتفوقين منهم للدراسات العليا في جامعات أوروبا، وهذا المعهد يشترك في إدارته والإشراف عليه المركز الثقافي البريطاني، والمركز الثقافي الفرنسي، ومعهد جوته الألماني، تحت مظلة مشيخة الأزهر الشريف".

كما أكد شيخ الأزهر، بما لا يدع مجالاً للشكّ؛ أنّ "الدين مختطف بالإكراه لارتكاب جرائم إرهابية بشعة، على مرأى ومسمع من أهله وذويه والمؤمنين به، وأنَّ المسلمين الذين يوصفون بالعنف والوحشية هم، دون غيرهم، ضحايا هذا "الإرهاب الأسود"، وأنّ تعقب أسباب الإرهاب، والبحث عن علله القصوى ليس محلّه الإسلام ولا الأديان السماوية، أما محلّه الصحيح؛ فهو الأنظمة العالمية التي تتاجر بالأديان والقيم والأخلاق والأعراف؛ في أسـواق السـلاح والتسليح، وسياسات العنصرية البغيضة والاستعمار الجديد".

اقرأ أيضاً: علماء شكلوا علامة فارقة في تاريخ الأزهر..هل تعرفهم؟

بهذا، وضعنا شيخ الأزهر في مواجهة مع إحدى أهم الإشكاليات التي نعيشها في العصر الحديث، وهي بلا شكّ أكثر تعقيداً مما بدت عليه في كلمات الإمام؛ فإن اتفقتُ معه في النتيجة، إلّا أنني في حاجة إلى العودة إلى المقدمات.

أكد شخ الأزهر أنَّ المسلمين الذين يوصفون بالعنف والوحشية هم دون غيرهم ضحايا "الإرهاب الأسود"

فقد تشكّلت علاقتنا بالغرب في القرنين الأخيرين على نحو متناقض؛ فهو المستعمر المعتدي الغاشم، الذي يتحتم علينا الدخول في صراع معه من جهة، وهو المعلِّم المتقدم الذي يتحتم أن نتعلم منه من جهة أخرى، وهو المتآمر الذي ينظر للإسلام بوصفه عدواً إستراتيجياً بديلاً عن الشيوعية في تصوّر البعض، الذي يفسّر كلّ إخفاق بنظرية المؤامرة في محاولة لإعفاء الذات من تحمّل أيّة مسؤولية بإلقاء التبعة كاملة على الآخر، والواقع؛ أننا لسنا إزاء "غرب" واحد يمتلك نظرة واحدة للإسلام، فهناك النظرة الأكاديمية الصادرة عن المؤسسات العلمية، والنظرة السياسية، والنظرة الإعلامية التي تتفاوت تبعاً لموقع الأحزاب والمؤسسات من قوى اليمين العالمي المتشددة.

ومواجهة تلك الإشكالية تتطلب منا ضرورة التمييز بين الحضارة الغربية والغرب السياسي، فيُشير المفهوم الأول إلى مجموعة من المنظومات، لا منظومة واحدة؛ الفلسفية والفكرية والثقافية والسياسية، والجمالية والفنية والأدبية، بينما يُشير المفهوم الثاني إلى مجموعة النظم والأيديولوجيات الحاكمة في بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي نظم وأيديولوجيات لا تُمثّل بالضرورة "قيم" "الحضارة الحديثة"، كما أنّ السياسات التي تتبعها تلك النظم السياسية قد لا تعكس في أدائها وتوجهاتها مقتضيات السلوك الحضاري المثالي.

اقرأ أيضاً: انفتاح الأزهر على الفن.. تحرك جريء نحو الإصلاح الديني

في ضوء إعادة النظر في تلك المفاهيم المتداخلة؛ يمكننا فضّ الاشتباك والتداخل المفاهيمي الذي أوجد تلك العلاقة المتناقضة شديدة التعقيد، فيتعيّن علينا التفاعل مع الحضارة الغربية، من منظور أنّها الحضارة الحديثة التي لا تمثّل الغرب وحده؛ بل تمثل تراكماً كيفياً لإنجازات الحضارات الإنسانية السابقة؛ من مصرية وفينيقية وسومرية ويونانية وهندية وصينية وفارسية، وهي إنجازات حفظت الحضارة العربية الإسلامية جانباً كبيراً، حتى استمدتها كلّها تقريباً الحضارة الغربية، الذي أضاف إليها الغرب وطوّرها حتى بلغت ما بلغته في العصر الحديث، ومن هنا؛ يجب التمييز بين المكونات الإنسانية العامة في بنية وتاريخ الحضارة الحديثة، وحقيقة كونها تتمثل الآن في بقعة جغرافية يطلق عليها اسم "الغرب"، ويمكننا الأخذ بوصية أحد المفكرين العرب في استعمال عبارة الحضارة الحديثة بدلاً من عبارة الحضارة الغربية.

مواجهة إشكالية علاقتنا بالغرب تتطلب منا ضرورة التمييز بين الحضارة الغربية والغرب السياسي

ولا ينبغي أن نخجل من قولنا إنّنا في حاجة إلى أن نتعلم من "الغرب"، فلو لم يتعلم الغرب ممن سبقه في مضمار الحضارة لما استطاع أن يكون ما هو عليه الآن، فعلى سبيل المثال؛ بدأت الدراسات اللغوية الحديثة في الغرب نهضتها بترجمة الأعمال اللغوية الهندية من اللغة السنسكريتية إلى اللغة الإنجليزية، في القرن التاسع عشر، فكان لجهود الهنود اللغوية، وما كتبوه من قواعد للغتهم السنسكريتية أكبر الأثر في دراسات الأوروبيين اللغوية، تلك الدراسات التي نحتاج في العربية أن نستفيد من تطورها اليوم؛ لنعيد بناء رؤية فكرية جديدة حول طريقة عمل اللغة، استفادة لا تقوم على استيراد "النظريات" العلمية والمعرفية ومحاولة فرضها بطريقة ميكانيكية آلية؛ بل عبر تفاعل نقدي خلّاق مع إنجازات مناهج الإنسانيات في الحضارة الحديثة، بما يطوّر علومنا الإنسانية، ولا نكتفي بالتعامل النفعي "البراجماتي" الذي يعتمد على استيراد منتج الحضارة العلمي والتكنولوجي، وتجاهل أساسه المعرفي والفلسفي فمثل هذا لا ينتِج حضارة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية