واقعة "طفلة المعادي" تشعل جدل كاميرات المراقبة: كشف للجرائم أم انتهاك للخصوصية؟

واقعة "طفلة المعادي" تشعل جدل كاميرات المراقبة: كشف للجرائم أم انتهاك للخصوصية؟


14/03/2021

قبل عامين فقط، لم تكن فكرة المراقبة المصوّرة تفادياً للجرائم منتشرة في الشوارع المصرية، والتي باتت حاضرة مع دخول الدولة في مواجهة شاملة مع الإرهاب، وقتها ألزمت الحكومة المواطنين من أصحاب المحال التجارية وحتى الأكشاك الصغيرة بتعليق كاميرات، وربطت منح التصاريح بوجودها، وإغلاق المحال الموجودة في حال التقاعس عن وضعها.

اقرأ أيضاً: الظهور العلنيّ للنساء.. جدل الحداثة والطبقة والتحرش!

ساهمت تلك الكاميرات على نحو لافت في الكشف عن مرتكبي الكثير من الجرائم، بداية من السرقات، مروراً بالعمليات الإرهابية التي تكون الكاميرات جندياً في كشف عقدها وتسلسلها، غير أنّ ذلك لم يمرّ دون بروز آثار جانبية، تتمثل في بعض الأحيان في تنحية القانون، والاقتصاص للنفس، كما حدث في كثير من الوقائع.

ساهمت تلك الكاميرات على نحو لافت في الكشف عن مرتكبي الكثير من الجرائم

يقول المحامي والناشط الحقوقي محمد تركي: "في بعض الحوادث، كان المتضرر، خصوصاً إذا كان من أصحاب النفوذ والعزوة، يذهب بنفسه إلى صاحب الكشك أو المحل التجاري ويطلب تفريغ الكاميرات للكشف عمّن تسبب في إتلاف سيارته أو سرقته"، موضحاً في حديثه لـ"حفريات": "وهكذا يقوم الأخير بالاقتصاص بنفسه من الجاني، وبناء على ذلك عمّمت بعض الأقسام بياناً على هؤلاء يحظر تفريغ الكاميرات إلّا بأمر من الجهات المختصة أو بعلمها".

لقد استطاعت سلطة القانون ونفوذ الدولة فرض تلك الكاميرات كأمر واقع لمجاراة تحديات الأمن، وتعقبت حلقاتها الأضعف وعالجتها، ولكنّ الأمر ليس ذاته فيما يتعلق بتعميم تلك الاستراتيجية لتشمل المباني السكنية ومداخل العمارات، في ظلّ  اختلاف في الروئ بين تحديد العام والخاص، وما يمثل انتهاكاً للخصوصية، أو ضرورة لحفظ المجتمع وفئاته.

مدخل بناية قضية التحرش بالطفلة مسرح مثالي وتقليدي لتلك الجريمة لولا وجود كاميرا

طفا ذلك الحوار فوق السطح مؤخراً في مصر، مدفوعاً بواقعة مؤلمة تعرّضت لها طفلة في السادسة من عمرها،  فقد اقتادها رجل منمّق، عُرف فيما بعد بـ"رجل البدلة"، إلى مدخل إحدى العمارات في منطقة المعادي (جنوب القاهرة)، وهمّ بالتحرّش بها.

وكان مدخل تلك البناية مسرحاً مثالياً وتقليدياً لتلك الجريمة، دائم التكرر والمحاكاة، لولا أنه يضمّ كاميرا التقطت الجريمة وصوّرتها، وباتت دليلاً دامغاً دفع بالمتهم أخيراً إلى الحبس، حيث تجري التحقيقات معه حالياً، في ظلّ توقعات بحصوله على عقوبة تتراوح بين السجن من 7 إلى 15 عاماً مشدّداً، بحسب ما ينصّ عليه القانون فيما يتعلق بهتك عرض طفل أو طفلة قاصر دون الـ12 عاماً.

كان مدخل تلك البناية مسرحاً مثالياً وتقليدياً لتلك الجريمة، دائم التكرر والمحاكاة، لولا أنه يضمّ كاميرا التقطت الجريمة وصوّرتها

وعلى الرغم من الدور البطولي الذي لعبته تلك الكاميرا في تدعيم دور السيدتين اللتين شعرتا بحركة غير طبيعية، فخرجتا متقصّيتين لتكشفا عن الجريمة، فإنّ ذلك لن يمنحها بطاقة مرور سهلة إلى البنايات المصرية على اختلاف طبقاتها، الشعبية والمرفهة.

وينقسم المجتمع إلى فئتين: الأولى تدعم دور تلك الكاميرات وفكرة فرض المراقبة والتوثيق من قبيل الحماية، وفريق آخر يخشى على الحرّية الشخصية، ويعتبر تثبيت تلك الكاميرات في كلّ ركن في المحال والبيوت انتهاكاً للخصوصية.

وجود كاميرات المراقبة يقسم المجتمع إلى فريق مؤيد وآخر يخشى على الحرّية الشخصية

ويتضاعف اللبس فيما يتعلق بمفهوم الخصوصية ذاته، ففيما يرى أصحاب الفريق الأوّل أنّ الخصوصية محض ستارة لارتكاب أفعال خارجة عن العرف المجتمعي والقانون واللياقة، فإنّ أصحاب الفريق الثاني يدفعون بخطورة منح المجتمع نفسه وأفراده سلطة أبوية يمارسونها بعضهم على بعض، لتحديد الحلال والحرام أو الجائز والممنوع.

اقرأ أيضاً: نساء سوريا وجحيم الحرب.. ابتزاز وتحرش مقابل اللقمة!

فما قد يعتبره البعض حرّية شخصية في أن يستقبل عازب مثلاً فتاة في منزله، يمنح الشريحة العريضة من المجتمع بتثبيت الكاميرات في البنايات دليلاً أو مؤشراً على انحراف ذلك الشاب عن تقاليد المجتمع، وتصبح الكاميرات المثبتة في البنايات سلاحاً لقتل تلك الحرّية من وجهة نظر البعض.

ويرى آخرون أنّ تلك الاستراتيجية التي تستهدف تعميق المراقبة المجتمعية قد تصبح وسيلة لتغليظ الرقابة الأمنية على المجتمع، بحيث يصبح من الأيسر تعقب المعارضين.

واللافت أنه على الرغم ممّا فجّرته واقعة التحرش الشهيرة الأخيرة من إعادة تقييم لتلك الإشكالية المتعلقة بتعريف العام والخاص، في ظلّ مجتمع يتأرجح بين مفاهيم قديمة راسخة وصورة نمطية عن تدينه الفطري، وبين وقائع متتالية تساهم في فضحها وتوثيقها مواقع التواصل الاجتماعي، ويمرّ بحالة من الصدمة أو الحوار حول المفاهيم، فإنّ تلك المفاهيم تظلّ ملتبسة، ولعل في تقصي الحالة المجتمعية التي أعقبت انتشار مقطع التحرش مؤشراً على ذلك اللبس، فقد اعتبر البعض أنّ مشاركة الفيديو الذي يظهر الجريمة "كشفاً للستر"، وفسّروا الواقعة ككل على أنها نفاذ رصيد ستر رباني، وأبدوا تعاطفاً مع الجاني، ما يعني تجاوز اللبس في أحيان كثيرة للجدليات إلى البديهيات.

محمد تركي: قضية الكاميرات بالمباني ليست وليدة اللحظة وإن كانت اكتسبت زخماً أكبر مع الواقعة الأخيرة

يقول محمد تركي: قضية الكاميرات في المباني ليست وليدة اللحظة، وإن كانت اكتسبت زخماً أكبر في ظلّ الواقعة الأخيرة، غير أننا نواجه منذ أعوام وقائع بين الجيران يقوم فيها أحدهم بكسر كاميرا علقها آخر في مدخل العمارة أو الدور السكني بدعوى اختراق خصوصيتهم.

ويضيف: واجهت شخصياً قضايا عدة من ذلك النوع، وحينها نقوم بتحرير محضر إتلاف ويتعرّض المتهم للغرامة أو الحبس، لكن في معظم الأوقات غرامة فقط.

ويشير المحامي والناشط الحقوقي إلى أنّ مداخل البنايات في مصر عادة ما تكون مسارح للجريمة، سواء التحرش أو السرقة، أو الضرب، فضلاً عن الأفعال الفاضحة التي يعاقب عليها القانون أيضاً، كمواقعة شاب لفتاة.

وقائع أظهرت الكاميرات فيها بطولة

تتذكر الشابة الثلاثينية دينا نبيل واقعة مشابهة تعرّضت لها، حيث مسرح الجريمة ذاته "السُّلّم"، والجريمة نفسها "التحرش"، والدور البطولي ذاته للكاميرا المثبتة في بنايتهم، خصوصاً أنّ مرتكب الجريمة كان جاراً؛ أي إنّ دخوله إلى البناية لن يثير الريبة فيه.

 قضية الكاميرات في المباني ليست وليدة اللحظة، وإن كانت اكتسبت زخماً أكبر في ظلّ الواقعة الأخيرة

تقول دينا لـ"حفريات": أعاني من حالات إغماء، ووالدي متوفى، والجاني كان يعلم أنّي وأمي نعيش وحيدتين، استغلّ ذلك، وبعدما ساعدني أوّل مرّة في إحدى نوبات إغمائي، تجاوز في المرّة الثانية، وترقب خروجي من منزلي، ولاحقني في البناية وحاول التحرش بي لولا أنني قاومته وصرخت.

وتابعت أنّ المتهم أنكر الأمر برمّته، "غير أنّ المشهد الذي وثقته الكاميرا لم يكن قابلاً للتأويل، وساعدني في مقاضاة المتهم، فضلاً عن أنه منحني اليد الطولى في استرداد حقي مجتمعياً، فقد جلسنا مع الجاني، وقمت بصفعه أمام الجميع، وطلبت أن يترك البناية، وقد كان، ولم أتنازل عن القضية أيضاً".

وتشير ريهام أحمد إلى أنها بعد أن شاهدت فاعلية الكاميرا في قضية التحرّش الأخيرة، وبعد واقعة تعرّض لها جار من قبل، حيث تمّت سرقة أشياء له تركها في مدخل البناية لبضع ثوانٍ فقط تغافل عنها، ستقترح على السكان تركيب كاميرا لتدعيم الأمن والحماية.

من غير المتوقع أن ينتهي المجتمع قريباً إلى مفهوم واضح حول تعريف ما تقف عنده الخصوصية وما تتعداه

ويتزايد ذلك التوجّه بالفعل، ويبدي فاعلية في الأمن، على الرغم من أنه يسبب إزعاجاً لدى البعض، إذ يمنح عيوناً إضافية للفضوليين والمتطفلين. تقول آلاء: في بنايتنا تثبت كاميرا في مدخل العمارة، ومحتواها يصبّ بالكامل عند سيدة فضولية، حتى أنها تراجعنا إذا ما طلبنا طعاماً إلى المنزل ولم نغلق الباب خلف صبي توصيل الطلبات، لكنّ ذلك يجعلنا نشعر بالأمن أيضاً.

ويعارض المؤيدون فكرة تثبيت الكاميرات، ويوضحون أسباب ذلك في سؤال طرحناه عبر فيسبوك، قالت إحدى المعارضات: إنّ تثبيت الكاميرات في كلّ مكان يجعلنا أقرب إلى الحيوانات التي تراقب في أقفاصها، وقال آخر: إنّ ذلك يدعم السلطوية المجتمعية والسياسية، وأضاف ثالث متعجباً متهكماً من سماح الشخص عن طيب خاطر بمراقبة كافة تفاصيل حياته عبر شركات المحمول والهواتف والأذرع التكنولوجية التي تتجسّس علينا، فيما نتأفف من كاميرا موضوعة أو من مراقبة الأمن لنا.

ومن غير المتوقع أن ينتهي المجتمع قريباً إلى مفهوم واضح حول تعريف ما تقف عنده الخصوصية وما تتعداه، أو ترجيح كفة على الأخرى، خصوصاً في ظلّ أنّ تلك المفاهيم شديدة الجدلية حتى داخل الدراسات الأكاديمية، ومن غير المتوقع أن تمتدّ إليها سلطة القانون وتفرضها بالقوة، كما حدث في الشوارع والأكشاك.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية