هل هناك علاقة بين التدين والمجتمعات الأشد فقراً؟

الفقر

هل هناك علاقة بين التدين والمجتمعات الأشد فقراً؟


04/11/2019

لملايين السنين، تطوّرت الظاهرة الدينية في المجتمعات البشرية، وفق عدّة عوامل متداخلة من الاقتصاد والنظام السياسي القائم، وعلاقة البشر بالطبيعة، وقدرتهم على ترويضها، إلّا أنّه، رغم سيادة العلم، نجد أنّ الظاهرة الدينية ما تزال راسخة في مجتمعات هي الأشد فقراً، بحسب ما تؤكد أبحاث الأنثروبولوجيا، فهل ثّمة علاقة بين الدين والفقر؟

رغم سيادة العلم نجد أنّ الظاهرة الدينية ما تزال راسخة

إشكالية التديّن والأخلاق
ثمّة مشكلة في الدراسات الاجتماعية والنفسية التي تبحث عن العلاقة بين الدين والفقر في مجتمع ما، أهمها تباين مفهوم الفقر بين الديانات المختلفة، فالفقر في الإسلام له أبعاد أكبر مما نجده في المسيحية أو البوذية، وكذلك الشكل الاجتماعي للدين، فالمسلم الهندي يختلف عن المسلم الأوروبي، على سبيل المثال، لكن ثمّة دراسة نشرتها مجلة "نيتشر" العلمية، للباحث النمساوي، كيلمين سيدماك، في كانون الثاني (يناير) 2019، والتي بناها الباحث على عدة أبحاث في مجتمعات مختلفة، لقياس العلاقة بين درجة التديّن، والفقر وأشكاله في مجتمعات مختلفة، يستعرض الباحث تجربة ميدانية، أجريت عام 2015، مع أحد البنوك الإسلامية الكبرى في إندونيسيا؛ إذ بحثت في دور الطعون الأخلاقية في تسديد بطاقات الائتمان؛ حيث تلقى العملاء رسالة نصية تفيد بوجوب تسديد بطاقات الائتمان خلال عشرة أيام، وذيّل البنك رسائله بحديث نبوي يفيد بأجر من سدّد الدينّ، وكانت النتيجة زيادة 20% من العملاء الذين استوفوا السداد مبكراً، إلّا أنّهم وجودوا أنّ إزالة النصّ المقدّس من الرسالة كانت له النتيجة نفسها، وهو ما أسماه الباحث "الدافع الأخلاقي" في مجتمع يتّخذ الدين خُلُقاً، وليس مجرد شعائر.

رابط الدراسة:

https://www.nature.com/articles/s41599-019-0215-z

تطرقت الدراسة أيضاً إلى العلاقة بين الدين والسياسة والثقافة والرعاية الصحية ومستوى التعليم، وشكل العلاقات الاجتماعية بين الناس، والذي وجدوه ذا صلة قوية بشكل الفقر؛ إذ ارتأى البحث أنّ خطاب الفقر في السياسة هو انعكاس لشكل التديّن في مجتمع ما، يشير الباحث كذلك إلى السلطة المجردة للدين وزعمائه، والتي ترتبط بتحفيز الفقر والتماهي معه بشكل كبير، وأشار كذلك إلى دراسة أجريت على مجموعة من أبناء الكنيسة الكاثولوكية في إيطاليا، شملت ألف شخص، جميعهم من الفقراء؛ إذ ربط معظمهم فقرهم بالإرادة الإلهية التي يرضخون لها تماماً، وهنا تكمن القوة المطلقة للدين في ترسيخ الفقر كعقيدة، من استخدام العامل التحفيزي (الجنة والنار)، والعامل المعياري (الإرادة الإلهية)، وكذلك البعد الاجتماعي الإنساني الذي يتخذ من الدين هوية شخصية؛ إذ يقدّم الدين للفقراء الشعور بالجدوى من الحياة، والانتماء لمجموعات تمنحهم رأس المال الاجتماعي في مقابل رأس المال المادي المسلوب منهم، كما أنّ المعتقدات الدينية تولّد قناعات راسخة حول الفقر والثروة والعالم المادي، تدفع تلك المعتقدات إلى اتخاذ قرارات محدودة في السعي نحو مزيد من التطلع الطبقي، لأنّ الطبقات هي ثقافة دينية بالأساس.

اقرأ أيضاً: المناخ يتسبب بفصل عنصري بين الفقراء والأغنياء.. كيف ذلك؟

تبدو الظاهرة الدينية أكثر تعقيداً في دراستها المجردة

الدّين والتطور
تبدو الظاهرة الدينية أكثر تعقيداً في دراستها المجردة، لكن بالنظر إلى العوامل الأخرى المؤثرة في نشأة الظاهرة الدينية، يبدو الأمر كفسيفساء على وشك الاكتمال، وفي إطار جهود الباحثين؛ قدّم المركز الوطني لعلم التطور دراسة، عام 2015، بعنوان: "هل يجعلنا الفقر أكثر تديناً؟"، في محاولة لربط السلوك الديني بعوامل البيئة والثقافة وشكل العلاقات الاجتماعية، ليجد أنّ الإجابة "نعم، الفقر يجعلنا أكثر تديناً أو العكس، ربما يجعلنا الدين أكثر فقراً، فالدين في نشأته كان أحد روافد التطور المتطلعة للإجابة عن الخوارق، فالإنسان الأول لم يتمكن من تفسير الموت، والولادة، والرياح والأمطار وغيرها، فاستجاب دماغه المتطور للبحث عن إجابة، ووجد ضالته آنذاك في الدين أو القوة الخارقة التي لا نراها لكنّها تتحكم بنا، لينضمّ الفقر فيما بعد إلى قائمة هذه الخوارق أو الإرادة الإلهية التي يعجز الإنسان عن تفسيرها".  ويعلق كبير الباحثين في هذا الدراسة، المدير المؤسس لمعهد "ماكس بلانك" للتاريخ والعلوم، راسل غراي: "عندما تكون الحياة صعبة وغير مؤكدة، يؤمن الناس بالآلهة الكبيرة الخارقة".

سيكولوجية الفقر
لا تتوقف أبعاد الفقر على العوامل البيئية بشتى محاورها، بل تتداخل إلى درجة أعمق في النفس البشرية؛ حيث يعمل الفقر على إعادة إنتاج نفسه من جديد، كشف عن هذا العمق دراسة قدّمتها مجلة "سيكولو"، للباحث الجنوب أفريقي يمكننا أن نضيف إلى العجز المكتسب سطوة الدين والخطاب السياسي المعزّز للفقر، والذي تختلف منهجيته؛ فخطاب اليوم تغلفه النيوليبرالية التي تتهم الفقراء بالكسل والعجز عن العمل، رغم أنّهم المحرك الرئيس لعملية الإنتاج، لكن بتحليل ظاهرة العجز المكتسب التي أوردها سيلجمان، يتراءى للذهن أنّ الفقراء يقفون عاجزين عن نقد هذا الخطاب وتفنيده، ويمكن أن نفسّر أيّ حراك اجتماعي ما من قبل الفقراء؛ بأنّه انقشاع لغمامة العجز المكتسب، حين يتوفر لدى المهمشين معرفة ما تعزّز إدراكهم أنّ الفقر شيء يمكن تغييره، وليس أمراً محتماً عليهم، تلك الفكرة، الغاية في الثورية، بنى عليها الفيلسوف الألماني، كارل ماركس"، فلسفته المعنيّة بديكتاتورية البروليتاريا، وما قدمتّه الفلسفة الماركسية من تفسير مادي للعالم وحركة التاريخ، إنّما كانت منبتها تفسيره للفقر، الذي أنزله من علياء الإرادة الإلهية، إلى عوامل الإنتاج  والصراع الطبقي، بين البرجوازية المالكة لعوامل الإنتاج، والبروليتاريا المنتج الفعلي للثروة التي يكتنزها أرباب العمل، ولعلّ أشهر مقولة يروجها الإسلامويون وينقدون بها ماركس: "الدين أفيون الشعوب"، وهي مقولة تعكس مدى إدراكه لتأثير الخطاب الديني المسيحي آنذاك في تقبل العمال لظروف عمل غير آدمية، لينالوا بها حبّ الإله.

اقرأ أيضاً: "كفر ناحوم": توقفوا يا فقراء عن الإنجاب!

مارتن سليجمان

الرأسمالية أم الفقراء
ينطلق ماركس في تفسيره للعالم المادي من معايشات عصره اليومية، وهنا تكمن ثورية فكرته، التي بنيت في جوهرها على تفسير الفقر كشيء مادي له مسبباته، التي أوضح من خلالها أنّ الفقر هو الابن البار للرأسمالية الصناعية التي تلمّس ماركس أثرها على من حوله، وبقدر حرص الفلسفة الماركسية على تفسير العالم بشكل مادي، لم تستثنِ الدّين كمحرك أساسي، لمجرى التاريخ؛ بل أدرك أنّ الأديان في نشأتها المبكرة كانت صوت المقهورين والمهمشين، فالمسيحية في نشأتها الأولى ضمّت الفقراء والمضطهدين حتى اعتنقها قيصر روما، فأصبحت دين النخبة والنبلاء، وكذلك نشأة الإسلام في الجزيرة العربية؛ إذ اجتمع حول النبيّ محمد ﷺ الفقراء والعبيد، وخشي أسياد مكة على مكانتهم، وكان اعتراضهم الأول أنّ هذا دين يساوي بينهم وبين العبيد، ويقوّض أرباحهم، ويقلّص سلطاتهم المالية والسياسية، ويطالبهم ببذل الأموال لمساعدة الفقراء، وعتق الرقاب، وهكذا كانت الأديان في نشأتها هي الاستجابة الثورية لصرخات المقهورين، إلّا أنّها سرعان ما تحوّلت إلى أداة في أيدي السلطة، حتى قبل نظم الإنتاج الرأسمالي.

دراسة: ربما يجعلنا الدين أكثر فقراً، فالدين في نشأته كان أحد روافد التطور المتطلعة للإجابة عن الخوارق

يستند ماركس في نقده للدين عند هيجل؛ إلى أنّ الإنسان هو منتج الدين وليس العكس؛ ففي المسألة اليهودية يطالب اليهود بالتحرّر والانعتاق من سطوة الأيديولوجيا التي رأى أنّ اليهود أسرى لها، وكما المسيحية التي نقدها بوصفها منبت للرياء والنفاق، وهي صفات ينبغي أن تتحرّر منها البروليتاريا، باعتبارها في حاجة إلى الشعور بالفخر والاعتزاز، فهي طبقة ثورية تودّ الانعتاق من القهر الذي ألبسه إياها الدين بوصفه محرك للإنسان، وليس أنّ الدين هو العامل الثقافي الناتج عن تفاعل الإنسان مع محيطه ومع الطبيعة.Johan) Janse van Rensburg)، شرح من خلالها كيف أنّ "الفقر ليس فقط منظومة اقتصادية بسبب عوامل الإنتاج في مجتمع ما، بل إنّه يترك ما يشبه البصمة النفسية على الفقراء؛ حيث يصبحون في حالة من العجز عن الفرار من الفقر"، وقد صاغ هذا المفهوم وسمّاه "العجز المكتسب"، عالم النفس الأمريكي، مارتن سليجمان، وهو أن يتمّ تكييف الأشخاص ليعجزوا عن التصرف بإيجابية، وهذا اجتهاد علمي من علماء النفس لتفسير الفقر اجتماعياً ونفسياً، لكنّه ليس السبب الحقيقي وراء الفقر، لكن بوضع ندرة الموارد في الاعتبار، سيكون العامل النفسي وراء العجز المكتسب هو ندرة الموارد المعرفية، التي تتضمن ندرة "الغذاء الجيد، السكن الجيد، التعليم الجيد، الرعاية الصحية الجيدة"، كلّ هذه الأسباب تخرج لنا إنساناً مصاباً بالعجز المكتسب يبقيه تحت وطأة الفقر.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية