هل وصلت رحلة الدعاة الجدد محطتها الأخيرة؟

هل وصلت رحلة الدعاة الجدد محطتها الأخيرة؟


31/05/2018

الدعاة الجدد لقب أطلق على بعض الوعّاظ الذين يقدمون وجبات من النصيحة والوعظ الديني في القنوات الفضائية، سواء في برامج بعينها، أو في قنوات مخصصة لذلك، ومن أشهر هذه الشخصيات؛ عمرو خالد، فهو شخص لا تستطيع أن تتجاهل وجوده، أو تأثيره في قطاعات كبيرة من الشباب في العالم العربي والإسلامي.
مع عمرو خالد برزت ظاهرة الدعاة الجدد، ومن رحم الألفية الثالثة مع الرغبة المحمومة في تغيير الخطاب الديني كان ظهوره مبشراً بالخير، فقد كان البعض ينتظر أن يكون هو طليعة جيل جديد يطوّر الفكر الإسلامي والخطاب الإسلامي، لكن كانت الصدمة عند قلة من المفكرين؛ أنه لم يحمل إلا تغييراً في الشكل دون المضمون، فقد اتسم أداء غالبية الدعاة الجدد بالطرق التمثيلية، وكان واضحاً أنهم متأثرون بطرق التنمية البشرية وأساليب مندوبي المبيعات، أثمرت هذه الطريقة بجذب أعداد كثيرة الى الدعاة الجدد، وأصبح لهم تابعون ومريدون.

اتسم أداء غالبية الدعاة الجدد بالطرق التمثيلية وبدوا متأثرين بطرق التنمية البشرية وأساليب مندوبي المبيعات

شكلت هذه الظاهرة خطراً على ممثل الإسلام الرسمي الكلاسيكي (الأزهر ومن يمثله)، وممثل التدين الشعبي شبه الرسمي (أساطين الدعوة السلفية)، سواء في مصر، أو في أي قطر عربي إسلامي؛ فوقف ممثل الأزهر بعيداً، وانغمس التيار السلفي في معركة تنافسية مع الدعاة الجدد، وشكّلوا معاً حالة إسلامية فريدة، تنافس الجميع في جذب الأتباع إلى مساجدهم، ولم يكفهم هذا، فانتقلت المعركة إلى الفضائيات، وانشغلوا بجذب أكبر عدد من المشاهدين، وما بين القنوات السلفية وبرامج الدعاة الجدد دُفن مشروع تجديد الخطاب الإسلامي، والآن والظاهرة تكاد تغرب، علينا محاولة فهمها، ولعله من المفارقة أن يكون عمرو خالد هو رمز ميلاد هذه الظاهرة، بشرائط "الكاسيت" المجانية العام 2000، وأن يكون هو رمز وفاة الظاهرة بإعلانه المادي الكبير الذي استفز الجماهير، وسخر منه حتى مريدوه، من الواجب أن نلقي ضوءاً بسيطاً لما خلفته فينا ظاهرة الدعاة الجدد، ومعركتهم مع السلفيين في الفضائيات.

حول هؤلاء الدعاة الإسلام من ممارسة سلوكية أخلاقية إلى دين يُكتفى بممارسته عبر الشاشة الصغيرة

ثمة تساؤل يفرض نفسه، يدفعني لتناول هذه الظاهرة: هل الفرصة التي أتيحت لهم مكنتهم من إيجاد مسلم حضاري متمدن، أم خلقت مسلماً أسيراً لأفكار موهومة عن الدين وعن المجتمع؟ وهل هذه الظاهرة جعلت المجتمع أكثر قابلية للاستقطاب والتعصب، أم جعلته أكثر تسامحاً مع الآخر؟ هل تمكّنت الظاهرة من تحسين مستوى أخلاق المجتمعات العربية والإسلامية التي تأثّرت بهم؟ هل أصبح الدين طقوسياً مفرغاً من مضمونه؟
يمكن أن نرصد بعض التحولات الفكرية على المتابعين للدعاة الجدد والفريق المنافس لهم، في الآتي:
أولاً: جعلوا الدين مُشاهداً لا معيشاً: رغم أنّ صلب الدين هو الأخلاق، إلّا أنّهم حولوا الدين من ممارسة سلوكية أخلاقية (معاملات)، تنظم عبر الإيمان بعقيدة يتم رعايتها بنسك تُقدم لله وحده، إلى دين يُكتفى بممارسته عبر الشاشة الصغيرة، أقنعوا المسلمين بأنّهم أقرب إلى الله بمشاهدة قناة بعينها، أو مشاهدة داعية معين، رغم أنّ الوجبة الوعظية مليئة بالأفكار السطحية، ومتخمة بالمحسنات الصوتية أثناء فقرة الدعاء، التي كانت مقرّرة في كلّ البرامج، جعلوا المسلمين يشاهدون الإسلام فحسب، في حين أنّ الله طلب منا أن نمارس الدين (الإسلام)؛ أي نعيشه، فلا يكفي أن نستمع ألف مرة عن ألف حكاية وألف شيخ عن الصدق، إنما الأهم أن يمارس المسلمون الصدق في تعاملاتهم اليومية، جعلوا المتابعين لهم يشبعون نفسياً بمجرد الاستماع إلى حكايات الصادقين، واكتفوا بذلك دون أدنى بذل لمجهود في تمثل خلق الصدق في الواقع، وهكذا في كلّ خلق، وفي كلّ سلوك، وفي كلّ عبادة ، جعلونا نشاهدها، ولا نمارسها.
ثانياً: جعلوا الدين مقولباً و"منمذجاً" ولاإنسانياً: الله تبارك وتعالى طلب منا تدبر الآيات وتفهّمها، ومعلوم أنّ أفهام الناس تختلف وتتفاوت فيما بينهم، فيكون هناك حدّ أدنى للدين، ولا يوجد حدّ أقصى للإيمان، وبما أنّ الآيات القرآنية في الكتاب الكريم تحتمل التأويل والتفسير، فلا يمكن أن يكون هناك نموذج واحد فريد فاهم للدين وللتدين، بل من الطبيعي أن تتعدد النماذج بتعدد الأفراد المؤمنين بهذا الدين، فماذا فعلوا؟ قدّموا نموذجاً واحداً وكرّروه، وأصرّوا عليه، وسوّقوه بكل أساليب التسويق الدعائي وآليات السوق الرأسمالي.

لرفع نسب المشاهدة لم يجدوا إلا الحكايات الأسطورية في تاريخ المسلمين وقدّموها على أنها هي الدين

الأخطر أنّهم اقنعوا المقتنعين بهم أنّ هذا هو النموذج النبويّ الربانيّ، وأعادوه مراراً وتكراراً حتى يرسخ في وجدان وعقول مشاهديهم أنّ المتدين يجب أن يكون هكذا وبهذه الصورة، أمّا من اختلف مع هذا النموذج، فتلقائياً سينظر إليه على أنّه اختلف مع مراد الله (مثال للفتاة الملتزمة عبر النموذج المتقولب)؛ هي تلك التي تغطي كلّ جسدها، وكلما زادت مساحة الجسد المغطى كان ذلك معياراً للتقوى في نموذجهم، لا شكّ في أنّ الحجاب فرض، لكنّ تعريف الحجاب يختلف فهمه من شخص إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، لكن في ظلّ الخضوع للنموذج المقولب أصبحنا لا نعرف إلا شكلاً واحداً له، من يخالفه يرتكب جرماً كبيراً وجب إنكاره، وعلى هذا قِس كثيراً من مفردات الدين التي تمت نمذجتها؛ هذه النمذجة خطرة جداً لأنّها تمنع التطور وترفض التجديد، وتدعو إلى التيبس والاقتتال الداخلي، وتكفير المسلمين لبعضهم. 
ثالثاً: جعلوا الدين طقوساً لا إيماناً ذاتياً: حظي الدعاة الجدد بفرصة التواجد لساعات بثّ طويلة، لم ينلها أيّ جيل آخر، لكنّهم أهدروها في لا شيء، فلم يثيروا أيّة قضية تمسّ المسلمين بصدق، لم يناقشوا التحديات التي تواجه المسلمين والإسلام كدين، لم يعقدوا مؤتمرات علمية محترمة تؤسس لفكر إسلامي مستنير، يتقبل المدنية ولا يتناقض مع الإيمان، أهدروا الوقت والفرصة في التنافس على إبكاء المشاهدين، فكلما بكى المشاهدون كثرت المتابعات، وكثرت المشاهدة على اليوتيوب، ومن بعدها تأتي الإعلانات والشركات الراعية، التي تنتج المصحف والسواك، وركّزوا على أنّ الدين ما هو إلا طقوس في الصلاة والصيام، وناقشوا فرعيات تجاوزها الزمن.
هذه البكائية جعلت المسلمين لا يستشعرون بالعبادة إلا مع البكاء، وهذه الطقوسية خطر على الدين، فهي تفرغه من مضمونه العملي.
رابعاً: اختصروا الدين بحكايات أسطورية: من أجل التواجد في الفضائيات، وضمان استمرار المشاهد قابعاً أمامهم، ولأنّهم يحتاجون إلى ساعات إرسال كثيرة، من أجل الإعلانات وتدفق الأموال عليهم، لم يجدوا إلا الحكايات الأسطورية في تاريخ المسلمين، وقدّموها على أنها هي الدين، هذه الحكايات جرفت العقل المسلم، فلم يعد يعرف منهجاً علمياً، ولا ينكر أخباراً ملفقة، وليست لديه القدرة على أن يميّز الخبيث من الطيب، فكم من مرويات متناقضة يطرحها هؤلاء الدعاة ومنافسوهم على أنّها هي الدين، استجلاباً لاستحسان الجماهير، خطورة هذه الحكايات أنّها دمرت العقل المسلم، وشكّلت وعياً زائفاً، وجعلت المسلم أسير الحكايات الأسطورية (التي تمتلئ بها كتب التفسير)، والتي لا تقدم له حلاً؛ بل تجعله عاجزاً عن صنع الحلّ، وجعلت المجتمعات المسلمة أسيرة قابعة، تنتظر الحظوة الربانية التي سيأتي بها النصر متجسداً إلى المسلمين، وهم يغطّون في النوم أمام عبادة مشاهدة دعاة وشيوخ الفضائيات، التي يظنون أنّها تقرّبهم إلى الله.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية