هل ينجح الفرد في مواجهة التطرّف بعيداً عن المؤسسات؟

هل ينجح الفرد في مواجهة التطرّف بعيداً عن المؤسسات؟


09/03/2020

تتجه الفكرة الرئيسية في بناء الاعتدال ومواجهة التطرف، إلى الفرد مباشرة، باعتباره حالة مستقلة لم تعد تُنظّمها سياقات ومؤسسات وسيطة؛ كالجماعات والأحزاب والنقابات، فالعالم اليوم يعيش حالة فريدة مرتبكة، تتراجع فيها المؤسسات والمكونات الاجتماعية عن وظائفها الأساسية في التنظيم الاجتماعي والأخلاقي، وعن ضبط إيقاع واتجاهات الأفراد والمجتمعات، وليست حالات العنف الفردية، أو ما صار يسمى "الذئب المنفرد" المؤشر الوحيد على صعود الفرد والفردية، سواء في المجتمعات والأعمال أو في عالم العنف والتطرف.

يعيش العالم اليوم حالة فريدة؛ تتراجع فيها المؤسسات والمكونات الاجتماعية عن وظائفها الأساسية في التنظيم الاجتماعي والأخلاقي

لقد عملت دراسات وعمليات مواجهة التطرّف على استهداف البنى والمؤسسات الاجتماعية والتعليمية والإرشادية؛ مثل الأسر والجماعات والمنظمات والهيئات الاجتماعية والثقافية والأحزاب والنقابات والمدارس والجامعات ووسائل الإعلام والمعابد، لكنّها أغفلت الفرد بما هو كيان مستقل لا ينتمي بالضرورة إلى هذه السياقات، بل، وهذا الغالب اليوم، فإنّ الأفراد لم يعد معظمهم يُعرّف نفسه أو هويته أو اتجاهه الفكري والاجتماعي ضمن سياق عام؛ مثل أيديولوجيات أو تيارات سياسية أو فكرية، كما لم يعد ينتمي إلى كتل وهيئات اجتماعية ونقابية، وحتى في حالة انتمائه، فإنّه يفصل بين هذا الانتماء، الذي يأخذ بالنسبة لمعظم الأفراد جانباً مهنياً وتنظيمياً، وبين أفكاره ومعتقداته وحتى سلوكه الاجتماعي والشخصي.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الدينية عزّزت الفوضى وشجعت التطرف في المجتمعات
وبناءً على ذلك؛ لم يعد مفيداً على نحو كافٍ، النظر إلى الاعتدال والتطرف في سياق البنى والمكونات الاجتماعية والتنظيمية للأمم، مع الأخذ بالاعتبار أنّها تساهم بنسبة كبيرة في تكريس الانضباط الاجتماعي والأخلاقي والمهني للمنتسبين إليها، كما أنّها تُمثل مؤسسة وسيطة بين الدول والمجتمعات، وتؤدي دوراً أساسياً في تهيئة الفاعلين الاجتماعيين لأدوارهم ووظائفهم القائمة والمستقبلية.
ولكن، يبدو واضحاً اليوم، صعود الفردية على نحو يقلل كثيراً من دور المجتمعات والمؤسسات الرسمية في التنظيم الاجتماعي والأخلاقي، وهكذا يتشكل عقد اجتماعي جديد؛ يجعل للفرد بما هو كذلك، دوراً أساسياً ومهماً في الشراكة العامة، وفي ضمان الأخلاق والقيم والاعتدال والعيش المشترك، وبطبيعة الحال؛ فإنّ أفكار واتجاهات بناء الاعتدال والسلم الاجتماعي ومواجهة التطرف، يجب أن تغيّر إستراتيجيتها لتكون على أساس "الذات الفاعلة".

اقرأ أيضاً: المغرب: لماذا يلوم الشباب ضحايا التطرف شيوخَهم التائبين؟
وبقدر ما تتحمل المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والإرشادية مسؤولية التوجّه إلى الأفراد، فإنّ الفرد يصبح أيضاً شريكاً في تحمّل المسؤولية؛ ليعدّ نفسه على نحو مستقل في التنمية والإصلاح، وبناءً على ذلك؛ تصعد الثقافة كفضاء عام مفتوح يُظّلُ المؤسسات والأفراد، وتكون هي الإطار العام للتنظيم الاجتماعي والأخلاقي، وإن كانت إطاراً غير واضح وغير متماسك، إلّا أنّ الحالة العامة اليوم، والموصوفة بالشبكية، هي أيضاً ليست صلبة أو واضحة، بل هي منظومة تُنظّم نفسها بنفسها (تقريباً)، من غير انضباط مؤسسي، ويمكن أن تكون موسوعة "ويكيبيديا" أفضل نموذج لهذه الحالة غير المؤسسية، لكنّها في الوقت نفسه قادرة على العمل بقدر معقول ومفيد.

اقرأ أيضاً: كيف نؤسس لبيئة تدعم الاعتدال وتنبذ التطرف؟
ويحتاج الفرد إلى إعداد نفسه وتعليمها وتهيئها؛ للمشاركة الفاعلة والقادرة، وفي ذلك يجب البدء بأن تكون قيمته وأهميته مستمدة من ذاته وليس من خارجها، إذ لن تعود الأعمال هي التي تكسب الإنسان أهميته ودوره، ولكن يفترض أن يكون قادراً على التأثير والمشاركة، بما هو إنسان فرد ومواطن، بغض النظر عن عمله أو دخله، وليس بعيداً اليوم الذي سيتغير فيه أيضاً معنى العمل والمال!

اقرأ أيضاً: التطرف الذي يغذي العنصرية
ويبدأ الفرد بإعداد نفسه باكتساب معنى لحياته ووجوده، مستقلاً عن عمله وانتمائه الاجتماعي أو الطبقي، ليكون الإنسان، كما يقول فيكتور فرانكل، قادراً على مواجهة التحديات والتكيّف مع متطلبات الحياة، وهذا المعنى المطلوب للإنسان ينشئه كل شخص بما هو كائن إنساني مختلف ومتميز ومتفرد، فلم يعد ممكناً مقارنة إنسان بإنسان آخر، وربما لا يتشابه اثنان في المعنى الذي ينشئانه لوجودهما وحياتهما ودورهما فيها، ومن ثم فقد لا يستطيع أحد مساعدتك في إنشاء وتحقيق المعنى، وليس هناك موقف يعيد نفسه بالضبط كما كان، بل إن كل موقف يستدعي إجابة مختلفة.

أغفلت دراسات وعمليات مواجهة التطرّف الفرد، بما هو كيان مستقل لا ينتمي بالضرورة إلى المؤسسات التعليمية والإرشادية

فنجد في بعض الأحيان؛ أنّ الموقف الذي يجد الإنسان نفسه فيه قد يستلزم منه السعي إلى تشكيل قدره أو مصيره بأفعاله، وفي أوقات أخرى؛ قد يكون أكثر نفعاً بالنسبة له أن يفيد من فرصة التأمل وأن يحقق وجوده وقوته بهذه الطريقة، وقد تستلزم الحياة ببساطة من الإنسان في بعض الأحيان أن يتقبل قدره ويخضع له، إنّ كل موقف يتميز بتفرده، ومع ذلك توجد دائماً إجابة صحيحة واحدة فقط للمشكلة التي يفرضها الموقف الراهن.
هذا التفرّد، الذي يُميّز كل فرد عن غيره والذي يعطي الفرد معنى لوجوده؛ ينطوي على عمل إبداعي، بقدر ما ينطوي على الحب الإنساني، وحينما يتحقق الشخص من استحالة أن يحلّ أحد آخر مكانه؛ فإنّ هذا يسمح بظهور المسؤولية بكل ضخامتها وأبعادها، ممّا يحمله الشخص لأجل وجوده واستمراره بكل ما يحمله من عظمة، إنّ الإنسان الذي يصبح واعياً بالمسؤولية التي يحملها إزاء إنسان آخر ينتظره بشوق وحنان أو إزاء عمل لم يكتمل، لن يكون قادراً أبداً على التفريط في حياته، فهو يعرف سبب وجوده ويشعر بالغاية من وجوده، ومن ثم يكون قادراً على تحمله بأي شكل من الأشكال.
ويجب ألّا ينزعج الإنسان من القلق وعدم اليقين، المهم أن يبحث بإخلاص وجدية، فلا يضيره بعد ذلك ألّا يكون متيقناً، ويجب أيضاً ألّا يطمئن لليقين، فالحياة المعاصرة تحتاج إلى قلق إيجابي وحذر من الرضا السلبي؛ لأنّ القدرة على إدراك الصواب والوعي بمتطلبات الحياة والوجود، تحتاج ،على الأقل، في هذه المرحلة الانتقالية، إلى توتر وبحث وعدم يقين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية