هل يعيش العالم اليوم قلقاً معرفياً؟

هل يعيش العالم اليوم قلقاً معرفياً؟

هل يعيش العالم اليوم قلقاً معرفياً؟


31/10/2023

كما يقال في المأثور العربي (من لم يكتب.. فكلتا يديه شمال)..
ليس من هنا فقط تأتي حجة للكتابة، فهي فعل تاريخي مستمر، بل تأتي قيمتها الحقيقية من المعنى الذي تؤسس له أو الدور الذي تؤديه في محيط الفكر والثقافة والوعي، لكن الانتقال المعاصر للكتابة من  الوظيفية إلى الترفيَّة، جعلها حالة ملتبسة بالثرثرة، بعد أن كثرت الأقلام وصارت الكتابة بالقلم لا تساوي شيئاً أمام الكتابة بالدم.

اقرأ أيضاً: شارلي شابلن والأخلاق.. من المسؤول عن البشاعة من حولنا؟
سنبقى نبحث عن فعل التحدي في كل كتاباتنا.. عن الحياة والموت، عن الكرامة والحقوق، عن الإصلاح، عن الفساد مثلاً، أو عن دم الشام، أو عن حرائق العراق، وعن جنون المحتلين في فلسطين وعن الإخوة الذين يجدعون أنوف بعضهم بعضاً في ليبيا من أجل الجاه والمال والسلطة والمناصب.

سنبقى نبحث عن فعل التحدي في كل كتاباتنا، عن الحياة والموت، عن الكرامة والحقوق، عن الإصلاح، وعن الدم والحرائق

ومع هذا، يبقى للكتابة فعلها التاريخي، بالرغم من الحالة الملتبسة بين الكلمة والواقع، بحسب المكسيكي (اكتافيو باث) الذي عبر عن الالتباس الواقع بين (الواقع والكلمة) وما بينهما من خصومة، قائلاً: "الواقع المعاصر واقع تدميري، يتوجس من الكلمة"، تلك هي العلة، أما الجريمة، برأيه أيضاً، فهي أنّ "المعنى الحقيقي لمجتمع اليوم هو أنّه مجتمع بلا معنى"، ما قيمة الإنسان إذن في مجتمع يكرس اللصوصية والفساد والموت والجوع وامتهان كرامة الإنسان، على أيدي السلطويين، وتجار الجوع والموت والحقوق المقنَّعين بالدبلوماسية المزيفة والسياسة الفاشلة..؟.
يتساءل أديب روسيا الكبير، دستويفسكي "فلست أفهم حقيقة كيف يكون أكثر مجداً قذف مدينة محاصرة بالصواريخ من قتل إنسان بضربات فأس".. وليته أوضح قليلاً كيف يكون أكثر مجداً قتل الشعوب باسم السلام والعدالة وحقوق الإنسان، من قتلها باسم الحرب. هل علينا أن نكتب أكثر؟ وليكن، أن نكتب، يعني ذلك أن نلقي حجراً في الماء الراكد، فمن عليه أن يتابع الدوائر؟، علينا أن نستمر في الغياب إذن، من أجل حضور أقوى، كما يدَّعي كلود روي باعتبار الكتابة، عملية غياب من أجل حضور أقوى.

اقرأ أيضاً: الوعي بالحداثة.. الجهل بالدين: كيف نفكر بشكل فاشل؟
العالم كله اليوم قلق معرفي بامتياز، المفاهيم التي بدت واضحة وشيّقة ورشيقة في حركتها في الثقافة والوعي والتعلم، أصبحت اليوم جامدة وضبابية وغالباً لا تقول ما تعنيه؛ فالسلام في هذا العالم يعني أكثر الطريق إلى الحرب، والعدالة مشوهة إلى درجة أنّها أصبحت وسيلة سهلة للقفز إلى المكاسب، والحرام، الحرام الذي تنتجه آلة التفكير المتكلسة كثيراً ما يكون تجارة أو إعاقة، فتحريم الطباعة ذات عصر أعاق حركة العلوم العربية مئتي عام. وحقوق الإنسان، ذلك المفهوم واسع التداول جعلته الحرب والسياسة ملتبساً ولا يقول الحقيقة، إنّه مفهوم يكذب باستمرار، أمريكا التي شاركت بإمطار السوريين المدنيين بوابل من المتفجرات، تصدر قانون قيصر لحماية حقوق المدنيين في سوريا المنكوبة، ولقد قتلت الحرب الكثير من العراقيين باسم الحقوق وباسم العدالة وباسم السلام.

اقرأ أيضاً: "العالم ليس بخير".. فهل المستقبل فكرة مرعبة حقاً؟
العالم كله في قلق معرفي، فالذين يدافعون عن المدنية والحداثة يواجهون بشراسة أولائك الذين يعتبرونها رجساً من عمل الشيطان، وانحرافاً في الفكر وسموماً في الوعي وحالة مرضية في المجتمعات، والفرد العادي، يبقى في منطقة وسطى بين الفريقين، لا يستطيع أن يشكل موقفاً نهائياً من هذه الحداثة أو من المدنية، إنّه القلق المعرفي أيضا في أكثر تجلياته.
بعيداً عن النخب الثقافية والفكرية والسياسية، وقريباً من الأفراد الذين يستهلكون المفاهيم بصعوبة ويتعاطون معها بارتباك وقلق، لو تمت محاولة رصد إجاباتهم حول جملة من المفاهيم تلك "الحداثة، المدنية، حقوق الإنسان، السلام، الحلال، والحرام"، وغيرها كثير، لجاءت أكثر تلك الإجابات مشوشة أو مرتبكة، أو جاهلة وركيكة وبلا معنى. لا أحد، أو قليلون الذين يستطيعون أن ينتجوا مواقف ثقافية أو معرفية محددة وواضحة تجاه المفاهيم والأفكار المصابة بالالتباس والتوجس وحولتها الحرب أو السياسة والمصالح إلى قلق.

العالم كله في قلق معرفي، فالذين يدافعون عن المدنية والحداثة يواجهون بشراسة أولائك الذين يعتبرونها رجساً من عمل الشيطان

ليس القلق المعرفي مرضاً نفسياً؛ حيث تشير دراسة إلى أنّ "أصحاب المدرسة المعرفية يرون بأنّ معتقدات الفرد وأفكاره الخاطئة لها الدور الحيوي في توليد القلق"، وهذا حقيقي ومنطقي، وعلى سبيل المثال، لدى أستاذ الطب النفسي ورئيس مركز العلاج المعرفي "آرون بيك" في تطبيقات المفاهيم المعرفية والأفكار التلقائية، تخريج نفسي لذلك، وهو أنّ "الاضطرابات الانفعالية تكون ناتجة أساساً عن اضطراب في تفكير الفرد، فطريقة تفكيره وما يعتقده وكيف يفسر الأحداث من حوله كلها عوامل هامة في الاضطراب الانفعالي"، وهو ما ينتج حالة قصوى من توقع الأخطار والشرور. ويعتبر آرون أنّ "التفكير المأساوي من الأخطاء المعرفية الشائعة لدى مرضى القلق، وتعني توقع أسوأ النتائج المحتملة لأي موقف من المواقف".

اقرأ أيضاً: الثقافة في محنة.. أم كان الجاحظ يدخن البانجو؟! ‎
تلك نظرة نفسية بحتة، لكنها ليست بعيدة عن النظرة الثقافية لحالة الالتباس المعرفي الذي يعيشه العالم اليوم؛ فالشعوب باتت تتوقع أسوأ ما لديها من توقعات، نتيجة لهذا المستوى من الصعود الحاد لمستوى العنف والقتل والإرهاب والتطرف والحروب.
بعد ما يقرب من مئة عام ماذا يمكن أن يقنع الفلسطينيين أنّ السلام يعني السلام، وما الذي يمكنه أن يقنع العراقيين أنّ السلطة تعني الأمن والأمان، وما الذي سيقنع السوريين أنّ السياسة لها دين سمح وأنّ الثورة تعني مستقبلاً جميلاً؟. فكل ما يحدث في هذا العالم يصب في مصلحة القلق المعرفي، حتى ونحن نكتب نصنع هذا، إنّ "القلق" هو المشروع الدائم والمستمر للكتابة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية