هل يصلح المثقف بديلاً عن الشيخ: تأملات في مولد المثقف العربيّ

هل يصلح المثقف بديلاً عن الشيخ: تأملات في مولد المثقف العربيّ

هل يصلح المثقف بديلاً عن الشيخ: تأملات في مولد المثقف العربيّ


29/04/2019

هناك إجماع في الكتابات التاريخية على أنّ مفهوم المثقف هو وليد ما سُمِّي في السياق الفرنسي، بـ"إعلان المثقفين"؛ الذي نشر عام 1898، ووقع عليه مثقفون كبار، مثل: إيميل زولا، ومارسيل بروست، وقد كان يتعلق بـ"قضية داريفوس"، حيث اتُّهم داريفوس من قبل السلطة بالتخابر مع ألمانيا، وقد شكّلت حادثته إجماعاً من مثقفي عصره على التضامن معه، ومن هنا؛ غدا لمصطلح المثقف صكّ مستقر، ومن هذه الإشارة، يمكننا القول: إنّ مصطلح المثقف نشأ كصراع مع السلطة.

اقرأ أيضاً: هل ينطق المثقف بلسان مجتمعه؟

يحتاج مفهوم "المثقف" دائماً إلى فحص تاريخي، مع نقد اجتماعي لا يقلّ شراسةً عن تلك النزعة التي تسيّدت عقولنا زمناً، باعتبار المثقف مخلَّصاً ثقافياً، ومحرَّراً رمزياً من عنق السلطة؛ فهالات "تقديس الشخصيّة"، شخصيّة المثقف، ليست إلّا خفافيش تحجب الرؤيّة عن أصل هذا المثقف ولحظة انبثاقه، فسردية المثقف تمّ اصطناعها على نحو متعال؛ حيث غدت قولاً دوغمائياً وثوقياً لا يمكن البتّ فيه، خاصّة مع التحالف الجماهيري مع تلك السرديّة مما يعطيها شرعيّة رمزيّة على العقول والأجساد؛ كونها سلطة مصطنعة.

يحتاج مفهوم المثقف دائماً إلى فحص تاريخي مع نقد اجتماعي لا يقلّ شراسةً عن تلك النزعة التي تسيّدت عقولنا زمناً

إنّ مناقشة المفاهيم الكبرى، كمفهوم المثقف والفقيه والشاعر والعامل والسلطان، ...إلخ، ينبغي إخضاعها لبحث واقعي؛ حيث إنّ مَن يمثّل هذه المفاهيم هم فاعلون اجتماعيّون في المجتمع، فالاكتفاء بالبحث المتعالي لتلك المفاهيم مجرّدة لا يخرج بجدوى اجتماعية، أما البحث الذي يقع على هذا المثقف وذاك الفقيه المشار إليه، فإنّه يتعامل مع التعيين الذي يسعف الظاهرة بتحليل اجتماعي.

غالباً ما يُناقَش مفهوم "المثقف" على قاعدة الأمل، في كونه قائل الحقيقة، والبطل، والشجاع، إلى آخر الألفاظ المشبعة بالقيمة، وغالب المساهمة في الاقتراب نحو هذا المفهوم يكون باللجوء إلى المفهوم في المدارس السوسيولوجية الغربية؛ لأنّ المفهوم بالأساس مفهوم غربي، غير عربيّ، وكونه غير مبيّأ بما يكفي؛ لأن نتكلّم عنه بأريحيّة وبغير احتراز منهجي ومبدأي؛ إلّا أنّ هناك جانباً من المفهوم، تنبغي مناقشته عربياً، بجديّة وصرامة، خاصةً مع تبلور الدولة الحديثة عربياً، وإحلال الدولة للمثقف بدلاً من الشيخ، كقوة رمزيّة في الفضاء الاجتماعي.

المثّقف العربي لم يكتسب تلك الصفة بشكل طارئ؛ بل نتيجة لتحديث بنيوي قد حصل في طبيعة المجتمعات الإسلامية العربيّة في نهاية الحقبة الإمبراطورية للخلافة، ومجيء الاستعمار الكولونيالي، ثم بزوغ الدولة الوطنيّة الحديثة، فكلّ فضاء مُحدَّث يسعى لإنشاء طبقة تحديثيّة تقوم على صنع الآفاق الرمزية لطبيعة تلك المجتمعات الجديدة، فالانتقال من حقبة إلى حقبة يكون في حاجة إلى قوة تشريعية جديدة، تمنح هذا الانتقال العبور، وتسعى لتأسيس جديد لنمط من علاقات السلطة؛ أي أن يتمّ خلْق المجتمع من جديد، وإعادة ترتيبه وفق منظومة التحديث الجديد، ومن ثمّ تُلغى طبقات وتبزغ طبقات أخرى.

اقرأ أيضاً: المثقف إذ ينسحب تاركاً الساحة للتفاهة وللتشدّد والإرهاب

إنّ الإنتلجانسيا العربيّة لا يمكن فصلها عند التحليل السوسيولوجي عن الدولة الحديثة والاستعمار بشكل خاصّ؛ فـ "المثقف" ظاهرة حديثة كحداثة الدولة تماماً؛ وهو جزء من الفضاء الاجتماعي الذي حلّ بالزمن الحديث في العالَم العربي. وارتبط مفهوم المثقف دائماً في المخيال الجمعي، بالتمكّن مما هو زمني بدلاً من الشيخ المتمكّن مما هو مقدّس، وهو نفس النموذج الذي تحاول الدولة الحديثة أن ترسمه لنفسها: أي كونها دولة زمنية، إلهاً فانياً، علمانية، لا علاقة لها بالمطلق الديني إلّا إذا وظّفته وجعلته محايثاً في خدمتها وشرعنة وجودها.

فمثلاً؛ في الحقبة الإمبراطورية للخلافة، كان مفهوم "العلم" تقوم عليه طبقة المشايخ الذي يتخرّجون من المساجد، ويتولّون المحاكم الشرعيّة ويُخرّجون، من ثمّ، تلاميذَ لهم سند رمزي غير قانوني غالباً؛ فإنّ حقبة الدولة الوطنية تعيد صياغة مفهوم "العلم"، ليغدو ملكاً للمدرسة الحديثة، والأستاذ الحديث الذي ينتج العلم، وفْق رؤية جديدة لهذا العلم، من حيث مصادره وإشكالاته ونتائجه، ولأنّنا –عربياً- لا نتمتّع بالفصل بين المؤسّسات المجتمعية والمؤسسات الدولتية؛ فإنّ كلّ مؤسسة تبزغ هي ممثّلة للدولة في الحقيقة.

اقرأ أيضاً: المثقف والفقيه.. هل من قطيعة بينهما؟ وكيف يمكن أن يواجها التطرف؟

بمعنى آخر؛ فإذا كان المسجد هو عنوان الدولة الإمبراطورية للخلافة، فإنّ المدرسة هي عنوان الدولة الحديثة، التي سعى لتدشينها محمّد علي.

فالمثقف هو وجه الدولة مقلوباً في صورة رمزية، لا أكثر، ولهذا ثمة "اعتراف" ضمني متبادل بينهما؛ فالمثقف يعترف بالدولة، والدولة تعترف بالمثقف، كنائب عنها و"ممثل" لها في الفضاء الاجتماعي، وبالاستعانة ببورديو، يمكن القول: إنّ المثقف العربي، منذ نشوء الدولة الحديثة، يقوم على مهمة "التفويض"؛ فهو مفوّض من قِبل "جهة" عليا، سواء كانت الدولة مباشرة، أو حزباً يعمل "من داخل" الدولة، لتمثيل "قضايا" معيّنة وطرحها في الواقع؛ لذلك المثقف دائماً يجعل من "رأي" الدولة رأياً عاماً، وما مفهوم الرأي العام سوى صورة لهذا التفويض الضمني بين الدولة ومثقفيها المُحدثين.

فكلّ سلطة تعمل على صناعة مفوضين رمزيين لقضاياها، يقومون بصنعها وبثّها اجتماعياً، وهؤلاء المفوضون لا بدّ من أن يكونوا من طبيعة الدولة نفسها، أي من طبيعة سرديتها حول نفسها ورؤيتها، وإلّا حصل الخلاف الجذري الذي تسعى الدولة، إمّا إلى تقويضه، أو إلى احتوائه وضمّه إليها.

اكتسب المثّقف العربي تلك الصفة نتيجة لتحديث بنيوي حصل في طبيعة المجتمعات الإسلامية العربيّة نهاية الحقبة الإمبراطورية للخلافة

فمنذ محمد علي، والدولة العربية، التي ربّما قطعت فقط مع شكل الحكم القديم، وإن أبقت على مضمونه: حزب واحد، شخص يورّث، دولة-أمّة، ...إلخ، تعمل على إحلال طبقة جديدة من المشرّعين لها، بدلاً من الطبقة القديمة، وهنا يأتي المثقف بدلاً من الشيخ لتحليل هذه الحلقة الملتبسة: فلا بدّ لهذه الطبقة من أن تؤمن بالأنطولوجيا التاريخية للدولة ولرؤيتها المعياريّة حول العالم، بل وحول نفسها، فالدولة الحديثة مصدرها حديث ومستعار، ولا يمكن أن يبرّر لها إلّا مَن كان ينتمي إلى ذات التصور المعياري للعالَم وللدولة ذاتها؛ لذا، فتحليل مفهوم المثقف لا يمكن فهمه إلّا بربطه في علاقة تفسيرية مع الدولة بالأساس؛ حيث لا يمكن التعامل معها بـ"تعالٍ" ما، أو بوصفه "حامل رسالة"، وإنما بإشراكه ضمن علاقات السلطة التمثيليّة التي تنفّذ في الفضاء الاجتماعي.

اقرأ أيضاً: المثقف والسلطة.. هل ما يزال الرقيب يتحسس مسدسه؟

وإذا زُجَّ بمفهوم "الاعتراف" و"التمثيل" في فضاء تأويلي، يمكننا فهم ما يمثله المثقف الحديث، مثقف الدولة-الأمة؛ فهذا الاعتراف يعطي الذات نوعاً من الكلام عن الذات وسرديّة حولها، بوصفها ليست عضواً، بقدر ما هي "مخلّصة" وتعرف "الحقّ"، وعلى الجانب الآخر؛ لا يمكن الاعتراف بما لم تعترف به الدولة من مثقفين، ولا يمكن لمثقف الدولة نفسه أن يعترف بما سواه؛ كونه هو مَن "يمثّل" الدولة والأمّة معاً، فكلّ من لم يمثل رؤية الدولة من المثقفين يتمّ استبعاده من قبل الدولة والمثققين أيضاً، ولهذا نفهم سعي الدولة إلى نشر كتب بعينها لمثقفين بأعينهم ضدّ مثقفين، وإتاحة "المجال العام المتوهّم" لممثّليها الرمزيين دون غيرهم، ولا تكتفي بعقابهم بشكل رمزي بإقصائهم فقط؛ بل تعقابهم مادياً: فكلّ سلطة لا بدّ من "سجن" ينام إلى جانبها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية