هل يصلح التصوف ما أفسده الفقهاء؟

هل يصلح التصوف ما أفسده الفقهاء؟


24/06/2018

مثّل التصوف ثورة روحية في تاريخ التجربة الإسلامية، ثورة تتجلى فيها روحانية الإسلام؛ حيث قدم التصوف تفسيراً عميقاً للإسلام، فيه إشباع للعاطفة، وتغذية للقلب، فلم يقف عند التفسير الظاهري الذي قدمه الفقهاء للإسلام، ولا التفسير العقلي الجاف الذي وضعه الفلاسفة والمتكلمون، ولذا سعى التصوف إلى فهم مغاير للإسلام في فهمه لله، والنفس الإنسانية، والدين، والعالم، والوجود.

كان الفقهاء ينظرون إلى الدين والشريعة على أنّهما حركة ضبط وتسيير للاجتماع البشري، وتعليم الناس كيف يسلكون سلوك الإيمان، لكنّ التصوف سعى إلى تعليم الناس حقيقة الإيمان، وديانة القلب. يقول الفقه للناس إنّ الصلاة أفعال وأقوال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، لكنّ الصوفية يرون أنّ الصلاة مناجاة قلبية بين العبد والربّ، كان الفقه يعلّم الناس كيف ينظرون إلى الله بوصفه معبوداً، في حين المتصوفة يعلمونهم كيف ينظرون إلى الله بوصفه محبوباً أولاً، ومعبوداً ثانياً، لأنّ العبادة فرع من المحبة.

الفقهاء ينظرون للدين على أنّه حركة ضبط وتسيير للاجتماع البشري لكنّ التصوف سعى لتعليم الناس حقيقة الإيمان

لم ينزل التصوف الله من السماء إلى الأرض ليكون طرفاً بين المتصارعين، كما فعل علم الكلام، لكنّه نظر إلى الله بوصفه محلاً للجمال والكمال والجلال، ومصدراً للحقيقة، فظل الله في عليائه الهدف والمبتغى للصوفي الذي يسعى إلى السفر والسلوك إليه، ساعياً نحو الوصال معه والفناء فيه.

ومن ثمّ، رأى التصوف أنّ معركة الإنسان في الوجود هي مع نفسه؛ ذلك لأنّ نفسك هي أعدى أعدائك التي بين جنبيك، لذا كان عليك أن تطهّر نفسك من الشهوات والتعلق بالماديات، وأن تطهرها من أمراض النفس كالحقد والحسد، ثم تقوم بتحلية تلك النفس بالصلاة والذكر المستمر لله، وتسبيحه بأسمائه وصفاته.

يركز التصوف على أهمية حضور الله في قلبك، وأن تقام علاقة خاصة بين الذات والله تقوم على مركزية الحب بين الخالق والمخلوق، وعلى العشق بين المخلوق والخالق؛ فالله هو المحبوب الذي يسعى المحب الصوفي إلى التوحد به والفناء فيه، فيقول سمنون: (المحبة أصل وقاعدة الطريق إلى الله، والأحوال والمقامات كلّها للمحبة له"، وعدّ القشيري: "المحبة هي محو المحب لذاته، وإثبات المحبوب بذاته"، فحين تستولي المحبة على روح الصوفي؛ فهو لا يرى سوى المحبوب، ويستولي عليه المطلوب، وهو حضور الله الدائم في القلب، وفي كلّ الأحوال. وكان الفضل لرابعة العدوية أنّها نقلت اتجاه التصوف في علاقة الإنسان بالله من الخوف إلى المحبة؛ ذلك لأنّ أجمل ما في الوجود هو السعادة الأبدية، ولا يتوصل إلى هذه السعادة إلا بمحبة الحقّ تعالى بكل القلب، من غير شرك في محبته، ولا يتوصل إلى كلّ محبة إلّا بمعرفة كمال المحبوب وجماله؛ إذ من لا يعرف لا يحب؛ فالمحبة ثمرة المعرفة، والمعرفة علّة المحبة وسببها، وإنّ المعرفة إذا تأكدت أثمرت المحبة، وإذا تأكدت المحبة تجلت للمحب أوصاف حبيبه.

اقرأ أيضاً: نصر أبو زيد مشتبكاً مع ابن عربي: تصالح العقل والتصوف

ومن خلال التجربة الصوفية، القائمة على المحبة، يسود التسامح في علاقة المتصوف بالعالم وبقية الأديان، وفي ذلك يقول الحلّاج:

تفكرتُ في الأديان جدّ محقّقفألفيتها أصلاً له شعب جــمّـــا
فلا تـطـلـبـنْ للمـــرء ديـنـــــاً فإنه             يصدّ عن الأصل الوثيق وإنما
يـطـابـقه أصـل يعـبــر عنـــدهجميع المعالي والمعاني ففيهما


فالأصل في الأديان هو الله والإيمان به، فهو الهدف والمبتغى، وما الأديان إلا تلك الشعب الجمة أو الطرق الموصلة إليه، وبهذه النظرة يكمن التسامح وقبول الآخر المغاير له في الدين، فالأديان كلّها من الله، عزّ وجلّ، وشغل لكلّ دين طائفة، ليس اختياراً منه، بل اختياراً عليهم، وما اليهودية والمسيحية والإسلام، وغير ذلك من الأديان، إلّا ألقاب وأسماء مختلفة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف، وهو سبيل الله القائم على المحبة، فالمحبة ينبغي أن تكون سبيل كلّ الأديان.

اقرأ أيضاً: "سيدي وائل" صوفيّ منفتح يعشق الموسيقى وأم كلثوم ويبحث عن سعادة الروح

وكان الحلّاج يرى أنّه: "ليس على وجه الأرض كفر إلّا وتحته إيمان، ولا طاعة إلا وتحتها معصية أعظم منها، ولا انفراد بالعبودية إلّا وتحته حرمة، ولا دعوى المحبة إلا وتحتها سوء أدب، لكنّ الله عامل عباده على قدر طاقتهم"، ومن ثم ينبغي ألا نضع أنفسنا قيميين على عقائد الناس، أو اتجاهاتهم؛ فليس في دنيا البشر كفر بالمطلق، ولا يوجد إيمان بالمطلق، ومن ثم فإنّ كلّ شيء نسبي في أرض البشر، وهو ما يعمّق التسامح والمحبة بين الناس.

لقد كشف الحلّاج عمق التسامح في موقفه وعلاقته حتى بمن يكفرونه، فيقول لأحد تلاميذه: "يا بنيّ، إنّ بعض الناس يشهدون عليّ بالكفر، وبعضهم يقرّون لى بالولاية، والذين يشهدون عليّ بالكفر أحبّ إلى الله من الذين يقرّون لي بالولاية؛ لأنّ الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنّهم بي، والذين يشهدون عليّ بالكفر يشهدون تعصباً لدينهم، ومن تعصب لدينه أحبّ إلى الله ممن أحسن الظنّ بأحد".

يركز التصوف على أهمية حضور الله في القلب والعلاقة الخاصة بين الذات والله القائمة على مركزية الحب 

ما أشدّ حاجتنا في اللحظة الراهنة من حياتنا إلى أن نبثّ روح التصوف في الخطاب الديني المعاصر، وأن نجدد للناس علاقتهم بالله؛ لأنّ إقامة العلاقة مع الله بناء على المحبة والتسامح هو ما يتطلبه العلاج الراهن لمسألة توظيف الدين في العنف والدماء وقتل الآخرين، فيقول عبد الجبار الرفاعي: "إنّ الحب هو الذي يوجه بوصلة الدين، وليس الدين هو من يوجه بوصلة الحبّ، ويتجلى للمرء أنّه حينما يوجد الحب يتحقق الدين، كما يتكشف أنّ من لا يحب الإنسان لا يحب الله... من خلال قوة الحب يمكن الخلاص من حبّ القوة، بالحب تكفّ الكراهية عن الفتك بمجتمعاتنا، بالحب تنجو مجتمعاتنا من العنف الذي يفترسها، وبالحب تتخلص مجتمعاتنا من الخوف الذي يسكنها، فحياة الحبّ تنقذنا من عدم حبّ الحياة".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية