هل نعي حقاً معنى الدولة الوطنية؟

هل نعي حقاً معنى الدولة الوطنية؟


30/01/2022

نتحدث دوماً عن الدولة الوطنية، والهوية الوطنية، والوطن والمواطن، سواء في أحاديثنا اليومية، أو في ندواتنا الثقافية، أو على مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية، والجميع يعي ما الدولة الوطنية، أو الهوية الوطنية، والكل يُجمع أيضاً على أنّ الدولة الوطنية هي دولة القانون والمواطنة المتساوية، وعدم التمييز بين أبيض وأسود، أو مسيحي ومسلم، إلى آخر ما هنالك من محمولات طبيعية ومكتسبة يحملها المواطن (الإنسان).

نعم، جميعنا يعرف ما الدولة الوطنية، لكنّنا في أثناء تطبيق أركانها القائمة عليها نعود في سلوكنا إلى ما قبل الدولة الوطنية، وأحياناً إلى ما قبل نشوء الدولة، وخصوصاً في خطابنا الموجّه إلى الآخر المختلف والأخرى المختلفة، داخل الدولة الواحدة، الذي يحمل في دلالته الكراهية والحكم القيمي لهذا الآخر وهذه الأخرى، دينياً وسياسياً واجتماعياً.

جميعنا يعرف ما الدولة الوطنية لكنّنا أثناء تطبيق أركانها نعود في سلوكنا إلى ما قبلها

يقول "هبرماس": "إنّ تكافؤ المعاني والقيم هو شرط إمكان التواصل"، وهو بالتالي شرط إمكان المواطنة المتساوية، وقد أذهب قيمتها خطاب الكراهية الحامل للغِلَّة الثقافية ـ الأخلاقية لعلاقات القوة والغلبة، علاقات القوة الطبيعية، "قوة الشوكة"، التي بموجبها يحوِّل كلُّ ذي قوّة قوّتَه إلى "حق"، وطاعته إلى "واجب".

هذه العلاقات هي ذاتها علاقات سلطة، تنطوي على مبادئ إنتاج السلطة وتعين آليات اشتغالها وأشكال ممارستها. كما هو؛ أي خطاب الكراهية، الغلة الثقافية الأخلاقية للشعور القومي بالامتياز والتفوق لدى قوميين، ولوعي مبني على مبدأ "الصراع الطبقي" لدى شيوعيين، ووعي ديني مبني على مبدأ "التدافع والتفاصل" لدى إسلاميين.

اقرأ أيضاً: كيف تدمر الأيديولوجيا الدينية المتطرفة بنية المجتمعات العربية المعاصرة؟

إنّ التفكير في الدولة الوطنية من غير التفكير في المواطنة يُفقد معناها الدلالي؛ أي المعنى الدال على القيمة التي تحملها الدولة الوطنية، وسيرورتها وكينونتها، ومصيرها، ومصير مواطنيها ومواطناتها؛ فالدولة بالتعريف العام هي أرض وشعب ونظام حكم، وعلى نظام الحكم أن يحفظ حق الشعب ويحافظ على الأرض من الاعتداءات الخارجية بوساطة المؤسسة العسكرية التي تشكّلها الدولة، والتي تكون مستقلة استقلالاً تاماً عن النظام السياسي القائم، وعلى الشعب أن يقوم بواجباته تجاه الدولة.

تلك العلاقة التبادلية بين الدولة والأرض والشعب تجعل الإمكان مفتوحاً أمام تشكُّل الدولة الوطنية، وأمام عقد اجتماعي يحفظ حق الجميع، وأمام المواطنة المتساوية التي تقوم على قيم ومبادئ إنسانية فقط لا غير، وتجعل الإمكان مفتوحاً أمام تحقيق العدالة وسيادة الحق والقانون، وتعزّز الإحساس بالوطنية والانتماء الوطني والانتماء الإنساني، من ثمّ، فإنّ وعي المجتمعات وفهمها لتلك العلاقة المتبادلة هو الذي نهض بالدول المتقدمة وجعلها على هذا الشكل الذي هي عليه الآن، الشكل الإنساني بكلّ ما يحمله الإنسان من معتقدات ومذاهب سياسية ودينية وثقافية واجتماعية، التي تخصه لذاته فقط، بمعزلٍ عن النظام السياسي وتحكماته وسيطرته واستبداده.

التفكير في الدولة الوطنية من غير التفكير في المواطنة يُفقدها معناها الدلالي

الوعي المجتمعي في الدول المتقدمة، وفهمه للعلاقة بين الدولة والأرض والشعب، كان أحد المعايير الأساسية لتفوّق تلك الدول ومجتمعاتها على دول العالم الثالث ـ كما جرت تسميته ـ ومجتمعاتها؛ إذ إنّ الأنظمة السياسية في الدول التي أقفلت باب الإمكان أمام الأفراد والجماعات في مجتمعاتها، لها اليد الكبرى في تخلفها عن العالم المتقدم، ولها اليد الكبرى في نشوب النزاعات والحروب والدمار، وذلك لبسط سيطرتها وازدياد نفوذها وتحكّمها في الأفراد، ولها اليد الكبرى أيضاً في زيادة التعصب الطائفي والعرقي والقومي داخل المجتمع الواحد، إلى أن يصل التعصب إلى العائلة والعشيرة، تلك الانتماءات الضيقة تتعارض تعارضاً تاماً مع الدولة الوطنية، والهوية الوطنية، والانتماء الوطني والإنساني، وتتعارض مع قبول الآخر/ى المختلف/ــة، وبالتالي تتعارض مع المواطنة التي تحمل بدلالتها القيمة الوطنية للدولة.

اقرأ أيضاً: أنور السباعي: هل علينا إقامة خلافة إسلامية علمانية لنرضي الجميع؟!

الدولة التي لا تساوي في قوانينها المدنية والسياسية بين الرجال والنساء، ولا تساوي بين جميع الإثنيات، وبين جميع الطوائف والأديان، على أنّهم مواطنون ومواطنات، لا تحمل قيم المواطنة، ولا أخلاقياتها، ولا تحمل القيم الإنسانية ولا أخلاقياتها، ولا تحمل الوطن بعلاقاته الإنسانية، فالعلاقات الإنسانية هي التي تشكّل الوطن، وليس المكان بذاتيته وحرفيته، "سوريا" على سبيل المثال، لم تعد وطناً لجميع السوريين والسوريات، وهي دولة مؤلفة من أرض وشعب ونظام حكم، كالتعريف العام للدولة، فقد ذابت الدولة السورية وقيمتها المعنوية في السلطة الحاكمة، ومثلها لبنان الذي ذاب في الطوائف، ومثلهما اليمن وليبيا والعراق، وجميع الدول التي أقفلت الإمكان بوجه شعوبها، ومنعتها من التواصل الإنساني، وعزّزت الانتماءات الضيقة، و"الهويات القاتلة" حسب أمين معلوف، ومهّدت الطريق أمام الحقد والكراهية والتعصب والتطرّف أمام المهمّشين والمهمّشات، ليصبحوا/ـن جماعات متطرفة تبحث عن انتماء جديد ووطن جديد. تلك الانتماءات الحصرية هي انتماءات غير خلّاقة، وغير منتجة، وغير فاعلة أو متفاعلة في المجتمع، هي فقط انتماءات لحماية الذات واستمرارها على قيد الحياة.

الوعي المجتمعي في الدول المتقدمة وفهمه للعلاقة بين الدولة والأرض والشعب كان أحد المعايير الأساسية لتفوّقها وتفوق مجتمعاتها

 إذا عدنا إلى مقولة "هبرماس": "إنّ تكافؤ المعاني والقيم هو شرط إمكان التواصل"، فسوف نجد أنّ بينها وبين الدول الاستبدادية مسافة طويلة كي تتحقق، فالتواصل الذي يتحدث عنه هبرماس هو العمل والمعرفة والتشارك في الحياة العامّة بين جميع أفراد المجتمع، وبالتالي التعاون المشترك بين المجتمع والدولة، عندها يتمّ تشكيل الدولة الوطنية، بالتواصل والعمل المشترك، بين أفراد متساوين في الكرامة الإنسانية، والحقوق والواجبات، لا بالتفاصل فيما بينهم/ـنّ، التفاصل الذي يجعل من الآخر المختلف عدواً، سياسياً ودينياً واجتماعياً وإثنياً، وهو في النهاية تفاصل وطني بامتياز. 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية