هل يعيد التاريخ الليبي المصري نفسه مع الأتراك؟

هل يعيد التاريخ الليبي المصري نفسه مع الأتراك؟


09/01/2020

تشاركت مصر وليبيا عبر العصور الآمال والآلام، وجمعهما رباط الحنين والحضارة والثقافة والعِرق، فأدخلهما البحر المتوسط وأفريقيا الموقع والحدود الممتدة في نطاق حضاري واحد، وربطت بينهما جذور تاريخية تعود إلى عهد الأسرة الثالثة (٢٦٥٠-٢٥٧٥ قبل الميلاد)، وامتدت في حقبة الدولتين الوسطى والحديثة سيما عهد رمسيس الثالث، فأطلق الفراعنة عليها "تريبوليس" (طرابلس) ومعناها المدن الثلاث.


انتقلت مصر وليبيا معاً إلى حكم ملك الفرس قمبيز، ثمّ حكم البطالمة، ثمّ حكم الرومان سنة ٣١ قبل الميلاد، كذلك تحوّل القطران معاً إلى العروبة والإسلام في أعقاب وصول الفتح العربي الإسلامي العام ٦٤٢ بقيادة عمرو بن العاص إلى أفريقيا الذي أوقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حركة جيوشه في ليبيا، فعندما كتب ابن العاص إلى عمر رسالة جاء فيها: "إنّا قد بلغنا طرابلس وبينها وبين أفريقيا (تونس) تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوها فعلنا"، فكتب إليه عمر ينهاه عنها، ويأمره بالوقوف عند هذا الحدّ، فعاد مُكرهاً بعد أن استخلف على ليبيا عقبة بن نافع الفهري، الذي سينطلقُ بعد ذلك من ليبيا إلى فتح بلاد المغرب.

تشاركت مصر وليبيا عبر العصور الآمال والآلام وجمعهما رباط الحنين والحضارة والثقافة والعِرق

اختلط الدم المصري بالدم الليبي بالمصاهرة حتى أصبح سكان غرب الدلتا والصحراء الغربية، لا يختلفون عن سكان ليبيا نفسها، فكان لتنقلات القبائل العربية بين مصر وليبيا أثر كبير في تجانس القطرين وتوطيد أركان العروبة بينهما؛ فلا تكاد توجد قبيلة في برقة إلا لها فروع في مصر، ومن أشهر تلك القبائل بني هلال وبني سليم التي هاجرت في القرن الحادي عشر الميلادي من مصر إلى ليبيا، ثم عادت بعض فروعها إلى مصر مرة أخرى، ومنهم "أولاد علي" الذين توزّعوا بين السلوم والإسكندرية والبحيرة، و"الفوايد" و"الجوازي" الذين استقروا في محافظة الفيوم، وكانت الجوازي من بني سليم قد اضطروا للهجرة إلى مصر بعد مجزرة برقة في ٥ أيلول (سبتمبر) ١٨١٦ التي قتل فيها العثمانيون عشرة آلاف من الجوازي في ليلة واحدة لعصيانهم لأوامر الوالي العثماني "القرمانللي" ورفْضهم دفع المكوس والضرائب.

اقرأ أيضاً: إلى أي مدى يهدّد التواجد التركي في ليبيا الأمن المصري؟
في العام ١٥١٧ دَانَت مصر للعثمانيين بعد شنق "طومان باي" آخر حكام دولة المماليك، بعد أن كسرهم ثلاث مرات، ولحقت بمصر ليبيا، ففي منتصف القرن السادس عشر نشط الأتراك في القرصنة حتى فرضوا في القرن السابع عشر سلطانهم على البحر المتوسط ، وقرّروا على السفن التجارية العابرة جباية عُرفت بـ "دايات طرابلس"، ومن يمتنع من السفن تُسلب حمولتها ويُؤسر مَنْ عليها ويُباعوا بيع الرقيق، وكان طورغود القائد البحري التركي أول من أقام للقراصنة دولة في طرابلس؛ فبعد أن خلّص البلاد من حكم الصليبيين العام ١٥٥٣ أخذ في تحصين قلاع ومرافئ طرابلس وشيّد أسطولاً بحرياً من سفن القرصنة أنزل به الرعب في قلوب الملاحين والتّجار من شعوب أوروبا وأفريقيا.

اقرأ أيضاً: ما مخاطر التدخل العسكري التركي في ليبيا على الأمن القومي المصري؟
وبموت "طورغود" أصبحت تبعية ليبيا للعثمانيين شكلية، فأحكم قادة الجنود الانكشارية سيطرتهم عليها، بعد أن جمعوا ثروات كبيرة من القرصنة، وبعد قرابة القرن والنصف قرن دبّ بينهم الاختلاف، فحاول كلّ منهم أن يستبد بالأمر حتى حسم أحد قادتهم "أحمد القرمانللي" الأمر لنفسه العام١٧١١، وجعل حكم ليبيا في أسرته دون غيرها من الأتراك، وتقوّى بما يجمع من أموال القرصنة، وما تدفعه الحكومات من رسوم وعطايا لتأمين تجارتها وسفنها التي كانت تمر في شرقي البحر المتوسط.

تحوّل مصر وليبيا إلى العروبة والإسلام عقب وصول الفتح العربي الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص

وأخذت أسرة القرمانللي تُجري المعاهدات معه دون الرجوع إلى السلطان العثماني حتى العام ١٨٣٥، فقد انتهز السلطان العثماني محمود الثاني فرصة تفاقم النزاع في طرابلس بين الأتراك من أسرة القرمنلي على الحكم، فأرسل قوة بحرية مكونة من ٢٢ سفينة، وعليها والٍ من قبلِهِ ليستولي على الحكم هناك؛ ليستعيد السلطان بذلك سيطرته المباشرة، وأخذ في استمالة الأهالي بإنشاء المدارس وإصلاح شؤون الإدارة إلا أنّ الوقت لم يسعفْه، فسرعان ما دبّ في دولة العثمانيين الضعف بعد هزائمهم المتوالية أمام روسيا وولاتها في البلقان، فلم تقوَ على الصمود أمام المستعمر الأوروبي الذي أخذ في التوسّع على حساب إمبراطوريتها المتهاوية في الشرق، فلم يجد الأسطول الإيطالي صعوبة في إخضاع المدن الساحلية: طرابلس وبنغازي ودرنة خلال ٢٤ ساعة من إعلانه الحرب على القوات التركية التي انسحبت من سواحل ليبيا.

اقرأ أيضاً: هذا موقف الأتراك من تدخّل أردوغان في ليبيا
خاضت المقاومة الشعبية ضد المستعمر الإيطالي حرباً بلاً هوادة بقيادة حفيدي الشيخ محمد علي السنوسي مؤسس الطريقة السنوسية الذي سبق ولجأ إلى القاهرة فترة حكم "محمد علي" العام ١٨٢٠ هرباً من بطش الأتراك، فاحتضنه الأزهر، والتفّ حوله المصريون، فانتشرت في مصر الزوايا السنوسية ومنها انتقلت إلى ليبيا، وعندما انكسرت الموجة الأولى من المقاومة الليبية للإيطاليين العام ١٩٢٤ لم يجد أحفاد محمد إدريس السنوسي ملاذاً لهم سوى مصر التي فتحت ذراعيها لاستقبالهم كما استقبلت جدهم.

اقرأ أيضاً: ليبيا.. عندما تُفلسف غزوات عثمانية جديدة
ذلّلت مصر رغم احتلالها جميع العقبات أمام المهاجرين الليبيين، وفتحت لهم قنواتها المسموعة والمقروءة؛ فأول الأنشطة التي تأسست من أجلها جمعية الهلال الأحمر المصري برئاسة الشيخ علي يوسف تقديم الدعم المادي والمعنوي للشعب الليبي، فناضلت مصر من أجل ليبيا نضالها لنفسها، ولم تمنعها أغلال الاحتلال البريطاني من دعم المقاومة الليبية في موجتها ثانية التي حمل رايتها البطل الليبي عمر المختار فتدفق السلاح من مصر إلى ليبيا، وانخرط بعض المصريين في المقاومة الليبية منهم "عزيز المصري" الذي نال رمزية كبيرة في الوجدان الليبي، والتف حوله أبناء بنغازي والعرب هناك حتى أصبح قائداً للمقاومة في منطقة بنغازي حينئذ.

أسس الليبيون في مصر جمعيات ومنابر إعلامية يشحذون بها الهمم لمواجهة الاحتلال الإيطالي

كذلك ساندت مصر الشعب الليبي إعلامياً، فأسس الليبيون في مصر جمعيات ومنابر إعلامية انطلق منها القادة الليبيون يشحذون الهمم لمواجهة الاحتلال الإيطالي، ومن أشهر تلك الشخصيات الشيخ طاهر أحمد الزاوي، ومن قبله أحمد السويحلي، وأصدر المهاجرون الطرابلسيون في مصر كتاب "فجيعة العرب في طرابلس الغرب" لكشف مآسي الشعب الليبي على يد الإيطاليين، وتدفقت المعونات على أبناء ليبيا فأنشأوا معسكرات تدريب في مصر نجحت في ضخّ دماء جديدة في جسد المقاومة الليبية التي أرغمت الإيطاليين بعد تضحيات كبيرة على إعلان الخروج من ليبيا في شباط (فبراير) ١٩٤٣.
واستكملت مصر دعم النضال الليبي سياسياً حتى يتحقق الاستقلال الليبي الكامل، ففي ١٢ أيلول (سبتمبر) ١٩٤٥ تقدمت مصر بمذكرة إلى مجلس وزراء خارجية الدول الكبرى في لندن تُطالبُ فيها بضرورة تقرير أبناء ليبيا لمصيرهم ومنحهم الاستقلال الكامل بحدودها الطبيعية من الحدود المصرية إلى الحدود التونسية والجزائرية وإلى الصحراء الكبرى جنوباً، وعلى أثر ذلك تألفت في القاهرة هيئة من الزعماء الليبيين أطلق عليها اسم (هيئة تحرير ليبيا) في شهر آذار (مارس) ١٩٤٧.

اقرأ أيضاً: ما هي القوات التي يستطيع أردوغان نشرها في ليبيا؟
وواصلت مصر جهودها في دعم النضال الليبي دبلوماسياً؛ فقدّمت إلى هيئة الأمم المتحدة الأسانيد التاريخية والبراهين السياسية والاقتصادية التي تثبت حق شعب ليبيا في المكان والمكانة، وشاركت في صياغة البيان الذي أعلنته هيئة الأمم المتحدة في ٢١ شباط (نوفمبر) ١٩٤٩ الذي يقضي باستقلال البلاد بالتنسيق مع دول الجوار في فترة انتقالية أقصاها أول كانون الثاني (يناير) ١٩٥٢، وشُكّلت عدة لجان بمشاركة مصرية من أجل المساعدة في بلورة الكيان الليبي وترسيم حدوده وتذليل العقبات. وباستقلال ليبيا لم تتوقف مصر عن دعمها في مختلف المجالات العلمية والثقافية والفنية، فتوثقت العلاقات وعقدت الاتفاقيات، وكان النموذج المصري حاضراً في بناء الدولة الليبية.
هذا هو التاريخ الذي يُعيد نفسه من جديد، فقد دار الزمان دورته وعاد كل من المصريين والأتراك إلى سالف عهدهم بليبيا، فالأتراك يريدون أن يُعيدوا سُلطانهم الذي مضى عليه أربعة قرون عندما كانوا ينطلقون من شواطئ ليبيا للقرصنة في مياه البحر المتوسط، والمصريون بدورهم يعودون لدعم الشقيقة الغربية التي يرون أمنها واستقرارها سبيلهم إلى تحقيق أمنهم واستقرارهم الوطني.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية