هيمنة قديمة ولغة جديدة: كيف أثّر الاستعمار في لغتنا ثقافياً؟

هيمنة قديمة ولغة جديدة: كيف أثّر الاستعمار في لغتنا ثقافياً؟

هيمنة قديمة ولغة جديدة: كيف أثّر الاستعمار في لغتنا ثقافياً؟


08/11/2023

لم يعرف العالَم الاستعمار وأدواته، وعيَ به أم لم يعِ، منذ القرن السادس عشر فقط، مروراً بالقرنين التاسع عشر والعشرين، وهما القرنان اللذان يمثلان ذروة الاستعمار، فحسب، بل إنّ ذلك لظاهرة قديمة، وظهرت في كلّ الأمم بعصور الإمبراطوريات. بيد أنّ الباحثين في مجال ما بعد الكولونياليّة، يتفقون على أنّ الأمر قد اختلفَ حديثاً في الظاهرة الاستعماريّة، خاصّة من بداية دخول نابليون إلى مصر 1798، وتبدلت صيغة الاستعمار من نفوذ إمبريالي ومركزي لحضارةٍ ما، إلى إنشاء نظرة أنطولوجيّة وإبستمولوجيّة عن "الشرق" و"الغرب".

اقرأ أيضاً: هل أخفق فيلم "حرب كرموز" في إظهار فظائع الاستعمار البريطاني؟
فحسب إدوارد سعيد، كان الاستعمار بحاجة إلى إقامة حاجز كبير بين الشرق والغرب، كي يتمكّن من الهيمنة والنفوذ على البلدان التي يستعمرها. ويمكن أن نقول، إنّ الاستعمار لزمه أن يعيد تعريف كلّ من الشرق والغرب، فإعادة التعريف تمثّل نوعاً من السلطة التي يمارسها الأنا من خلال إعادة تعريف الآخر لإخضاعه ولهيمنته.

فكرة إنشاء "علم استغراب"، كما يدعونا حسن حنفي، هي في الحقيقة استكمال لمسيرة "الجرح النرجسي" لدى النخب التنويرية عربياً

فقد عمل الخطاب الكولونيالي على صناعة متخيّل عن الشرق والغرب، بحيث يغدو الغرب نقيّاً من كلّ ما هو شرقي، والشرق نقيّاً من كلّ ما هو غربي، ليس فقط في الأفق المعاصر، إنّما على المستوى السحيق لفكرة "الغرب" نفسها؛ بمعنى أنّه تمّ تنقية كلّ مصادر الغرب من خارجه، وصُنعت "المعجزة اليونانيّة"، كأنّ الفلسفة اليونانية -المكوّن السحيق للغرب- كانت طفرة يونانيّة خالصة، لم تستفد من الشرق عموماً، وقد تمّ دحض كلّ هذه النظرات المركزيّة لرؤية الفلسفة اليونانية، والتي تجلّت في ذروتها مع هيغل وغيره من الفلاسفة، الذين أرّخوا للفلسفة، وهيغل خصوصاً؛ لأنّه يرى (أي هيغل)؛ أنّ تاريخ الفلسفة لا ينفصل عن موضوع الفلسفة؛ فالفلسفة هي الفنّ الوحيد الذي تاريخه جزء لا ينفصل عن موضوعه.

اقرأ أيضاً: جوزيف كونراد يشعّ من "قلب الظلام" ويكشف الوجه البشع للاستعمار
إنّ إعادة الغرب لتعريف الشرق كانت ضرباً من العمى الكولونيالي؛ حيث تمّ اختزال الشرق في صفات جوهرانية لا يتخلّى عنها، وتمّ وسمه "بالتقليدي" و"الرجعي" و"البدائي"... إلخ، وذلك لم يحدث إلّا عندما تمّ تحويل الشرق من حضارة لها ظروفها التاريخية وطبيعتها الثقافية إلى "موضوع" للدراسة، يخضع لمتخيّل الغربي عن الشرق، خاصّة في ضوء الإرث التنويري الجامح، الذي أناط بالأوروبيّ عموماً مهمّة التنوير، وفُهم التنوير على أنّه إخضاع وهيمنة على آخر، ولم يكن ذلك إلّا تشهّياً اقتصادياً أحياناً، ورغبة جامحة في التفوق الحضاري أحياناً أخرى.
فالخطاب الكولونيالي لا يستطيع أن يفكّر في "الشرق" إلّا كأنثى، ولذلك نلحظ فيه خطاباً أبوياً مهيمناً، كأنّها علاقة هيمنة بين الرجل الفحل والأنثى الضعيفة، وهذا له علاقة بالصيغة الجوهرانيّة، والتي هي سائدة ليس فقط في الخطاب الاستشراقي الذي نتج عن تجربة الاستعمار الحديث؛ بل على مستوى النخب العربيّة، وهي القول إنّ الغرب يمثّل "الروح" والغرب يمثّل "المادة"، في تصويرٍ عنيف للشرق كمصدِّر روحي للعالَم.

اقرأ أيضاً: قضية رهف والاستعمار الإعلامي
ووهمُ هذه الفكرة الجوهرانية عن الشرق، ليس في صحّتها من خطئها تاريخياً؛ بل من فصل ما لا ينفصل، فإذا كان الغرب، كما هو متخيّل كولونيالياً، يصف الشرق بأنّه مصدر روحي؛ فإنّ ذلك توصيف معياري؛ حيث يكون الشرق خالياً من العقل، في حين أنّ الغرب يكون هو مصدر المادة والعقلانيّة والتنوير؛ بل إنّ في وسم الشرق بالروحيّة إزاحة له عن معنى "العقل"، كما يتصوّره الغرب التنويري؛ حيث يتبوّأ منزلةً أدنى.
إنّ الهيمنة الحديثة على الشرق هي هيمنة مضاعفة؛ فقد تغيّرت إستراتيجيّة فهم الغرب للشرق وللإسلام عن إستراتيجية الفهم القديمة التي تقوم على "تملُّك الشرق" عسكرياً، فتمّ إنشاء جهاز موازٍ يسمّى "الاستشراق" يقوم على التملّك المعرفي إضافةً للاستعمار الذي هو التملّك العسكري.
إنّنا نتعلّم من فوكو؛ أنّ المعرفة المصنوعة عن الغير، ليست معرفة محايدة؛ بل هي معرفة سلطويّة بالأساس، تعمل على إخضاع الغير لنمط إنتاج هذه المعرفة، ومقولاتها المؤسّسة التي قد تكون ثقافة الغير لا تدخل في أفق المفاهيم نفسها.

اقرأ أيضاً: الجماعات الجهادية...هل هي شكل جديد للاستعمار؟
ورغم محدوديّة مفهوم "الخطاب"، منذ القرن السادس عشر، بقصره على المعنى اللغوي الصرف لكلمة "خطاب"؛ أي ما يُحدثه المتكلّم من كلامٍ مفيد ومفهوم؛ إلّا أنّ فوكو قد انعطف بمفهوم "الخطاب" انعاطفة غيّرت مجراه التأويلي والمفهومي، وهو المعنى الذي "سيتملّكه" إدوارد سعيد في كتابه الرائد "الاستشراق" من فوكو، فبحسب فوكو؛ الخطاب ليس مجموعة كلمات يقوم بها أيّ أحد؛ بل هو عبارة عن نمط ورؤية للعالم في الحديث عن العالم؛ فالعالَم الواقع هناك لا يمكن الحديث عنه إلّا من خلال خطابٍ ما، كما أنّ "الخطاب" يصنع "موضوعاً" يكون محلّاً لقوّة الخطاب والهيمنة عليه؛ ولذلك ربطَ فوكو بين المعرفة والقوّة، فمن يملك القوة المادية والرمزيّة هو الذي يصنع الخطاب المحفوف بالقوة، ويقيم في هذا الخطاب "تخيّلاته" وتحيزاته وحقائقه، أيضاً، عن "موضوع" الخطاب، الذي هو "الشرق" في الخطاب الكولونيالي.
ونلحظ أنّ الاستعمار الحديث مع نابليون لم يكن فقط لمجرد الهيمنة المادية والاقتصاديّة على خيرات الشرق وإقليمه؛ بل إنّ نابليون قد جلبَ معه "آلة استشراقية" وعلماء كُثراً لمعرفة الشرق، أي للهيمنة عليه معرفياً، وتمّ إنشاء المطبعة، وحاول أن يحُدث تغييرات تعليميّة، وكلّ هذا فعله لإغراء الشرق بتنويريّة الاستعمار، وهو في الحقيقة مجرد تعمية كولونياليّة ليس إلّا.

اقرأ أيضاً: مسائل وعد بلفور... وتمخّصت العرقيّة الأوروبية عن مسخ استعماري
بيد أنّ ثمة ملاحظة لا من بدّ أن أوضّحها في هذا السياق؛ يغلبُ دائماً أن يذكر كثيرون الاستشراق وربطه بالاستعمار لينتهي به الحال، لرفض فكرة الاستشراق جملةً وتفصيلاً، ورغم أنّ هذا مرتبط كثيراً بدوافع ثأريّة لدينا، نحن أبناء الكولونيالية المحدثين، إلّا أنّ المعرفة المتبادلة تاريخياً بين "الشرق" و"الغرب"، كانت حادثة بلا شكّ، فكان فلاسفة الإسلام وعلماؤه منفتحين، لا شكّ، على ما كان يمثّل "الغرب" قديماً؛ أي اليونان، وكذلك كان الغرب؛ إلّا أنّ هذا كان في سياق معرفي، غير متعلّق بالهيمنة الحديثة. وفكرة أن ننشئ "علم استغراب"، كما يدعونا حسن حنفي مثلاً، هي، في الحقيقة، ليست سوى استكمال لمسيرة "الجرح النرجسي" لدى النخب التنويرية عربياً؛ وقد تمّ نقد الاستشراق والاستغراب بما يكفي.
وفي ضوء إعادة التعريف للشرق؛ كان لا بدّ من إحداث إزاحات لغويّة على المستوى الوجودي والمعرفي لكلّ من الشرق والغرب، فإذا دخل الاستعمار مكاناً، فإنّه يحتاج قبل دخول المكان المستعمَر إلى إعادة تعريفه وتعريف هويته الشخصية كمستعمِر، وغالب التسميات التي يصنعها تكون تسميات صنعها المتخيل الكولونيالي عن الإقليم الذي يستعمره وهُوية مَن يعيش به؛ أي إنّ الاستعمار هو ضرب من ضروب العنف الرمزي بخلق لغة جديدة "للحديث عن" الشعوب المستعمَرة، وفق لغةٍ معياريّة، تنتصر للذات على حساب الآخر؛ لأنّها تضع في سياق مقارني بين قيم تظنّ أنّها العقل وأخرى تمثّل الروح.

كلمات مثل: المرأة الشرقية، والرجل الشرقي..، ليست إلا تعبيرات كولونيالية تتضمّن تعمية استشراقية تسربت إلينا كأجساد تمّ استعمارها

فلم تكن فكرة الهيمنة على الشرق إلا من خلال إعادة تعريف "ما هو الشرق"، و"ما هو الغرب"، وطبعاً يتمّ صنع تخيلات استشراقية على الشرق بوصفه المستبد/ الرعوي/ الطاغي... إلخ، في مقابل الغرب الديمقراطي التنويري حامل الأنوار، فإنّ الاستعمار كان لا بدّ من أن يقيم: أولاً، فصلاً بين الشرق والغرب، بوصفهما ليسا مكانين إقليميين، وإنما "كحقيقتين" منفصلتين؛ بل متمايزتين، وهو فصل معياري، ثانياً؛ أن يعيد تعريف نفسه كغربي مستقلّ بفلسفته وعلومه عن كلّ ما سواه.
والاستعمار، كما يشوّه الإقليم، فإنّه يشوّه لغة المستعمرين، ليس فقط بإدخال المستعمرين في لغة المستعمِر، وما تحمله من أنطولوجيا تصوريّة، وإنما ببلبلة لغة المستعمرين بإدخال مفاهيم معيارية يعيدون تعريف أنفسهم بها، وذلك على مستوى أبسط الأشياء وأعقدها، من تعريف الهويّة إلى معرفة ما يشتهيهِ الشرق.
وعندما خرج الاستعمار، خلف "نخبة ما بعد الاستعمار" التي لم تدقق في الهيمنة الكولونيالية، وتمّ وسمنا بالتقليديين، وهي كلمة معيارية، بل تمّ الفصل بين الثقافة والحضارة، فالحضارة حضارة الغرب، وكلمات مثل: المرأة الشرقية، والرجل الشرقي، والحضارة التقليدية، ...إلخ، ليست إلا تعبيرات كولونيالية تتضمّن تعمية استشراقية تسربت إلينا كأجساد تمّ استعمارها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية