هل يودّع السودان عقود الحرب ويدخل حقبة الديمقراطية؟

هل يودّع السودان عقود الحرب ويدخل حقبة الديمقراطية؟


23/11/2019

ترجمة: علي نوار


السودان دولة أفريقية تقع في شمال شرق القارة، ويمرّ منها نهر النيل، وهي جزء من إقليم الساحل- الحزام الصحراوي الذي يمتدّ من السنغال وموريتانيا على المحيط الأطلسي حتى السواحل الشرقية للسودان، وحتى استقلال الشطر الجنوبي عنها، عام 2011، كانت أكبر دولة من حيث المساحة في أفريقيا، عاصمتها وأهم مدنها هي الخرطوم، ويبلغ تعداد سكانها 41 مليون نسمة تقريباً، لتصبح بالتالي تاسع دولة من حيث عدد السكان على مستوى القارة.

دارفور إقليم تسكنه أغلبية من المسلمين لكنّهم ينتمون لعرقيات مختلفة وكذلك طبقات اجتماعية واقتصادية متباينة

كان السودان تحت إدارة بريطانية-مصرية مشتركة؛ حيث كان البريطانيون يسعون في غمرة توسّعهم الاستعماري، لتأمين السيطرة على نهر النيل، باعتبارهم الطرف الحقيقي في إدارة المنطقة، وقد أدخلت الإدارة البريطانية عدّة تحسينات على السودان، مثل؛ زراعة القطن، أبرز صادرات البلاد، وكذلك الحيلولة دون حدوث صراعات دينية مثلما حدث أثناء الثورة المهدية عام 1885؛ حين نصّب قيادي ديني نفسه خليفة لله، كذلك منح البريطانيون قدراً كبيرا ًمن حرية العقيدة وقسّموا إدارة البلاد إلى جزأين؛ حيث لا يكون هناك اتصال بين الشطرين، واستمرّ هذا الوضع حتى إبرام اتفاق بين طرفي الإدارة، في خضمّ موجة التحرّر من الاستعمار التي أنهت حقبة الاحتلال في أفريقيا.
قرّرت بريطانيا، في مطلع كانون الثاني (يناير) 1956، منح السودان استقلاله بدستور مؤقّت وتحت حكم إسماعيل الأزهري، لكن مع حرب كانت قد بدأت العام السابق، في آب (أغسطس)، واستمرّت حتى عام 1972، وأظهرت كمّ الاختلافات بين الشمال (العربي المسلم)، والجنوب (الصحراوي المسيحي).

شهد السودان مجيء حكومات عديدة وحدوث انقلابات متعاقبة، في خضمّ حرب راح ضحيّتها نصف مليون شخص وآلاف النازحين، وأدّى انقلاب لوصول جعفر النميري إلى سدّة الحكم، ورغم أنّه نجح في إنهاء أول حرب أهلية، لكنّه لم يستطع تجنّب نشوب الحرب الثانية، عام 1983، بعد حلّ الولايات الفيدرالية الثلاث في الجنوب، نتج عن حالة الاضطراب الهائلة التي تعيشها البلاد وقوع انقلاب جديد أطاح بالنميري، وتعاقبت حكومات لتنتهي هذه المرحلة بانقلاب عسكري تولّى إثره البشير السلطة في النهاية.
عمر حسن أحمد البشير

وصول البشير
وصل العقيد، عمر حسن أحمد البشير، إلى سدة الحكم بواسطة انقلاب، في 30 حزيران (يونيو) 1989، حين قاد مجموعة من الضباط للإطاحة برئيس الوزراء السابق، الصادق المهدي، والتحالف الهشّ الذي كان يحكم البلاد منذ انتخابات 1986.

اقرأ أيضاً: السودان يصفي تركة الإخوان
تولّى البشير الحكم بصورة مؤقّتة أولاً، عن طريق تشكيل (مجلس قيادة الثورة للإنقاذ الوطني)، مستعيناً بدعم (الجبهة الإسلامية الوطنية)، وبدافع المعتقدات الإسلامية القوية، فرض البشير في 1991 الشريعة الإسلامية، وتكتسب هذه الخطوة أهمية كبيرة؛ نظراً إلى أنّها تمثّل نقطة اشتعال الصراع مجدّداً، ووضع السودان تحت أنظار القوى الغربية، حتى إدراجه أخيراً، عام 1993، في قائمة الدول الراعية للإرهاب، بحسب تصنيف الولايات المتحدة، وكانت عواقب ذلك على السودان وخيمة؛ فقد عانى عقوبات، مثل: الحرمان من الحصول على القروض الدولية، وقصف مصنع (الشفاء) للعقاقير بالخرطوم، بذريعة إنتاج أسلحة كيماوية، وتوفير الملاذ لأسامة بن لادن، الذين طُرد عام 1996 بعد عامين من إقامته في البلاد.

الوصول المدني لرئاسة الحكومة للمرة الأولى منذ 30 عاماً عوامل إيجابية للغاية رغم التخوّفات من تراجع عملية التحوّل الديمقراطي

وعام 1993؛ تمّ حلّ المجلس العسكري، وتولّى البشير رئاسة الجمهورية، وعام 1998؛ عزّز سيطرته بإنشاء حزب "المؤتمر الوطني" الذي خلف القوة السياسية التي كان يحكم بواسطتها، وهي "الجبهة الإسلامية الوطنية"، وتمكّن البشير عبر الحزب الجديد من الاحتفاظ بالسلطة بين يديه لفترة طويلة، وخير مثال على ذلك هو أنّ الانتخابات الأخيرة في البلاد، التي أجريت عام 2015، شهدت اكتساح البشير وتحقيقه نتيجة 94% من الأصوات، وحصول حزبه على 323 مقعداً من إجمالي 426 في البرلمان، رغم الاتهامات العديدة بالتزوير.
انتقلت الخلافات سريعاً إلى إقليمَي جنوب كردفان والنيل الأزرق الحدوديين، واللذين يحويان موارد هائلة: وبعد فترة من الهدوء المشوب بالتوتّر، عقب اتفاق السلام عام 2005، كان استقلال جنوب السودان وعدم الوفاء بالوعود الواردة في هذا الاتفاق في مقدّمة أسباب اندلاع النزاع، وتسبّب عدم إجراء استفتاء شعبي، فضلًا عن عدم السماح للإقليمين بالمشاركة في الاستفتاء الذي أسفر عن استقلال جنوب السودان، وكذلك عدم إجراء انتخابات حرة، في نشوب اقتتال بدأ في الخامس من حزيران (يونيو) 2011 بكردفان، ليمتدّ لاحقاً إلى النيل الأزرق، في أيلول (سبتمبر)، استمرّ النزاع وتفاوتت سخونته على مدار هذا العقد، رغم أنّ شدّته بدأت في التراجع أخيراً، مع التوصل لهدنة في أكثر من مناسبة، ومع سقوط نظام البشير، تُفتح صفحة جديدة من الأمل بالنسبة إلى المنطقة، خاصة أنّ أبرز فصيل مسلّح، وهو "الحركة الشعبية لتحرير السودان– الشمال"، أعلن عن هدنة بعد أسبوع تقريباً من القبض على رئيس السودان السابق.

اقرأ أيضاً: تغلغل الحركة الإسلامية في السودان لا يمنع تفكيكها
لكنّ الحدث الأبرز أثناء حكم البشير كان ذلك الذي وقع عام 2003، في إقليم دارفور، غرب البلاد؛ حيث شنّت "حركة تحرير السودان"، التي كان اسمها في ذلك الوقت "جبهة تحرير دارفور"، سلسلة من العمليات العسكرية التي ضربت أهدافاً حكومية، ما أسفر عن خسائر فادحة في صفوف القوات الحكومية، وفي جيش يفتقر للروح القتالية، ويعاني الإنهاك بعد أعوام طويلة من الحرب في الجنوب، قرّر الرئيس البشير الاستعانة بميليشيات "الجنجويد"، التي ارتكبت بدورها انتهاكات بحقّ المدنيين وممارسات وحشية راح ضحيّتها آلاف القتلى، وما يزيد عن مليون نازح، الأمر الذي تُرجم إلى كارثة إنسانية، اتّسع نطاق النزاع ليشمل دولة تشاد المجاورة، رغم محاولات إنهاء هذا الوضع، عام 2006، بتوقيع اتفاق سلام في نيجيريا، إلّا أنّ المعارك استمرّت.

اقرأ أيضاً: لماذا يقترب السودان من الإمارات والسعودية ويبتعد عن قطر وتركيا؟
وصل الأمر إلى أن أصبح الوضع يستلزم تدخّل منظمة الأمم المتحدة بنشر قوة دولية بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي، بدأت عملية السلام تدريجياً؛ بتوقيع اتفاقات عدة للسلام مع الفصائل المختلفة: ففي 2006 تمّ توقيع اتفاق مع "جيش تحرير السودان"، ثم في 2011 مع "حركة التحرير والعدالة"، تلاها اتفاق مع "حركة العدالة والمساواة" عام 2012، وانضمت "حركة تحرير السودان-الثورة الثانية" للاتفاق الموقّع في العاصمة القطرية الدوحة، عام 2017، مع الحكومة السودانية، وطالب زعيم هذه الحركة نفسه الفصائل الأخرى بالانضمام للاتفاق.
وإضافة إلى التدخّل على الأرض بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي، وجّهت الأمم المتحدة اتهاماتها للجنجويد بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، وهي التهمة نفسها التي تلاحق البشير، علاوة على جرائم حرب عام 2009، لتجدّد أمر الضبط الصادر في 2010 حين وُجّهت له ثلاث تهم بارتكاب مذابح.
إنّ جذور النزاع في هذه الحالة ليست دينية، فدارفور هو إقليم تسكنه أغلبية من المسلمين، لكنّهم ينتمون لعرقيات مختلفة، وكذلك طبقات اجتماعية واقتصادية متباينة.

بداية النهاية
شهد عام 2005 توقيع الاتفاق الذي أنهى الحرب في الجنوب بين ممثّلي (جيش تحرير شعب السودان) وحكومة الخرطوم، الذي أعاد وضع الحكم الذاتي لجنوب السودان ومهّد الطريق أمام إجراء استفتاء مستقبلي لتقرير المصير، ولم يتوقّف الشعور بالإنهاك جراء الحرب عن التفشّي، إضافة إلى الفوارق الواضحة، دينياً وعرقياً، بين الشمال المسلم العربي والجنوب المسيحي الأفريقي، كلّ ذلك أسهم في إجراء الاستفتاء المُتفق عليه، عام 2009، بشرط مشاركة 60% على الأقل ممّن لهم حقّ التصويت، وهو ما حدث، ولم يكن بوسع البشير إزاء النتيجة الكاسحة وفوز الانفصال بـ 98.83%، سوى الرضوخ والاستجابة لهذا المطلب، فوُلدت دولة جديدة إذاً؛ هي جنوب السودان، ولم تعد جمهورية السودان الدولة الأكبر في أفريقيا، كما أنّها خسرت احتياطات ضخمة من النفط (75% من الإجمالي)، لكن، وكما كان متوقّعاً، لم تتوقّف الحرب.

تعزيز الديمقراطية بشكل سلمي أحد الأعمدة الأساسية لتحقيق الاستقرار والتنمية بالسودان بعد عقود من الحرب المستمرة والتوتّر العرقي والاقتصاد المُدمّر

كان لانفصال الشطر الجنوبي تبعات كبيرة على الاقتصاد السوداني؛ فقد نتج عن قرار رئيس جنوب السودان، سلفاكير، بوقف إنتاج النفط (الذي كان يُصدّر للخارج عن طريق خطوط أنابيب تصل إلى بورسودان في جمهورية السودان) حدوث تباطؤ شديد في الاقتصاد السوداني.
وفي كانون الثاني (يناير) 2018؛ حدثت قفزة في أسعار المنتجات الأساسية، ما تسبّب في موجة من الاحتجاجات، حاول السودان وقتها تكييف اقتصاده مع التقشّف الذي طالب به صندوق النقد الدولي، والذي كان يتضّمن خفض قيمة الجنيه السوداني، لكن لم تتوقّف معدّلات التضّخم عن الارتفاع لتصل إلى 70%، ورغم الوضع الاقتصادي الحرج، حصل البشير من حزبه على التصديق كي يخوض انتخابات 2020، وفي كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام، قدّم نواب برلمانيون مشروعاً للإصلاح الدستوري يشمل إلغاء جزئية الحدّ الأقصى من عدد الفترات الرئاسية.

اقرأ أيضاً: رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.. كيف نقرأ القرار الأمريكي؟
لكنّ تكلفة المعيشة ارتفعت مرة أخرى؛ حيث تضاعف سعر الخبز ثلاث مرات، ما أدّى لخروج موجة جديدة من الاحتجاجات، بدأت من مدينة عطبرة شمال غرب البلد، لاحقاً امتدّت الاحتجاجات إلى مُدن أخرى، مثل دنقلا وبورسودان، وصولاً إلى الخرطوم العاصمة، وتصاعدت حدّة التظاهرات مع بداية عام 2019، الأمر الذي قابلته الحكومة بقدر كبير من القمع الشديد، ما أسفر عن مصرع 40 شخصاً، وقد حظيت الاحتجاجات بتغطية كبيرة عبر الهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي، ولفت الانتباه دور المرأة في دولة تُطبّق بها الشريعة الإسلامية.
لدى رؤيته الأمور تخرج عن سيطرته، قرّر البشير عزل الحكومة، وأعلن حالة الطوارئ، في 22 شباط (فبراير)، لمدة عام على الأقل، خشية تدهور الوضع أكثر. بيد أنّ المتظاهرين لم يتراجعوا وأخذوا في محاصرة قيادة القوات المسلّحة مطالبين العسكريين بالتدخّل لإسقاط الدكتاتور، فحاول البشير خفض سقف المطالب عبر إطلاق سراح جميع المُعتقلين أثناء الاحتجاجات، وكسب ودّ العسكريين بتعيينهم على رأس إدارات الولايات.

اقرأ أيضاً: تكفير كرة القدم النسائية في السودان.. هل يعود الإخوان من هذا الملعب؟!

مالت الكفّة أخيراً لصالح المحتجّين، لكن بفضل عامل خارجي: عزل الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، في الثاني من نيسان (أبريل) 2019، بعد ثلاثة أسابيع من التظاهرات التي أنهت مدّة حكمه، التي استغرقت 20 عاماً، كان لسقوط بوتفليقة بالغ الأثر على الوضع في السودان؛ حيث بدا للجميع، المتظاهرين والعسكريين وقوات الأمن، أنّه لا مفرّ من إيجاد بديل للرئيس الحالي، وبالفعل؛ في السادس من ذلك الشهر، وبالتزامن مع الذكرى الـ 34 لسقوط الدكتاتور السابق، جعفر النميري، خرجت تظاهرات جديدة، وبعدها بأربعة أيام، رفضت الشرطة قمع المتظاهرين، بينما أكّد قائد القوات المسلّحة السودانية، كمال عبد المعروف، أنّ مهمّة الجيش هي "حماية المواطنين"، ما عنى أنّ القوات المسلّحة لن تتدخّل لحماية البشير الذي بات معزولاً أكثر وأكثر.

اقرأ أيضاً: منظمة "الإيثار" الخيرية.. ستار إخواني لنشر الفكر المتطرف بالسودان
صارت أيام البشير معدودة، مع غياب شرطة تضمن بقاءه في السلطة، وكانت النهاية، في 11 نيسان (أبريل) الماضي، وعزلت القوات المسلّحة البشير ووضعته رهن الإقامة الجبرية بمنزله، وتولّى نائب الرئيس، الجنرال ابن عوف، الذي تلاحقه أيضاً اتهامات بالتورّط في مذابح بدارفور، المنصب، وشدّد في بيان على أنّ القوات المسلحة تسيطر على مجريات الأمور، لكن بشكل مؤقّت، لمدة عامين، قبل تسليم السلطة لمدنيين، في الوقت ذاته؛ صدر عفو عن جميع السجناء السياسيين في البلاد، وإثر سقوط الرئيس، استقال رئيس الاستخبارات، صلاح عبد الله قوش، ورغم إسقاط البشير بعد 30 عاماً من الحكم، إلّا أنّ المتظاهرين كانوا متوجّسين، باعتبار أنّ بتر رأس النظام ليس كافياً من أجل التغيير؛ حيث رأوا أنّ سيطرة العسكريين على السلطة لا تعني شيئاً سوى "انقلاب داخل النظام من أجل البقاء في الحكم".

اقرأ أيضاً: رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.. مكاسب واشتراطات
لم يصمد ابن عوف طويلاً، وجاء بعده عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان، واصل المحتجّون تظاهراتهم مطالبين باستبدال المجلس العسكري الانتقالي بآخر مدني بمشاركة عسكريين، وكذلك محاسبة العسكريين المسؤولين عن مذابح دارفور، وكان رفض تسليم البشير للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي وإقالة النائب العام أبرز العثرات في المفاوضات حول الفترة الانتقالية، كما كان الفضّ بالقوة لاعتصام بالخرطوم، في الثالث من حزيران (يونيو) الماضي، والذي نتج عنه مقتل 100 متظاهر، نقطة حرجة في مسار هذه المحادثات، لكنّ العملية تواصلت في النهاية.

اقرأ أيضاً: عواصف التغيير تقتلع جذور الإخوان في السودان
وبعد أشهر من المفاوضات المضنية، تشكّل أخيراً "المجلس السيادي السوداني"؛ ويتألّف من مدنيين وعسكريين، لإدارة الفترة الانتقالية والتحوّل نحو الديمقراطية في غضون فترة تُقدّر بثلاثة أعوام، حين تُوجّه الدعوة للسودانيين إلى الانتخابات، ويضمّ المجلس في عضويته 5 شخصيات مدنية من قوى المعارضة، و5 عسكرية، على أن يتّفق الطرفان على العضو رقم 11، وكان أول قرارات هذا المجلس تشكيل حكومة جديدة، في السادس من أيلول (سبتمبر) الماضي، برئاسة الاقتصادي عبد الله حمدوك، الذي أصبح أول مدني يشغل هذا المنصب منذ 30 عاماً، لكنّ البرهان سيستمر على رأس المجلس لأول 21 شهراً، فيما لم تحظَ النساء، رغم دورهنّ البارز في الاحتجاجات، بتمثيل كاف في تشكيل الحكومة الجديدة.

تحدّيات محتملة
إنّ سقوط رئيس البلاد لمدة 30 عاماً هو نبأ سار، بلا شكّ، بالنسبة إلى السودانيين، لكنّ العملية الانتقالية لن تكون سهلة على الإطلاق، حتى مع سير المفاوضات في طريق جيد وتشكيل حكومة مشتركة، لكن تظلّ هناك مخاوف لدى قطاع من المتظاهرين حيال عرقلة الجيش لهذه العملية أو البقاء في السلطة، ويُنظر لبقاء البرهان على رأس المجلس السيادي بوصفه مؤشراً على ذلك، كما أنّ الفترة الماضية، وفق مصادر مختلفة، قد شهدت محاولة انقلابية من قبل ضبّاط إسلاميين موالين للبشير، لكنّها انتهت بالقبض على 68 عسكرياً، وفي الوقت ذاته؛ فإنّ حقيقة تولّي العسكريين حكم السودان طيلة 53 عاماً، من إجمالي 63 هو عمر السودان منذ الاستقلال، لا يدفع للاعتقاد بأنّ التحوّل الديمقراطي سيكون شيئاً يسيراً، علاوة على النماذج المؤلمة لدول الجوار، مثل جنوب السودان، التي دخلت في حرب أهلية منذ الاستقلال بين رئيسها سلفاكير ونائبه السابق، لكنّ هذا التصوّر يبدو أكثر تعقيداً، كما أنّ الجراح الحديثة، مثل ذلك الناتج عن دارفور، يتطلّب مثول البشير وأركان حكمه أمام العدالة.

اقرأ أيضاً: ما الاتجاهات السياسية لشرق السودان بعد الثورة؟
لكن، إجمالاً، الاتفاقات التي أُبرمت حتى الآن بين المعارضة والجيش، ووصول مدني لرئاسة الحكومة، للمرة الأولى منذ 30 عاماً، هي عوامل إيجابية للغاية، رغم التخوّفات من تراجع عملية التحوّل الديمقراطي، وهناك مؤشرات أيضاً على تخلّي العسكريين عن السلطة، مثل وعود الولايات المتحدة بإخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما سيساعد البلاد على الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، لتخفيف ديونه السيادية، كما أنّ التقدم الذي أحرزه السودان في هذه النقطة جدير بالملاحظة، وهو ما عبّر عنه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، حين طالب بخروج السودان من القائمة المذكورة، ومن شأن الحصول على قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أن يكون قبلة الحياة للاقتصاد السوداني، لا سيما بعد تضرّر 200 ألف مواطن جراء الفيضانات التي ضربت البلاد خلال فصل الصيف.
ما الذي يحمله المستقبل؟
في ضوء ما سبق، وإزاء الوضع الحالي والأحداث الجارية؛ هناك احتمالان فيما يتعلّق بالمستقبل:
الأول: أن يحتفظ عبد الفتاح البرهان بالسلطة لأطول فترة ممكنة، أو حتى يعرقل تسليم قيادة المجلس السوداني إلى المدنيين في وقت أطول من الـ 18 شهراً المتفق عليها، قبل إجراء الانتخابات، لكنّ ضجر المتظاهرين من الهيمنة على الحكم طوال أعوام، وكذلك الوضع الاقتصادي المتردّي، الذي كان السبب الرئيس وراء خروج الاحتجاجات، سيفرض على البرهان الوقوف في وجه شعب غاضب وحانق، فضلاً عن بقاء السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي سيزيد من تدهور وضع البلاد اقتصادياً واجتماعياً، لكنّ هذا التصوّر لا يبدو حتمياً، خاصة مع وجود مخاوف حقيقية من انزلاق البلاد في هاوية العنف، لا سيما أنّ نصف أعضاء المجلس السيادي هم من المدنيين المعارضين، ومع الأخذ في الاعتبار تاريخ البلاد وعلاقة العسكريين بالسلطة، لا يمكن استبعاد أيّ شيء.

اقرأ أيضاً: السودان: ما أبرز تحديات ما بعد الثورة التي تواجه حكومة حمدوك؟
السيناريو الثاني: تطبيق كلّ النقاط الواردة في الاتفاق، الموقّع في آب (أغسطس) الماضي، بين المعارضة والعسكريين، وسيكون هذا هو المسار الأكثر جاذبية؛ لأنّه سيضمن عودة السودان إلى الديمقراطية على أساس الاتفاق، وسيكون تعزيز الديمقراطية بشكل سلمي أحد الأعمدة الأساسية لتحقيق الاستقرار والتنمية في البلاد بعد عقود من الحرب المستمرة والتوتّر العرقي والاقتصاد المُدمّر ومعدّلات الفقر المرتفعة.
والحقيقة؛ أنّ اتخاذ المسار الثاني أمر في غاية الأهمية؛ حيث يتمكّن السودانيون من إتمام عملية التحوّل الديمقراطي بصورة ناجحة، ويختارون بحريّة ممثليهم وصياغة دستور ديمقراطي، يكفل الحقوق والحريات بالتساوي، دون تفريق على أساس النوع أو العرق أو الدين، وهو ما سيكون خطوة هائلة في دولة ذات تاريخ حافل بالاضطرابات العرقية والدينية، وتسود فيها الشريعة الإسلامية.
هناك عامل آخر يبرز ضرورة هذا المسار، ألا وهو التنوّع العرقي، الذي كان على مدار العقود المنصرمة مسبّباً للاقتتال العرقي، وفي حال استمرّ هذا الوضع فإنّ هناك مخاوف حقيقية من نشوب حرب أهلية ستكون عواقبها وخيمة، على غرار ما حدث بالفعل في جنوب السودان.
يتعيّن على السودان كذلك الاستفادة من تجارب ثورات الربيع العربي 2011، باستثناء تونس، وتلافي أخطائها.


تحليل لأستاذ العلوم السياسية بجامعة غرناطة الإسبانية، خوسيه إجناثيو كونتريراس، نشر بالمعهد الإسباني للدراسات الإستراتيجية.
رابط الترجمة عن الإسبانية:
https://bit.ly/36fR5BN


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية