"وحوش بلا وطن".. السياحة في متحف الحرب

"وحوش بلا وطن".. السياحة في متحف الحرب


13/10/2017

يستطيع الرسام تحويل القبيح إلى لوحات فنية، مثلما يستخرج صُنّاع السينما فحم المأساة من مناجم الحرب ويحوّلونه إلى ألماس. فيلم (Beasts of no Nation 2015/ وحوش بلا وطن)، واحدة من تلك الماسات التي صقلها كاري جوجي فوكوناجا لتأخذ مكانها الطبيعي في متحف الفن السابع.

حرب سوداء كوميديا بيضاء
يُدين الفيلم السياسيين وقادة الحروب الذين يحاربون من أجل مصالحهم الخاصة. يخطب قائد جيش التحرير في جنوده، وأغلبهم من الأطفال، حول أهداف الحرب: تحرير الأرض والدفاع عن النفس والانتقام للضحايا. اللافت هو غياب العدو الذي يقاتلونه، وكأنّ الحرب تدور بين قادة محليين يتصارعون على السلطة، وهذا ما ستوضّحه الأحداث التالية بشكل ضمني.
الصراع بين القائد السياسي والقائد الميداني على السلطة مثال على دور المصلحة الشخصية في الحروب. يَعزل القائدُ السياسي القائدَ الميداني عن منصبه ويحرمه من الترقية إلى رتبة جنرال، يتمرد القائد الميداني على قرار العزل فتظهر نواياهما الحقيقية. وحين تنكشف أوراق القائدين يخبر القائد الميداني جنوده بأن الوضع قد تغيّر وأن الهدف من الحرب الآن هو الاستيلاء على إقليم خاص وتعبئة جيبوهم بالمال.
هذه الدلالة تظهر في مشهد للقائد وجنوده عند مدخل المدينة قبل مقابلة القائد السياسي. يسألهم جندي عند نقطة التفتيش: "من هو قائدكم؟". والسؤال يلمح إلى أن قادة الحرب كُثر. يطول انتظار القائد الميداني، وأثناء ذلك تظهر لقطة لكرسي شاغر -يرمز إلى السلطة التي يتصارع من أجلها القادة- والقائد الميداني يحدق فيه.
مشهد آخر لسيّاح بيض على متن حافلة يحدقون في الأطفال المجندين ويلتقطون الصور معهم. تبدو الحرب في هذا المشهد متحفاً أو منظراً طبيعياً يتم توثيقه بالصور التذكارية، في إشارة ضمنية إلى موقف العالم والإعلام من الحروب. الموقف السلبي من مأساة الحرب يظهر أيضاً في مشهد لقوات الأمم المتحدة؛ حيث يقتصر دورها على المراقبة فقط.

يُقسِّم الفيلم المعاناة إلى همّين؛ هَمّ يُضحك وآخر يُبكي، الجزء الساخر مرادف للسلام، أما المبكي فمرادف للحرب

مدة الفيلم ساعتان وربع. أول ربع ساعة كوميديا سوداء؛ حيث يمكن للفقر أن يكون موضوعاً ساخراً ومسرحاً للهو الأطفال وضحكاتهم البريئة. تختفي بعدها الكوميديا وتبقى معاناة الناس مع الحرب وعواقبها خصوصاً على الأطفال. تُصوِّر المشاهد الأولى معاناة الأطفال مع الفقر والجوع بأسلوب ساخر. يظهر آجو (أبراهام أتا) وأصدقاؤه وهم يروجون لبيع صندوق تلفزيون، يسمّونه (تلفزيون الخيال). يتعاطف معهم أخيراً أحد جنود حفظ السلام، وبعد تفاوض على السعر يفضّلون وجبة طعام على المال.
يُضمر المشهد مقارنة الخيال ووظيفته بين واقعين: واقع مفترض هو واقع التلفزيون، باعتباره أداة لصنع الخيال وتغذية الروح، وواقع الأطفال وهم يبيعون الخيال من أجل لقمة العيش. سيظنّ المُتفرج أن صندوق التلفزيون خردة، وسيكتشف لاحقاً أنّ آجو انتزعه من تلفزيون أبيه. تقديم زمن السرد على زمن القصة في هذين المشهدين يُظهر حجم المعاناة.
يُقسِّم الفيلم المعاناة إلى همّين: هَمّ يُضحك وآخر يُبكي. الجزء الساخر -ربع ساعة- مرادف للسلام، والجزء المبكي مرادف للحرب. ولعل هذه هي نسبة السلام إلى الحرب في الواقع. قد تستمر هدنات السلام أوقاتاً أطول من الحروب، لكنّ آثار الحروب المدمّرة تحصد في شهور كل ما يبنيه السلام في سنوات.

دفعت الحرب الطفل (آجو) للفرار إلى الغابة بعد أن راح والده ضحيتها وفرقت بقية أسرته. يقع أسيراً في قبضة قائد عسكري (إيمانويل أفادزي)، يجنده ويحوله إلى قاتل. يلتقي آجو بطفل اسمه (سترايكا)، تتوطد صداقتهما ويحاول حثّه على الكلام دون جدوى. وبعد أن يُغتصب آجو من قبل القائد الميداني يطيل آجو الصمت، عندها يفهم سر صمت صديقه.


لغة سرد طفولية
أدى ابراهام دور آجو ببراعة، والهدف من اختيار طفل لدور البطولة والسارد الخارجي هو تصوير مآسي الحرب من منظور محايد غير متحيز. يتسم السرد بلغة طفولية، يقول آجو في بداية الحرب: "تأكل الرصاص كل شيء، الأوراق والأشجار والأرض. تأكلهم وتجعل الإنسان ينزف من كل مكان. لقد صرنا بلا مأوى، تماماً مثل الحيوانات البرية. أيتها الشمس لماذا تشرقين على هذا العالم؟ أودّ لو أمسك بك بيديّ وأعصرك حتى لا تشرقين مجدداً. بهذه الطريقة سيعم الظلام ولن يتمكن أي شخص من رؤية الفظائع التي تحدث هنا".
مع نهاية الفيلم تشيخ لغة الطفل وهو يخاطب الأخصائية النفسية: "لقد رأيت أشياء فظيعة واقترفت أموراً فظيعة. إن حدثتك عنها سأشعر بالحزن وسأجعل منك شخصاً حزيناً أيضاً. في هذه الحياة كل ما أريده هو أن أكون سعيداً. إذا ما بُحتُ لك فستعتقدين أنّني شيطان أو نوع من الوحوش. أنا كل هذه الأشياء، لكن كان لي ذات يوم أُم وأب وأخ وأخت، وكانوا يحبونني".

ما قاله آجو، في نهاية الفيلم، يعيدنا إلى ما قاله في بدايته: "أنا ولدٌ صالح من عائلة صالحة. أمي تعمل بكد من أجلنا, وأبي كان يعمل معلماً...". لكن الحرب تنتزع والده من المدرسة، مثلما انتزعت كثيرين؛ منهم مهندس مدني فقد حياته بضربات فأس وجهها لرأسه آجو وسترايكا بأمر من القائد، في مشهد يُعد الأقوى والأكثر وحشية.
مشاهد العنف في بعض الأفلام تتم بتقنية "خارج الحقل"؛ لدواعي نبذ العنف على الشاشة. لكن في هذا المشهد لم يُفعِّل المخرج رقابته الذاتية لسببين؛ لأنّ المشهد مرتبط بعنوان الفيلم ومضمونه عن الوحشية التي يراد للمتفرج أن يكون شاهداً عليها ببصره لا بتخيله. بعد أن أدّى المشهد وظيفته نجد مشاهد عنف لاحقة تتم "خارج الحقل". السبب الثاني أنّ المحتوى البصري لهذا المشهد له علاقة بما قاله آجو للأخصائية عن تجربته الوحشية في الحرب.
فوكوناجا في هذا الفيلم (Beasts of no Nation)، مهموم بقضية إنسانية بمعزل عن الجغرافيا. تم تصوير فيلم (وحوش بلا وطن) في غانا، لكن المكان والزمان يغيبان عن عنوانه وأحداثه، في دلالة على تواجد وحوش الحرب في كل زمان ومكان. تنشب الحرب دون ذكر الأسباب؛ فالحرب رذيلة وأي تبرير سيحولها إلى فضيلة. وهذا ما يفعله كثير من تجار الحروب حين يربطونها بالدين والمصلحة الوطنية.
ينتهي الفيلم بمفارقة ساخرة: الحروب تتوقف لكنها لا تنتهي. تتوقف عند انتهاء الذخيرة، لا بسبب السلام. نفاد الذخيرة دفع المجندين للتخلي عن قائدهم الذي ذكّرهم بأنه سيطلبهم حالما تتوفر الذخيرة، وهذا ما حدث لتستمر دائرة الفقر والحرب. في الأخير يقدم الفيلم اقتراحاً لنسيان الماضي حين فضَّل آجو وبعض رفاقه البقاء في المخيم كوطن مؤقت لطلب العلم، وللحفاظ على ما تبقى من صورتهم الإنسانية ونسيان ماضيهم كوحوش.

الصفحة الرئيسية