هيثم أبو زيد: "الإخوان" أخطر على الأمة من "داعش"

هيثم أبو زيد: "الإخوان" أخطر على الأمة من "داعش"


07/12/2017

تضرب التنظيمات المغلقة على كيانها سياجاً حديدياً محكماً، فلا يطفو على السطح منها إلّا ما خفّ وزنه، وتظل أسرارها وخباياها قابعةً في أعماقها، لا يقترب من فهمها إلّا من أصرّ على اقتحام حصونها، أو من عاش تجربته داخلها ثم خرج منها، ولا تسمح جماعة الإخوان لعامة الناس بالاطلاع على لوائحها الداخلية، أو مناهجها التربوية، أو أهدافها المرحلية، أو سبل نيل عضويتها، أو آليات التصعيد للمواقع القيادية داخلها، ما يجعل محاولات إدراك "الحقيقة البنيوية" للجماعة مهمّةً صعبةً على الباحثين في شؤونها. لقد أثارت دعوات المصالحة مع جماعة الإخوان، وإعادة دمجها في الحياة السياسية، جدلاً واسعاً حول حقيقة موقفها من العنف، وإصرارها على العمل السري، بعيداً عن رقابة الدولة، وطرحت الحالة الجدلية عدداً من علامات الاستفهام حول الموقف الحقيقي للجماعة من تداول السلطة، ومدى قبولها للتعايش، سياسياً ومجتمعياً، وفق أسس الديمقراطية والدولة الحديثة.

تمتلئ مناهج الإخوان بأفكار التكفير، والنظر إلى المجتمع على أنّه جاهليّ يحتاج إلى الجماعة الربانية لتردّه عن ضلاله

إنّ الاطلاع على المناهج التربوية للإخوان كفيلٌ بكشف جزءٍ كبيرٍ ومهمٍّ من أهداف الجماعة ووسائلها، وأساليب تعاملها مع المجتمع والسلطة، وأجهزة الدولة، والقوى السياسية، وقادة الفكر والرأي، والمنشقّين عنها، والجماعات الدينية الأخرى، ونظرتها الحقيقية لكلّ هؤلاء.

"حفريات" حاورت هيثم أبو زيد، الباحث في شؤون الجماعات الإسلاموية، للاقتراب من المكنونات الداخلية لهذه الجماعة، لنصل إلى الإجابة عن سؤال: هل تصلح هذه الجماعة للعودة إلى الحياة السياسية أو الاجتماعية من جديد، أم لا حلّ معها سوى الإصرار على القضاء على وجودها تماماً؟

هنا نص الحوار:

*هل يمكن أن تتجه جماعة الإخوان المسلمين لحلّ نفسها في المستقبل للخروج من مأزقها الحالي، أم تتعلّق فكرة التنظيم بوجودها ذاته؟

لن يفعلوا ذلك؛ فجماعة الإخوان تؤمن إيماناً راسخاً بالتنظيم، ليس باعتباره وسيلةً ضروريةً توصلهم إلى أهدافهم؛ بل باعتباره مطلوباً لذاته، فالتنظيم جزءٌ رئيسٌ من الفكرة الإخوانية؛ بل هو الفكرة الإخوانية في حقيقتها، حيث تمتلئ مناهج الإخوان وكتبهم بكلّ ما يرسخ في نفوس الأعضاء من أهمية التنظيم، ووجوب الانضمام إليه، والحفاظ على وحدته، والطاعة لقيادته، ومقاومة أعدائه.

فالإخوان يدرسون في دورات تصعيد الأفراد، من مستوى المؤيد إلى مستوى المنتسب، وجوب العمل الجماعي من خلال التنظيم، ثمّ يستعرضون الجماعات العاملة على الساحة ليخلصوا إلى أنّ جماعة الإخوان هي جماعة الحق، وأنّ الانضمام إلى تنظيمها واجبٌ يأثم من لا يلتزم به.

قداسة التنظيم

*من أسّس لهذه القداسة، حسن البنا نفسه أم سيد قطب؟

حسن البنا أول من أسّس لقداسة التنظيم؛ حين جعل الارتباط بالجماعة مشروطاً ببيعةٍ وقسمٍ يؤديه العضو، ليصبح بعدها ملكاً للجماعة، يبذل وقته وماله لأجلها، بل ويدفع روحه لنصرة لوائها. ثم جاء سيد قطب، وأعطى أهمية كبيرة لفكرة التنظيم، وضخّم من شأنه في نفوس أتباعه، وأكّد ضرورة قيام "طليعة البعث الإسلامي" لتعيد الأمة الإسلامية، التي يرى قطب أنّ وجودها انمحى من فوق الأرض.

وأكّد البنا مراراً ضرورة الانتماء لتنظيمه، والانخراط في صفوف جماعته، وعدّ الإخوان حائزين على كلّ مميزات الجماعات والدعوات، فقال في رسالة "دعوتنا": "الإخوان دعوة عامة محيطة لا تغادر جزءاً صالحاً من أيّة دعوةٍ إلّا ألمت به وأشارت إليه".

كما أنّ البنا قسّم الناس إلى أربعة أقسام، بحسب موقفهم من الانتماء لتنظيمه، ووصف المنضمّ إلى جماعته، من قبل، بأنّه (مؤمن)، وألقى على من لم يحسم موقفه من عضوية الإخوان صفة (متردّد)، واختار لقب (نفعي) لمن أعرض عن جماعته بسبب عدم انتفاعه منها، وأما من أدار ظهره للإخوان، ورفض الانضمام إلى تنظيمهم، فهو- في نظر البنا- (متحاملٌ) ينظر إلى الإخوان بمنظار أسود، ولا يرى الخير الذي تحمله الجماعة.

*إذا كان التنظيم مقدسٌ، فهل السرية مقدسةٌ أيضاً؟

وأشدّ قدسيةً؛ فهي ركنٌ أصيلٌ ومهمٌ عند تنظيم الإخوان، لا يرتبط بمرحلةٍ معينةٍ، ولا بظروفٍ طارئةٍ، فالجماعة عرفت السرية منذ إنشاء مؤسسها حسن البنا "النظام الخاص؛ الذي اشتهر لاحقاً بـ "الجهاز السريّ"، فقد أحاط البنا هذه القوة العسكرية الخاصة بقدرٍ كبيرٍ من السرية والكتمان.

وبعد الضربة التي وجّهها النظام الناصري إلى الإخوان عام 1954، عقب محاولة اغتيال جمال عبد الناصر بميدان المنشية في الإسكندرية، أصبحت الجماعة تنظيماً سرياً، لا يعمل إلّا في الخفاء، ولا يعرف أحد الأسماء المكونة لهرمه التنظيمي.

تدبّر مناهج الإخوان يؤكّد أنّ العنف وسيلةٌ معتمدةٌ لدى الجماعة، يتربّى أعضاء التنظيم على انتظار لحظة مواتية لاستخدامها

ولأنّ الملاحقة الأمنية كانت ذريعة العمل السري للإخوان في العهد الناصري، فقد كان من المنتظر أن تخرج الجماعة إلى النور في عهد الرئيس السادات، الذي أفرج عن أعضاء التنظيم من القيادات والقواعد، وسمح لهم بالعمل العام في المساجد والجامعات والنقابات، في مواجهة اليسار بشقّيه؛ القومي والاشتراكي، إلّا أنّ القيادات المسيطرة على التنظيم تمسّكت بالسرية، وبدأت البناء الإخواني من جديد، على أساس من الخفاء والعمل بعيداً عن النور.

وتؤصّل مناهج الإخوان لأهمية السرية، وتفرد لها مساحاتٍ واسعةً، وكعادة الإخوان دائماً، تزعم كتب المناهج أنّ السرية هي اقتداء بالرسول- صلى الله عليه وسلم- إذ عرفت دعوته في مكة مرحلتين: الأولى كانت سرية الدعوة وسرية التنظيم، والثانية علنية الدعوة مع استمرار سرية التنظيم.

ماذا يعني انتمائي إلى الإسلام؟

*هل أصّلت كتب الإخوان لنهج السرية أم ظلت منهجاً عرفياً متوارثاً حرصت الجماعة على عدم كتابته؟

تحدّثت كتب الإخوان عن ذلك، إلّا أنّ تداولها ظلّ في إطار ضيق ومحدود، فيقول فتحي يكن في كتابه "ماذا يعني انتمائي إلى الإسلام؟": "لا يجوز أن تكشف الحركة كلّ ما عندها من مخططات وتنظيمات، فليس في ذلك مصلحة على الإطلاق، بل إنّ ذلك يعدّ جهلاً بالإسلام، وتعريضاً للحركة وأفرادها لمكر الأعداء".

أما السوري منير الغضبان، مؤلف كتاب "المنهج الحركي"، فيتحدث عن أهمية السرية، ويلحّ عليها في مواضع كثيرة من كتابه، فيقول: "لا بدّ من المحافظة على سرية التنظيم، واختيار مركزٍ سرّي للتجمع بعيداً عن الأعين، يلتقي فيه الجنود مع بعضهم، ويلتقون بقياداتهم".

ويقول أيضاً: "على الحركة الإسلامية ألّا تظهِر كلّ أوراقها، اعتماداً على وجود مناخٍ ديمقراطي، وعليها أن تبقي رصيداً من أشخاصها، وتنظيمها، وحركاتها، ومراكزها سرّيةً، حتى لا تباد إن فكرت الجاهلية بالانقضاض عليها"، ولعلّ هذه الأسطر تلقي الضوء على مسألة "الخلايا النائمة" التي شاع استخدامها أخيراً، للإشارة إلى رجال الإخوان السرّيين في مختلف المواقع.

يرى الغضبان أنّ الحركة الإسلامية مطالبةٌ بإتقان عمليات الاغتيال، وباختيار أهدافها بعناية، ومهمتنا أن نتقن هذا الفنّ

وفي فقرةٍ كاشفةٍ للإخوان وأساليب تعاملهم مع قوى المجتمع، يقول المؤلف: "لا شيء أقوى للحركة الإسلامية من أن تتعامل مع حلفائها وأعدائها ببلاهة ظاهرية، بحيث تعرف مخططاتهم، وتتظاهر بجهلها لهذه المخططات"، ويضيف: "كما لا بدّ من أن يكون للحركة رجالها في صفوف العدو المحالف"، ومن اللافت هنا؛ أنّ المؤلف يؤكّد "البلاهة الظاهرية"، حتى مع حلفاء الجماعة وأصدقائها.

أما عن أهمية وجود جهازٍ معلوماتي سري للجماعة، فيقول المؤلف: "لقد ظهرت أهمية هذه القضية مع تجربة الحركة الإسلامية مع أعدائها، فضعف المخابرات لديها أدّى إلى اشتعال معركةٍ راح ضحيتها عشرات الألوف، نتيجة المعلومات الخاطئة التي وصلت المجاهدين".

*هذا عن السرية والتنظيم، فماذا عن "مبدأ المرحلية" الذي تفتخر به الجماعة وتعدّه مستنداً لها يبعدها عن شبهة العنف والتغيير الآني؟

"مبدأ المرحلية"؛ هو أخطر مبادئ الإخوان، وليس العكس، فهو أحد أهم ركائز جماعة الإخوان؛ بل الإطار الحاكم لتصرفات الجماعة وقراراتها وخطاباتها عبر عقود، وإدراكها يكشف تماماً طبيعة فكر الإخوان ونواياهم.

وتحت مظلة "المرحلية" تعطي الجماعة وعوداً تنوى نكثها، وتتعهد بالتزامات تنوي عدم الوفاء بها، ولعلّ اتفاق "فيرمونت" الشهير من أبرز مظاهر ارتكاز الإخوان إلى فكرة المرحلية؛ حيث ارتأت الجماعة، بعد صعود محمد مرسي وأحمد شفيق إلى جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، ضرورة ترضية القوى السياسية والثورية، والاستجابة لمطالب تلك القوى، ما دام ذلك يصبّ في مصلحة التنظيم، وبمجرّد فوز مرسي تنصّلت الجماعة من كل وعودها.

المرحلية عند الإخوان

*لكن، ماذا يعني هذا المفهوم؟ وما الدليل عليه في كتب الإخوان وتاريخها؟

مفهوم "المرحلية" عند الإخوان: هو أن يكون للجماعة خطابٌ ومواقف تخدم تنظيمهم في مرحلة سياسية وزمنية معينة، حتى لو كانت هذه التصرفات ضارّة بالصالح العام للمجتمع، وحتّى لو كان هذا الخطاب يكذب على المخاطبين، وكتب الإخوان تعرف ما يسمى بـ "خطاب الاستضعاف"، و"خطاب التمكين"؛ فالأول يتّسم بمودّةٍ مصطنعةٍ، وقبولٍ للآخر لا تظهر فيه الجماعة نواياها، والثاني: تكشف فيه الجماعة عن أهدافها ووسائلها دون خوف أو تردّد.

وقد تحدّث سيد قطب في كتاب "معالم في الطريق" عن مبدأ المرحلية، وعدّه سمة من سمات الدين، الذي يحدّد لكلّ مرحلةٍ وسائلها، من بدء ميلاد طليعة البعث الإسلامي، حتى مرحلة التمكين وإزالة الطواغيت، بتحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية.

وفي مواضع عدة من "معالم في الطريق"، يرفض قطب أن تهتم الحركة الإسلامية في مرحلة "التكوين" وبناء التنظيم بالإنتاج الفكري للفقهاء والمفكّرين الإسلاميين، فقد عدّ هذا الإنتاج ليس له أيّة فائدةٍ أو نفعٍ ما دامت الأمة الإسلامية غائبةً، ومادام المجتمع المسلم القابل لحكم الله لا وجود له في العالم أجمع.

من أهم الشواهد التي ننقلها من كتاب "الغضبان"؛ وصيته لشباب الجماعة أن يتعاملوا مع حديث قيادات التنظيم عن "عاطفة الوطن"، و"عاطفة الأمة" باعتباره اضطراراً فرضته المرحلة

أما كتاب "المنهج الحركي للسيرة النبوية" للإخواني السوري محمد منير الغضبان، فقد تحدّث عن المرحلية كما يفهمها الإخوان، وببيانٍ واضحٍ لا يحتمل التأويل الذي قد تتسبّب فيه لغة سيد قطب الأدبية، فكتاب الغضبان هو أكثر كتب الجماعة اهتماماً بفكرة المرحلية، وتأصيلها في نفوس أفراد التنظيم، واستخلاص شواهدها من العلوم الشرعية؛ بل هو يتجاوز هذا التأسيس الفكري إلى ضرب أمثلةٍ عمليةٍ واضحةٍ، تحتذيها الجماعة للتطبيق الحركي لفكرة المرحلية.

ولعلّ من أهم الشواهد التي ننقلها من كتاب "الغضبان"؛ وصيته لشباب الجماعة أن يتعاملوا مع حديث قيادات التنظيم عن "عاطفة الوطن"، و"عاطفة الأمة" باعتباره اضطراراً فرضته المرحلة، وليس تبنياً حقيقياً لهذه الأفكار؛ حيث يقول المؤلف في صفحة (224): "ونودّ لشباب الدعوة الإسلامية أن يدركوا هذا المعنى، ويفقهوه، حين يرون قيادة الدعوة، في مرحلة من المراحل، تبحث عن قاسم مشترك بينها وبين بعض أعدائها، لتجعلهم يقفون في صفّها ضدّ عدو أخطر وأكبر، وحين يرون قيادتهم تقبل الحديث عن عاطفة الوطن أو عاطفة الأمة، أو يتحدثون عن الضعفاء من الفئات المظلومة، بحيث يمثّل القاسم المشترك نقاط لقاء مرحليّ مع هذا العدو ضدّ عدو آخر؛ لذا فإني أعدّ جماعة الإخوان أخطر على هذه الأمة من (داعش)".

*إذاً، المرحلية عند الإخوان مفهومٌ لصيق الصلة بإزدواجية الخطاب؟

لا شكّ في ذلك؛ فكتاب "المنهج الحركي" يكشف بجلاءٍ ازدواجية خطاب الإخوان، واعتمادهم كلاماً ومواقف علنيةً للاستهلاك المرحلي، فبينما تتحدث بعض القيادات في وسائل الإعلام عن عاطفة الوطن ومعاني الوطنية، يدرس أعضاء الإخوان في الأسر أنّ (الوطنية) فكرةٌ جاهليةٌ، وانتماءٌ أرضيٌّ ترفضه أممية الإسلام، كما تطلب المناهج من أعضاء الجماعة أن يتعاملوا مع هذه المواقف العلنية وكأنّها "تمثيليةٌ" تفرضها ظروف المرحلة.

كما يكشف النص أنّ حديث الإخوان عن "الفئات المظلومة والضعيفة" لا هدف له إلّا استقطاب قوى سياسية، وإيجاد قواسم مشتركة معها لمواجهة عدو آخر، فالجماعة تستبيح، مثلاً، أن تتحدث عن حقوق العمال لإيجاد نقاط التقاء مع قوى اليسار، وتوظيف هذه القوى لمواجهة خصم أهمّ للجماعة، فإذا تحقّق للجماعة مرادها، توقف اهتمامها بالقضايا العمالية، وعادت للتعامل مع الحلفاء المؤقتين على أنّهم أعداء.

وكثيراً ما يؤكّد مسؤولو الأسر للأفراد أن يثقوا في قياداتهم، وأن يتعاملوا مع بعض التصريحات المعلنة من القيادة عن القبول بالديمقراطية، أو بوجود الأحزاب في الدولة الإسلامية، وكأنّها تصريحات للاستهلاك الوقتي، تفرضها "مرحلة" الاستضعاف التي تعيشها الجماعة، إلى أن تتمكن من الوصول إلى السلطة، والسيطرة على أركان الدولة. ولأنّ الإخوان لا يؤمنون بفكرة الوطن، ولا بمبدأ المواطنة، فإنّ مؤلف "المنهج الحركي" يطلب من أعضاء الجماعة ألّا يأخذوا تصريحات القيادات في هذا الشأن على محمل الجد؛ لأنّها تصريحات تهدف منها القيادة التقارب مع بعض القوى لمواجهة عدوّ أهمّ وأخطر.

الخداع السياسي

*أنت، بهذا، تؤكّد أنّ كلّ ما قيل عن تطوّر منهج الإخوان فيما يتعلق بالنظرة إلى المرأة، والاعتراف بالديمقراطية، والتعددية، والتحالف مع الآخر السياسي، هو نوعٌ من الخداع المرحلي؟

نعم، لا أنسى حين عرفت الإخوان عام 1987، بعد الانتخابات البرلمانية التي تحالفت فيها الجماعة مع حزب العمل، وخطر ببالي أن أسأل مسؤول الأسرة عن الانتخابات السابقة التي شارك فيها الإخوان بالتحالف مع حزب الوفد عام 1984، وكيف قبلت الحركة الإسلامية التحالف مع حزبٍ علماني ليبرالي يقبل بحكم الشعب، فأجابني المسؤول من فوره: إنّ بعض الإخوان وجّهوا السؤال نفسه للأستاذ عمر التلمساني، المرشد العام للجماعة وقتها، فأجابهم قائلاً: "مطيّة لم نجد غيرها فامتطيناها".

*نتوقف عند فكرة "القوة" ومدى رسوخها في فكر الإخوان، من خلال المناهج المقررة لتربية أفراد التنظيم، فهل تعدّ الممارسة العنفية وسيلةً أصيلةً من وسائل النصر والتمكين عند الإخوان، أم إنّ الجماعة لا تعرف إلّا الدعوة السلمية؟

إدراك الموقف الحقيقي للإخوان من استخدام القوة والعنف لفرض رأيهم السياسي، أو للتخلص من خصومهم، أمرٌ في غاية الأهمية، ليس للإحاطة بحقائق الماضي فقط؛ بل لإدراك سبل التعامل المناسب مع الجماعة مستقبلاً.

تمتلئ مناهج الإخوان بأفكار التكفير، والنظر إلى المجتمع على أنّه جاهليّ يحتاج إلى الجماعة الربانية لتردّه عن ضلاله، من خلال العمل لإيجاد "الفرد المسلم"، و"البيت المسلم"، و"المجتمع المسلم"، و"الحكومة الإسلامية"، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الإخوان لا يعدّون أيّة حكومةٍ إسلامية، إلّا إذا كانت مكونة من أعضائهم، أو متحالفة معهم على الأقل، مفسحةً المجال لحركتهم.

ورغم القدرة الكبيرة لقيادات الإخوان على إخفاء هذه الحقيقة، فإننا نجد أفكار التكفير في ثنايا كتابات مرجعيات الجماعة، بمن فيهم المرشد الأول حسن البنا، الذي قرّر في رسالة "دعوتنا" أنّ إيمان المسلم لا يكتمل إلّا بالانضمام لجماعته؛ بل إنّ الأصل العشرين من أصول "ركن الفهم" في رسالة التعاليم، يُوظّف عملياً للتكفير داخل الجماعة، رغم أنّ ظاهره يرفض إطلاق الأحكام على الناس إيماناً أو كفراً.

*لكنّ المرشد الأول حسن البنا يقول: "لا نكفِّر مسلماً أقرّ بالشهادتين وعمل بمقتضاهما.. إلخ"، بماذا تفسر ذلك؟

عند تدريس هذا الأصل داخل التنظيم، يستخدم الإخوان عبارة "وعمل بمقتضاهما" لإخراج من يشاؤون من زمرة المسلمين؛ فالجماعة تعدّ من لا يساندها في الانتخابات لم يعمل بمقتضى الشهادتين، وأنّه "مسلم بالطاقة".

أما سيد قطب، فقد أعطى للتكفير دفعةً كبيرةً داخل الجماعة، بل وخارجها، حتى أصبح كتابه الأشهر "معالم في الطريق" مرجع الجماعات التكفيرية والعنفية في أرجاء العالم، فقطب يرى أنّ الإسلام لم يعد له وجود على الأرض، وأنّه من الواجب قيام طليعة بعث، تنتظم في تجمّع حركي لإعادة الإسلام إلى الوجود بإزالة الجاهلية، وإقامة حاكمية الله على الأرض.

وفى مقدمة "المعالم" يقول قطب: "إنّ العالم كلّه يعيش اليوم في جاهليةٍ، تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخصّ خصائص الألوهية، وهي الحاكمية". وفي الفصل الأول يقول قطب: "نحن اليوم في جاهلية، كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كلّ ما حولنا جاهلية؛ تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافةً إسلاميةً، ومراجعَ إسلاميةً، وفلسفةً إسلاميةً، وتفكيراً إسلامياً، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية".

ويرى منير الغضبان أنّ الاحتكام إلى القضاء في ظلّ دولةٍ غير إسلاميةٍ جائز شرعاً، ليس لأنّ النظام القضائي راضٍ؛ بل لأنّ "الاستفادة من قوانين الجاهلية أمر مشروع"، ويضيف أنّ على المسلم أن "يفرّق بين القناعة بنظام حكمٍ كافرٍ والاستفادة من نظام حكمٍ كافرٍ لحماية الدعوة وشبابها ورجالها"، ويعدّ الغضبان الديمقراطية "نظاماً جاهلياً، لكنّه أجدى للمسلمين من أيّ نظامٍ جاهلي آخر".

العنف المؤجل

*هل استدعت الجماعة "العنف المؤجل" بنظامها؟

نعم، فقد جاء خطاب قيادات الإخوان على منصّة اعتصام رابعة العدوية ليكشف أنّ مواقف الجماعة خلال الأربعين عاماً الماضية، بشأن إدانة العنف، والقبول بمدنية الدولة، والاحتكام إلى الإرادة الشعبية، لم يكن إلّا خطاباً مرحلياً فرضته ظروف إعادة بناء التنظيم، فلما وقع الصدام الحتمي بين الدولة والمجتمع من جهة، وبين تنظيم الإخوان من جهة أخرى، كشفت الجماعة عن وجهها الحقيقي، وظهرت الأفكار التي تربّى عليها أفراد الإخوان في أحضان التنظيم لسنواتٍ طويلة.

وتدبّر مناهج الإخوان يؤكّد أنّ العنف وسيلةٌ معتمدةٌ لدى الجماعة، يتربّى أعضاء التنظيم على انتظار لحظة مواتية لاستخدامها؛ بل إنّ الخطاب السائد داخل الأسر الإخوانية يرسّخ الأفكار العنفية، باعتبار أنّ دولة الإسلام المنتظرة لن تقوم إلّا بعد معركٍة داميةٍ بين الحقّ والباطل، وهو ما اشتهر بين دارسي الإخوان بمفهوم "العنف المؤجَّل"؛ أي العنف حين يأتي وقته، وتقدر عليه الجماعة، ولا يكون له تبعات ولا حساب.

المرشد المؤسس، حسن البنا، أول من أشار إلى اهتمام الإخوان بالقوة

وكان المرشد المؤسس، حسن البنا، أول من أشار إلى اهتمام الإخوان بالقوة، فقال في رسالة المؤتمر الخامس: "إنّ أول مراتب القوة هي قوة الإيمان والعقيدة، ثمّ يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصحّ أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوافر فيها هذه المعاني جميعاً".

ولا يخطر ببال أحد أنّ البنا يتحدث عن السلاح في يد الدولة؛ بل إنّه يصرّح بوضوحٍ أنّ جماعته ستستخدم القوة متى استعدّت لذلك، فيقول: "إنّ الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنّهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء، وسينذرون أولاً، وأما الثورة فلا يفكّر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها".

ولم يكتف البنا بالكلام العام عن القوة؛ بل حدّد مفهومه في إعداد الجماعة عسكرياً، فقال في الرسالة نفسها: "في الوقت الذي يكون فيه منكم ــ معشر الإخوان المسلمين ــ ثلاثمئة كتيبة قد جهّزت كلٌّ منها نفسها روحياً بالإيمان والعقيدة، وجسمياً بالتدريب، في هذا التوقيت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كلّ عنيدٍ جبارٍ، فإنني فاعل، إن شاء الله، ألِّفوا الكتائب، وكوِّنوا الفرق، وأقبلوا على الدروس، وسارعوا إلى التدريب".

وقد اختار البنا رقم ثلاثمئة كتيبة؛ لأنّه كان ينظم الإخوان في كتائب، عدد كلّ ولحدةٍ منها 40 عضواً، فيكون إجمالي الكتائب 12 ألفاً، إعمالاً للحديث النبوي الذي رواه أبو داود: (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة..)، فالبنا في نصّ كلامه، لم يغزُ العالم، لأنّ النظام الخاص الذي أنشأه لم يبلغ عدده 12 ألفاً من أقوياء الإيمان والتدريب.

*هل شرّعت الجماعة حقّاً عمليات الاغتيال السياسي، عكس ما تدعيه الجماعة من أنّها كانت بريئة منها، وأنّها وقعت دون إرادة مرشدها الذي اعتذر عن كلّ ذلك؟

تحت عنوان "عمليات الاغتيال السياسي وأثرها في بثّ الرعب في صفوف العدو"، يقول الغضبان، في صفحة 347: "إنّ من يستحقّ القتل في حربه المسعورة على الإسلام، وليس هو مجال شبهة في هذا العداء، وأقدم شاب على قتله- دون إذن القيادة ــ فهو نصر للإسلام بظهر الغيب، فزعماء الطاغوت اليوم، الذين أشعلوا الحرب على المسلمين، هؤلاء يُتقرّب إلى الله بدمائهم. ولعلّ من لا يعرف طبيعة الإخوان المرحلية، يتعجّب حين يجد الغضبان يشيد في كتابه بقتَلَة الرّئيس الراحل أنور السادات؛ الذي أخرج الإخوان من السجون، وفتح لهم مجال العمل العام؛ حيث يقول المؤلف في الصفحة نفسها: "ما فعله شباب الإسلام بالحاكم الذي تحدّى المسلمين في الأرض، فصالح عدوهم (اليهود) في يوم عيدهم، حين قتلوا هذا الطاغية إنّما غسلوا عار المسلمين جميعاً في أرض الكنانة، ونصروا الله تعالى ورسوله بالغيب".

أما عن أنسب وأفضل مَن ينفذ عملية الاغتيال، يقول الغضبان: "إنّ أقدر الناس على تنفيذ عملية الاغتيال أبعدهم عن الشكّ فيه، ومن يمتّ بقرابةٍ، أو صلة رحمٍ، أو صداقةٍ، لهذا المجرم".

ويبيح الغضبان للحركة الإسلامية كلّ وسائل الخداع، كي تنجح في تنفيذ عملية الاغتيال المطلوبة، فيقول: "إنّ اتخاذ مظاهر الكفر، وإعلان الكفر، والنيل من الإسلام والمسلمين لتحقيق مثل هذه المهمّة أمرٌ لا حرج فيه".

ويرى الغضبان أنّ الحركة الإسلامية مطالبةٌ بإتقان عمليات الاغتيال، وباختيار أهدافها بعناية، إذ يقول في صفحة 353: "لقد حقّق الاغتيال هدفه حين أحكمت خطته، ومهمتنا اليوم أن نتقن هذا الفنّ، ونحكمه، ولا بدّ من أن تكون عمليات الاغتيال هادفة، ومحققة لعنصر بثّ الرعب في صفوف المجرمين".

وفي الجزء الثاني من كتابه، يضيف الغضبان: "وكلّ ما من شأنه أن يقصم ظهر العدو، ويفلّ مقاومته؛ هو من حقّ الثائرين، سيان كان أهدافاً مدنية أو عسكرية، ولن يتراجع الطغاة عن طغيانهم ما لم يصابوا بأرواحهم، وحياتهم، وأموالهم، وأمنهم".

*استشهدت كثيراً بكتاب "الغضبان"، هل ترى أنّه كان مؤثراً في العقل الجمعي لهذه الجماعة؟

ظلّ كتاب "المنهج الحركي للسيرة النبوية" مقرراً على أسر الإخوان في مستوى المنتظم لأكثر من 20 سنة، وكلّ القيادات الإخوانية، العليا والوسيطة، وجميع الأعضاء العاملين في الجماعة الآن درسوا هذا الكتاب، فقرةً فقرةً، وسطراً سطراً، وتعاملوا معه، ليس فقط باعتباره منهجاً معتمداً من التنظيم؛ بل باعتبار أنّ أفكاره ونتائجه كلّها مستقاة من السيرة النبوية، كما يجدر بنا أن نذكّر بأنّ المؤلف هو أحد أهم قيادات الإخوان المسلمين، بل إنّه تولّى بالفعل منصب المراقب العام للجماعة في سوريا لمدة ستة أشهر عام 1985.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية