وفاة السبسي.. اختبار جديد للتجربة الديمقراطية التونسية

تونس

وفاة السبسي.. اختبار جديد للتجربة الديمقراطية التونسية


29/07/2019

برغم ديمقراطيتها الناشئة، وبرغم تعثّر مسارها الانتقالي بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، نجحت تونس في أوّل اختبار لها، بعد وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي (92 عاماً)، تزامناً مع ذكرى قيام جمهورية تونس 25 تموز (يوليو) 2019، حيث أجمع المحلّلون التونسيون، والمراقبون الدوليون على سلامة انتقال السلطة، وسلاسة الإجراءات، وسيرها، في وقتٍ وجيزٍ دام فقط بضع ساعات، وثمنوا التزام الطبقة السياسية بكل ما جاء في دستور ما بعد الثورة، خاصّةً أنّ وفاة الرئيس جاءت في ظرف ساسي مهتز يستعد السياسيون فيه للتنافس في ثاني انتخابات رئاسية، ديمقراطية وشفافة، في تاريخ البلاد.

اقرأ أيضاً: السبسي.. رجل الثورة والدولة
وكان التونسيون يترقبون سماع معلومات عن صحة الرئيس الذي نُقل للمرّة الثانية في شهر تموز (يوليو) الجاري، إلى المستشفى العسكري بسبب تدهور حالته الصحية، حين أعلنت رئاسة الجمهورية عن وفاته، ما أثار الهلع في نفوس المواطنين، من إمكانية إرباك السير العادي للانتقال الديمقراطي، أو سطوٍ على السلطة، خاصّةً أنّه أوّل رئيسٍ يموت في الحكم، لكن الطبقة السياسية، وأيضاً الحاكمة أبدت وعياً كبيراً، وتمسّكاً بمؤسّسات الدولة، وبضرورة حمايتها من أي منزلقٍ، رغم المصاب الجلل.
وفاة السبسي وحّدت الصفوف وحشدتها من أجل تحقيق استمرارية الدولة وسلاسة انتقال الحكم فيها

وفاة السبسي توحّد التونسيين
هذا وتعيش تونس خلافات حزبية، وتجاذبات سياسية طغت، باقتراب موعد الانتخابات، إلاّ أنّ وفاة السبسي وحّدت الصفوف وحشدتها من أجل تحقيق استمرارية الدولة وسلاسة انتقال الحكم فيها؛ حيث دعا النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي والصحفيون إلى جانب السياسيين وممثلي الدولة، في مقدّمتهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، إلى ضرورة التوحّد للحفاظ على وحدة البلاد، ولضمان تواصل بناء ديمقراطيتها الناشئة.

اقرأ أيضاً: في جنازةٍ مهيبة.. التونسيون يودّعون السبسي بالورد والدموع (صور)
كما أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمةٍ نقابيةٍ معارضةٍ في البلاد، تعليق كلّ التحركات الاحتجاجية المقرّرة وتأجيلها إلى مواعيد لاحقةٍ، داعياً الهياكل النقابية إلى مزيدٍ من الوحدة والتضامن من أجل مصلحة تونس.
كما تواصل عمل مؤسّسات الدولة، وتواصلت الحركة العادية في كافّة البلاد، باستثناء حزنٍ خيّم على الشوارع، لفقدان شخصيّة مهمّة، ساهمت في بناء تاريخ تونس الحديث، وحمت تونس من سيناريوهات كادت تجهض انتقالها الديمقراطي.

بعد ساعات من وفاة السبسي أدّى رئيس البرلمان اليمين رئيساً مؤقّتاً للبلاد في انتقال دستوري وسلسٍ للسلطة

في هذا السياق، لفت المحلل السياسي، والمختص في القانون عثمان بالحاج عمر، إلى وجود انسجام مجتمعي بين التونسيين "الذين لا يعانون من الصراعات الطائفية والعرقية، ويتميّزون بالاتّفاق السهل بينهم، وهو ما أثبتته بعض الأزمات التي مرت على تونس، واصطفّ فيها الشعب صفّاً واحداً لإنقاذها"، مذكّراً خلال حديثه لـ "حفريات"، بالانقسام الذي حدث خلال حكم الترويكا (بقيادة حركة النهضة الإسلامية)، ثم توحّدوا بمجرّد دعوة المنظمات الوطنية إلى المشاركة في حوارٍ وطني يضم كل الأطراف، من أجل تقريب وجهات النظر، وإخراج تونس من الأزمة السياسية التي أربكتها آنذاك، "كلّ ذلك حدث دون اللّجوء إلى مبعوث أممي أو تدخّل أجنبي".
ولفت بالحاج عمر إلى أنّ دستور ما بعد الثورة في الجمهورية "لم يكتبه البرلمانيون وحدهم؛ بل شاركهم الشعب في ذلك، من خلال المسيرات التي رافقت المصادقة على بعض الفصول، والتحركات الاحتجاجية فضلاً عن الاعتصامات، المطالبة بتعديلها، إلى أن تمت المصادقة على كل الفصول بموافقة الشعب".
 الرئيس المؤقت لتونس محمد الناصر

نقل سلس للسلطة
بعد بضع ساعات من وفاة السبسي، أدّى رئيس البرلمان محمد الناصر اليمين، ليصبح رئيساً مؤقّتاً للبلاد في انتقال دستوري، وسلس للسلطة في مهد انتفاضات "الربيع العربي"، هذا الإجراء الذي لم يتجاوز 6 ساعات، أرجعه مستشار سفير فلسطين بتونس، هشام مصطفى، إلى "تمسّك تونس وشعبها بدولة القانون، وثمّن أيضاً إرساء مؤسسات الدولة الراعية لتطبيق القانون".

أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل تعليق كلّ التحركات الاحتجاجية المقرّرة وتأجيلها إلى مواعيد لاحقة

وأضاف مصطفى في تصريحه لـ "حفريات"، أنّ الدستور الذي كتبه الشعب بنفسه، حقّق كل آمال التونسيين، لافتاً إلى أنّ ما حدث في تونس يبشّر بأنّها تسير في الطريق الصحيح نحو ترسيخ ديمقراطيتها.
من جهته، اعتبر المحلل السياسي الجمعي القاسمي، في تصريحه لـ "حفريات"، ما يجري في البلاد، لحظات فارقة في تاريخ تونس المعاصر، ومشهداً رائعاً بالنسبة لديمقراطية حديثة، لم يكتمل مسارها بعد، على حد تعبيره.
وأضاف القاسمي أنّ الوضع السياسي المعقّد للبلاد، والاستحقاقات الانتخابية التي تستعد لها تونس، إلى جانب جدل تنقيح القانون الانتخابي، لم يمنع توحّد الأحزاب والمنظمات والشعب، وراء هذه التجربة التي تعتبر حديثة النشأة.
وأشاد القاسمي بتداول 4 رؤساء على السلطة منذ ثورة 2011، ومرور 6 رؤساء على البلاد منذ استقلالها العام 1956.

اقرأ أيضاً: كيف تفاعل مشاهير عرب مع وفاة الرئيس التونسي السبسي؟
وكان الرئيس التونسي المؤقّت محمد الناصر قد أكّد، أثناء لقائه رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، نبيل بفون، أنّه "لن يزيد يوماً واحداً في الحُكم بعد التسعين يوماً"، التي حدّدها له الدستور في تولّي مهام رئيس الجمهورية.
وينص الفصل 84 من الدستور التونسي على أنّه "في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أو في حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فوراً، وتقر الشغور النهائي، وتبلغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولّى فوراً مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة، لأجل أدناه خمسة وأربعون يوماً وأقصاه تسعون يوماً".

اقرأ أيضاً: السبسي.. سياسي مخضرم يترجل في وقت سياسي حرج
وتتضمن مرحلة الـ90 يوماً تقديم الترشحات وإجراء الحملة الانتخابية والتصويت لانتخاب رئيس جديد للبلاد، وإعلان النتائج النهائية وتنصيب الرئيس الجديد، وسيكون لزاماً على الأطراف السياسية في تونس تأمين كلّ ذلك في آجال لا تتعدى يوم 25 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
 أعلنت الهيئة المستقلة للانتخابات تقديم موعد إجراء الانتخابات الرئاسية إلى تاريخ 15 أيلول

هل يربك تغيير موعد الانتخابات المترشحين؟
مباشرةً بعد هذا اللّقاء، أعلنت الهيئة المستقلة للانتخابات تقديم موعد إجراء الانتخابات الرئاسية إلى تاريخ 15 أيلول (سبتمبر) بعد أن كانت مقررة في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) من هذا العام، ومثّل هذا القرار بمثابة المفاجأة للمرشحين لهذا الاستحقاق، الذين أربكهم الموعد الجديد، خاصّةً أنّهم غير جاهزين تماماً لهذا الموعد.

اقرأ أيضاً: الرئيس التونسي المؤقت.. رجل الظل يقفز إلى الواجهة
ويقرّ عضو مجلس هيئة الانتخابات محمد التليلي المنصري، بوجود بعض الإرباك، مستدركاً أنه لن يؤثّر على سير العمليّة الانتخابيّة، "خاصّةً أنّ الهيئة منحت المترشّحين أكثر من أسبوعٍ لتقديم ترشحاتهم، وهي فترةٌ كافيةٌ بالنسبة لأشخاص كانوا يستعدّون أساساً لهذا الاستحقاق".

تواصل عمل مؤسّسات الدولة كما تواصلت الحركة العادية في كافّة البلاد باستثناء حزنٍ خيّم على الشوارع

وشدّد المنصري، في حديثه لـ "حفريات"، على أنّ هيئته جاهزة تماماً لإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها الجديد، كما أنّها ستعمل على توفير كافّة الظروف الملائمة، لإنجاح الاستحقاق الرئاسية، منوهاً بضرورة تقبّل التغييرات الطارئة في مثل هذه الأحداث غير المنتظرة، للحفاظ على الدولة.
من جانبه، دعا حمّة الهمامي، الناطق باسم الجبهة الشعبية (ائتلافٌ يساري معارضٌ)، إلى ضرورة تحمّل إرباك الوقت، وضيقه، التزاماً بالقانون، حتّى لا يتم التلاعب لاحقاً بالدستور، وفصوله لخدمة مصالح سياسية ضيقة، وقال في تصريحه لـ "حفريات"، أنّه على المترشحين تجاوز كلّ ما ينجرّ عن ضيق وقت العملية الانتخابية، من أجل إرساء تقاليد جديدة في ممارسة الديمقراطية.
وودع التونسيون أمس بجنازة مهيبة، الرئيس السبسي، السياسي المخضرم الذي أكسبته مسيرته السياسية الطويلة الكثير من الخبرة والتجربة، ارتبطت باسمه ألقابٌ كثيرةٌ، تؤكّد جميعها مساهمته الفعّالة في بناء تاريخ تونس الحديثة؛ حيث اكتظّت مقبرة الجلّاز في العاصمة بالتونسيين الذي أصروا على مواكبة عملية مواراة رئيسهم الثرى، فيما احتشد الآلاف في الشوارع التي مرّ منها موكب الجنازة.
وشارك عددٌ من رؤساء الدول والملوك والأمراء وممثلي المنظمات الإقليمية والدولية، في موكب تشييع جنازة السبسي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية