هل يتنافى الإعدام مع الحق العام في الحياة؟

هل يتنافى الإعدام مع الحق العام في الحياة؟


07/10/2018

هل يمكن اعتبار تواتر الجريمة وتصاعد نسقها في المجتمع التونسيّ، عقب الثورة، ظاهرة متوقعة وحتمية تبعاً لانهيار نظام قمعيّ قام على التخويف وغياب، أو هشاشة، البديل الديمقراطي في ظلّ صراعات لعبة المصالح السياسية وعسر تحقيق الاستقرار؟ ألا يكون تفاقم حوادث العنف دليلاً على ضعف آليات الردع وانحسار فاعلية المنظومة القانونية بالتزامن مع تغوّل آفات الفقر والبطالة والتهميش والجوع من جهة والاستنزاف التأويلي لمعنى قيمة الحرية من جهة أخرى؟ وحتى إن اكتفينا بالنظر إلى الدوافع النفسية والاجتماعية الخاصة جداً بالمجرم، فإننا لا نتغافل عما تعنيه الجريمة من خرق للنظام القيمي وعن سؤال علاقة الخارق بوسائل الضبط الاجتماعي التي تؤمنها الأسرة أولاً والمجتمع ثانياً؟

اقرأ أيضاً: كان قتلاً من أجل القتل!

تلك بعض الأسئلة التي يطرحها علينا المدّ الإجرامي المرعب، والانتهاك المستمرّ لحرمة المرء وكرامته وحقّه في حياة آمنة، حتى أنّ شريحة اجتماعية واسعة باتت تعدّه من مؤشرات خيبات الثورة. إنّ خلع قوى الاستبداد السياسيّ، وإن عكست رغبة جماعية في الحرية وانتصاراً للكرامة والحقوق الإنسانية؛ فقد جعل العدة القانونية موضع صراع بين قوتين: رجال السلطة الجدد الباحثين عن مشروعية قانونية لممارسة عنف منظم، على مجتمع في طور التحوّل نحو الديمقراطية، وشعب مريد للحرية يراقب السلطة التي تعمل على الاستبداد عبر منافذ جديدة، مما يجعلها رقابة مشفوعة بانعدام الثقة والتخوّف من نكوصية الوضع السياسي.

أليس تفاقم حوادث العنف دليلاً على ضعف آليات الردع وانحسار فاعلية المنظومة القانونية

وقد أججّ هذا الخوف انقلاب الثورة المدنية إلى ثورة هوياتية، تتعالى فيها أصوات المدافعين عن المقدسات والمحذرين من موجات الردة والإلحاد، إضافة إلى ذاك التهافت الاجتماعي على تمثّل الحرية في أوضح مظاهرها، كما أشار فتحي المسكيني، في كتابه "الهجرة إلى الإنسانية"، وكأنّنا بالثورة وبُعيد حدوثها، تتوقف في الحالة التونسية عند دلالتها النفسية، بما هي حالة غضب شديد، وإن سعت إلى التمظهر بلبوس الكونية، وهي تشهد رفع شعارات الكرامة والحقوق الإنسانية.

وفي خضم هذا الصراع؛ الذي ساهم في إذواء حلم التحول إلى ما بعد الدولة الأمة، تراجع تحقّق مفهوم القانون "باعتباره سلطة لا شخصية فوق الجميع"، وفق تعبير رجاء بن سلامة، نظراً إلى حالة الفوضى التي اتخذت أشكالاً متنوعة، وبلغت درجات متفاوتة من الخطورة أقصاها الجريمة الجنائية.

اقرأ أيضاً: "التنويريون الأوائل": عمامات ألهمت الثوّار وعشاق الحرية

ولا تنفي ذلك صلة الجريمة بإرادة الشرّ الكامنة في الفرد، كما ذهب إلى ذلك كانط؛ إذ نتحدث عن أقدم أشكال الفعل البشريّ، لكنّ استمرارها وارتفاع منسوبها، في ظلّ إرادة شعب خرج معظمه إلى الساحات العامة، ونادى بتحقيق الحريات الفردية والمساواة والكرامة، يحيلنا إلى تذبذب المعايير الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية، المناسبة لبلوغ الشعب هذا الوضع القيمي المنشود المؤمن بالإنسان.

علينا أن ننظر إلى الإعدام على أنّه عقوبة استثنائية جداً قد تقتضيها العدالة وعلويّة القانون

وكأنّ حلم الانتقال الديمقراطي تعلّق بهمّة الدولة المطَالبة بتنقيح القوانين وتحديث الدستور، وإرساء مقوّمات سياسة ديمقراطية حقيقية، بينما يكتفي الشعب بتقبّل أثر ذاك التحوّل، وهو أثر سطحيّ لن يقدر على ترسيخ قيميّ فكريّ، عميق وسريع، لثقافة الحريات وحقوق الإنسان. 

وإزاء هذه الثغرة الواسعة بين مسار التغيير المتعثر الذي تمرّ به الدولة، وبطء التحول في الواقع الاجتماعي والثقافة السائدة، توسّعت مساحة العنف والجريمة، حتى كادا يتحوّلان إلى ضرب من الأحداث اليومية، ومثلما يكون الجسد موضوع عملية الضبط الاجتماعي الأساسي في المجتمعات الأبوية، يكون هو أيضاً المدار الأول الذي تنعكس عليه حالة الانفلات الاجتماعي، فيمارس العنف ويمارس عليه العنف.

ويصير العنف خبزاً يومياً، نستهلك أخباره بحثاً عن الإثارة والجدّة، ونستمرئ الخوف الممزوج بالارتياح؛ اعتقاداً منا أننا معصومون منه، ونعتاد فداحة الجرم فنصنف صانع الموت إلى جانب اللصّ والمرتشي والمتحايل، وتتوازى الشرور وتُجمع في خانة الأخطاء البشرية، التي لا تسحب من مرتكبها صفة الإنسانية.

أية ضمانات يقدمها السجن للمجتمع حتى يأمن احتمالات عودة المجرم إلى إجرامه والإرهابي إلى الإرهاب؟

ونتغافل عن كوننا نساهم في مظلمة الجسد المعتدى عليه؛ إذ نخفف من وطأة فعل حرمان الضحية من حقّ الحياة، بالبحث عن مبررات "الانتهاك شبه اليومي لما هو إنسانيّ"، في حين "هي من قبيل ما لا يبرَّر وما لا يقبَل"، كما يذكر العادل خضر، ونشيد بما شذّ من أخبار الصفح والعفو والتنازل عن الحقّ الخاصّ، ونمنّي النفس بتوبة المجرم النصوح وهو بين قضبان السجن، فهل يمكن أن يصير السجن مؤسسة تطهير قادرة على تخليص المجرم من تبعات جرمه، مهما كان الجرم، وإعداده لاستئناف التعايش مع الآخرين وفق قواعد السلم الأهلي حقاً؟ بل علينا أن نسأل: هل يمكن للسجن أن يصير رَحِماً تولد منه كائنات بشرية خالية من ذاكرة القتل، ويصير الإخبار بولادة إنسان بديلاً عن خبر الإفراج عن السجين؟

إنّ اعتبار السجن العقاب الأكثر ملاءمة للمنظومات الاجتماعية الإنسانية، وعدم القدرة على تخطّي أفق هذه المؤسسة العقابية، يعود إلى عاملين رئيسين:

الأول؛ الخوف من ارتدادات نزعة الانتقام والتشفّي؛ التي ميّزت تاريخ العقاب السابق لميلاد السجن، وهي التهمة الرئيسة الموجهة لكلّ من دعا إلى تطبيق قانون الإعدام، والحال أنّ ما يشهد به المساجين من أدلة التعرض للتعذيب السريّ، وبوسائل أبشع مما قد يقع، لو كان ذلك علنياً، تجعلنا نتساءل عن وجوه الأنسنة في هذا العقاب من ناحية، ومسار الإصلاح المرتجى من وراء ذلك.

اقرأ أيضاً: من الإكراه إلى الحرية.. نحو عقل منفتح وقلب لا تحده حدود

وتبعاً لذلك؛ لا تعدو هذه المؤسسة العقابية أن تكون شكلاً مستحدثاً من القصاص بالعزل عن المجتمع، والحدّ من حرية التصرّف والحركة، دون قدرة على تمثل جهاز قانوني يتجاوز الأوامر والنواهي، ويرقى إلى مستوى الإصلاح وتهذيب النفوس، ولعلّ انتشار عبارة "الحبس للرجال" في جملة من البلدان العربية، وشهادة المساجين بوجود أنظمة موازية لنظام المؤسسة تحدد العلاقات فيما بينهم من ناحية، وبينهم والمسؤولين على السجن من ناحية أخرى، علامة على محدودية نجاح هذه الآلية العقابية في تحقيق الوظيفة الإصلاحية، وأنّى لها ذلك دون قدرة المسجون على التخلص من صفة "خرّيج السجون" التي تظلّ مرافقة لهويته الوطنية، وتظلّ فاعلة في صاحبها بشكل لا مرئيّ، محفزة فيه استعداداته لجنوح جديد؟! ويبدو ذلك جلياً في تحديد وضعه القانوني، بصفة "ذوي السوابق العدلية"، دون مراعاة لطبيعة الذنب المقترَف؛ إن كان جنحة، أو مخالفة، أو جناية، أو تدقيق في عدد السوابق ومدى تعمّده ارتكابها.

عندئذ؛ أية ضمانات يقدمها السجن للمجتمع حتى يأمن احتمالات عودة القاتل إلى القتل والمغتصب إلى الاغتصاب والإرهابي إلى الإرهاب؟ إنّ واقع المؤسسة السجنية لا يكاد يخرج عمّا تحدث عنه ميشال فوكو، بأنّها موضوعة لرقابة حياة الأفراد وضبط حالتهم المدنية، وربما يكون القول بنجاعة قوانين العقوبات الحديثة في كفّ اليد الطولى، والمعربدة لصاحب السلطة، موسوماً بالسطحية، متى عرفنا أن السلطة تمارس من كلّ نقطة، وفي كلّ ظرف، وبكيفيات غير متوقعة، وفي نطاق علاقات غير متكافئة أحياناً، كما بيّن فوكو.

اقرأ أيضاً: الإمارات تواجه جرائم تقنية المعلومات بقانون جديد.. هذه هي عقوباته

ولا يعني تنسيبنا لجدوى هذه المؤسسة دعوة إلى إلغائها؛ بل إننا نرى القول إنّها الأنسب لمعاقبة كل الخارقين للقانون في مجتمعات تحلم "بالهجرة إلى الإنسانية"، موقف طوباوي من جهة، وشديد الظلم للإنسانية من جهة أخرى؛ فعندما يكون الخرق بالتجرد من الضمير الإنساني وتجريد الضحية من كرامتها والإمعان في إذلالها ومعاملتها معاملة الأشياء، اغتصاباً وتنكيلاً بجسدها حدّ الموت، وعندما يمارس القتل كفعل لهوي لتلبية رغبة سادية وشهوة مرضية، بقتل عجوز أو  طفل صغير بعيد اغتصابه؛ فإن الخرق يتجاوز حدود القوانين المنظمة للعلاقات؛ لأنه يمسي خرقاً وجودياً وإرهاباً محضاً، ولعلّ في الموت رحمة للضحية؛ لأن بقاءها على قيد الحياة يعني استمرار وجع الوعي بالخسران، وفوضى الذات المنتهكة، والوجع الأكبر عندما تفقد القدرة على استعادة موقعها ودورها الاجتماعيين؛ أي عندما تصير جسداً بيننا وروحاً هائمة هناك، ويصير "الهنا" عندها هو عالم العدم و"الهناك" عالم الوجود.

هل يمكن أن يصير السجن مؤسسة تطهير قادرة على تخليص المجرم من تبعات جرمه

هل يمكن لهذا الضرب من الجرائم، المنافي لمبدأ الذاتية والحرية والفردية والحقوق الجسدية؛ أي لقيم الحداثة، أن ينقلب إلى شعور المجرم بذنبه وتأنيب ضميره أو بصفح وعفو الضحية عن جلادها؟ هل يمكن القبول بعقوبات هي قاب قوس أو أدنى من التطبيع، مع العنف بشكل عام، والعنف الجنساني بشكل خاص، حتى يبلغ الاستخفاف حد الحكم بتزويج المغتصب ضحيّتَه، وقد ألغي هذا القانون في تونس منذ أشهر؟ أليس في هذا الانتهاك الذي يحطم كل توازنات الذات المعتدى عليها ما يجيز المرور إلى الاستثناء في الأحكام الجنائية، أي الإعدام، إذا كان ذلك شرطاً لحماية المدنيين ووقاية المجتمع من احتمالات عود مجدد لاستباحة حرمات أخرى؟

لا ريب في أنّ مجرد التفكير في حكم الإعدام، يبعث على الرعب ويستفزّ حميتنا الحقوقية، رغم معرفتنا أنّه ليس من القوانين السارية؛ بل هو استثناء، بل قد نتفق على أنّ الاستثناء القانوني يشكل تهديداً لمقومات الدولة الحديثة، بإطلاق يد ممثلي السلطة عبر ثغرة الاستثناء، لكن ننسى أنّ القوانين تنهض على عنف منظم، وهو عنف رمزي في أغلب المنظومة القانونية، وأنه قد يصير عنفاً بائناً، يبلغ أقصاه في حال الجرائم الجنائية، على أنّ الحد الأقصى في نظام العقوبات هو استثناء.

اقرأ أيضاً: هل تنفذ إيران عقوبة الإعدام بحقّ المحتجين؟!

وبذلك يكون الاستثناء حالة قانونية، شرعية حيناً ولا شرعية حيناً آخر، قابلة للتعليق أو التطبيق، بحسب مقتضى تطابق الواقع مع القواعد القانونية، كما بيّن جيورجيو أقمبن، ولئن كانت بعض الدول قد استغلت هذا القانون الاستثناء لتبرير إقدامها على إبادات جماعية، أو تصفية المعارضين السياسيين؛ فإنّ إلغاءه تماماً لن يؤمّن القضاء على هذه الجرائم، بقدر ما سيجعلها جرائم سرّية يلفّها الغموض، وتفلت من قبضة التاريخ.

ولأنّ من دواعي العدالة أن يكون القانون قوة متعالية عن القواعد القانونية؛ فإنّ الاستثناء يكون أحياناً هو التعبير القانوني الملائم للعدالة؛ أي علينا أن ننظر إلى الإعدام على أنّه عقوبة استثنائية جداً، قد تقتضيها العدالة وعلويّة القانون، المتجسدة في مرونته، دون أن ندّعي قدرة هذه العقوبة على دحر الاغتصاب وضمان السلم الاجتماعي نهائياً، وليس التشبّث بالاستثناء سليل ثقافة قصاص، أو رغبة في  التشفّي والانتقام، أو تعويضاً للضحية الميتة حقيقة أو مجازاً؛ بل تمسكاً بحقّ الحفاظ على الحياة الذي تسعى الدولة إلى تأمينه بتوفير السلم والنظام.

يغدو مطلب إلغاء الإعدام نهائياً مطلباً سابقاً لأوانه متى لم يكن هناك معطيات مسبقة تبرر ذلك

ويرى المؤيدون لإلغاء عقوبة الإعدام؛ أنّ هذا الحقّ الأساسي يخصّ كلّ كائن بشري، ولو كان مجرماً، غير أنهم يتغافلون عن إمكان تحوّل وجود هذا المجرم إلى خطر يهدّد حقّ المجتمع بأكمله في حياة مستقرة آمنة، فأيّهما أحقّ بالحياة؟

إذاً؛ يمكننا القول: إنّ الإعدام هو أبغض الحقوق التي قد تطالب بها الجماعة الإنسانية، وتقدّر الدولة وجاهتها، خاصّة إذا كان الأمل في شعور المجرم القاتل بالذنب وانكبابه على مراجعة نفسه، والعمل على وضع بداية جديدة أملاً ضعيفاً؛ فالمغتصب القاتل لم يقتل ضحيته فحسب؛ بل قتل الروابط التي تصله بالمجتمع، وشطب موقعه من الهندسة الاجتماعية؛ لذلك يغدو مطلب إلغاء الإعدام نهائياً مطلباً سابقاً لأوانه، متى لم يكن هناك عزم حقيقي على نشر ثقافة احترام الآخر، وترسيخ مقومات التعايش، وتجسيد قيمة المساواة بين الأفراد، وتصالح الإنسان مع جسده، وتغيير العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني؛ من التعارض والحذر المتبادل، إلى المضيّ معاً في سبيل تقديم أقصى قدر من العدالة. وهذه المرحلة ما تزال حلقة مفقودة في مجتمعاتنا العربية المتشدقة بالديمقراطية، فكيف لها أن تتحدث عن انتقال ديمقراطي ولمّا تدرك شروط الانتقال وإمكانيات تمثله؟ الطريق موجود، لكنّه لم يُعبّد بعد.

اقرأ أيضاً: الأمم المتحدة تعتمد تقرير الإمارات الثالث لحقوق الإنسان..ماذا جاء فيه؟

في خاتمة المطاف؛ هل يلغي دفاعي عن عقوبة الإعدام الاستثنائية انتمائي إلى دائرة المؤمنين بحقوق الإنسان؟ هل يعني ذلك أنّ المنظومة الحقوقية قد اكتمل نصابها، وأنها لا تخضع لتحولات محكومة باقتضاءات تاريخية؟ وسؤالي الأخير: إذا كان الحقّ في الحياة لا يخصّ، بل يعمّ ويعلو فوق كلّ إكراهات الواقع ويجعلها خاضعة له، فكيف نبرر الإجهاض لحماية حياة الأم، أو استثناء القتل الرحيم في حالة معاناة المريض جسدياً مع اليأس من شفائه، وغير ذلك من الممارسات المتنافية مع حقّ الحياة؟ أليست خرقاً للمبدأ الحقوقي ولجوءاً إلى دائرة الاستثناء؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية