آخر أيام داعش: كيف تآكل التنظيم من الداخل؟

آخر أيام داعش: كيف تآكل التنظيم من الداخل؟


12/03/2019

ترجمة: محمد الدخاخني


لم أسافر قطّ جنوباً على طول وادي نهر الفرات من قبل، وعمق أراضي داعش كان بمثابة كشفٍ بالنّسبة إليّ. فقد قضيت سنوات أُشير فيها إلى ما يسمّى بـ"الدّولة الإسلاميّة"، ولكن هنا، حين تسافر من قرية إلى أخرى، ولأميال كثيرة عبر الصّحراء، يمكن أن يُغفَر لك إذا ما فكّرت أنّ هذا كان بلداً آخر بالفعل. وهنا، في عمق دير الزّور، توجد آبار النّفط، الّتي، حسب التّحالف الغربيّ، كانت الجماعة تجني منها ما يصل إلى 50 مليون دولار شهريّاً. وبهذا سكّت عملات معدنيّة من النّحاس والفضّة والذّهب.

تصرّف مقاتلو التّنظيم كجيش مرعب، لكن زعيمهم البغداديّ، والّذي ما يزال طليقاً، كان يقود أيضاً كتائب من البيروقراطيّين

العملة المعدنيّة الّتي أملكها بين يديّ عريضة ومصنوعة من النّحاس. وهي من فئة "الدّولة الإسلامية - 25 فلساً" وكانت كافية لشراء شيء من الخضراوات. كما أنّها تحمل قانون الإيمان الإسلاميّ، الشّهادة، "لا إله إلا الله، محمّد رسول الله"؛ الكلمات نفسها المكتوبة على الرّاية السّوداء للجماعة. لقد كانت طموحات داعش بلا حدود.
ربّما تصرّف مقاتلو التّنظيم كجيش مرعب، لكن زعيمهم الّذي نصّب نفسه خليفة، أبو بكر البغداديّ، والّذي ما يزال طليقاً، كان يقود أيضاً كتائب من البيروقراطيّين. ففي ظلّ الرّاية السّوداء، خدمت في دولة داعش البدائيّة وزارات صحّة وعدالة وحتّى شؤون خارجيّة. وقد تركت هذه الوزارات وراءها عدداً كبيراً من الوثائق، يكشف بعضها عن أسرار عسكريّة، ولكن معظمها يحتوي على سجلٍ منتظمٍ ومُتقَنٍ لأموال الزّكاة الموجّهة إلى الفقراء والأرامل وقدامى المحاربين. لقد ساعدت الأصول البعثيّة لكثير من قادة داعش في إنشاء دولة من البيروقراطيّين.

اقرأ أيضاً: آخر أيام داعش: ثمن الخروج الأمريكي

ودائماً ما يكون من السّهل العثور على الرّايات السّوداء. لكن في المعارك الأقدم، ذهبت الغنيمة مع المقاتلين لأنّها كانت ما تزال ذات قيمة - حتّى في التّراجع. وكان نادراً ما يمكن العثور على أيّ عملات معدنيّة. ولكن هنا، في بلدات هجين والصفا وسوسة، تتناثر العملات النّقديّة إلى جانب قنابل محلّيّة الصّنع وسترات انتحارية محطّمة، مهجورة في الأوساخ. فهي الآن بلا قيمة.
وليست العملات المعدنيّة هي فقط الآخذة في الظّهور. فأتباع داعش، وبعضهم كان مفقوداً منذ سنوات، يظهرون على السّطح، وقد أُرهِقوا، ولم تعد لهم أيّ قيمة، وهُجِروا على نحو مماثل.

شاميما بيجوم ، التي ذهبت إلى سوريا في سن 15 عامًا

قصّة شاميما بيجوم
في مخيّم نزوح مترامي الأطراف في منطقة الهول في شمال سوريا، جرّت شاميما بيجوم قدميها إلى مكتب المدير. وقبل أربعة أعوام، عندما كانت فقط في الـ 15 من عمرها، انضمّت بيجوم إلى صديقتيها، أميرة عبّاسي وخديجة سلطانة، وهنّ تلميذات سابقات في إحدى مدارس بيثنال غرين، شرق لندن، للسّفر إلى سوريا للانضمام إلى داعش. وقد استحوذت رحلة الفتيات وعمليّة ملاحقتهنّ على اهتمام العالم: لقد مثّل تجنيدهنّ انقلاباً في مستوى العلاقات العامّة للخلافة، كما أُبعدن خِفية، وعثرنَ على أزواج، ولم يُشَاهدن منذ ذلك الحين. وهكذا اعتبرن في عداد الأموات.

تسبّبت رغبة شاميما بيجوم في العودة إلى "وطنها"، لندن، في إثارة غضب شديد في بريطانيا

عندما التقيتُ شاميما بيجوم كانت قد ولَدَت لتوّها، ورأيتها تحمل ابنها البالغ من العمر يومين، جرّاح، تحت عباءتها السّوداء المبقّعة. وكانت قد بقيت مع داعش حتّى اللّحظات الأخيرة، عندما استسلم زوجها، وهو جهاديّ هولنديّ يُدعى ياغو ريديك، أمام المقاتلين الأكراد. وقد توفّي أول طفليهما بسبب المرض بينما كانا يعيشان في ظلّ حكم داعش.
قدّمت بيجوم اعتذاراً فاتراً لتأييدها للجماعة المتطرّفة وطلبت المغفرة. وعندما سألتُها عمّا إذا كانت قد احتفلَت بالهجوم الّذي ألهمه تنظيم داعش على حفل أريانا غراندي، في مانشستر أرينا، في عام 2017، قالت، لا، لقد صُدمت من ذلك، ولكنّها أرفقت تحفّظاً.
"أشعر بأنّ هذا خطأ؛ أن يتمّ قتل الأبرياء"، أخبرتني.

اقرأ أيضاً: حرص إماراتي على دور عربيّ في سوريا.. والكويت ترحب بعودتها
"أن تقتل جنديّاً، فذلك أمر جيّد. إنّه دفاع عن النّفس. ولكن أن تقتل النّساء والأطفال، تماماً مثلما يجري الآن قتل النّساء والأطفال في باغوز بشكل غير عادل وعبر التّفجيرات - إنّه أمر ذو اتّجاهين حقّاً. لأنّ النّساء والأطفال يُقتلون الآن في بِقاع الدّولة الإسلاميّة. وهذا نوع من الانتقام. لقد كان مبرّرهم أنّه كان انتقاماً ولذلك اعتقدتّ أنّ المبرّر عادل".
تسبّبت رغبة شاميما بيجوم في العودة إلى "وطنها"، لندن، في إثارة غضب شديد في بريطانيا، حيث لا يوجد تعاطف كبير معها ومع أخريات مثلها. لكن ربّما يكون تخلّيها عن داعش هو الأكثر أهميّة.

اقرأ أيضاً: 3 مسوغات تشكك في القضاء على داعش في العراق وسوريا
"لا، في الواقع، إنّني لا أؤيدهم. حقّاً لا"، أخبرتني، "هناك الكثير من القمع والفساد المتواصل في الدّولة الإسلاميّة. وأقرّ بأنّهم يقتلون النّاس بشكل غير عادل. وهم لا يملكون الحقّ ولا أعتقد أنّهم يقيمون الشّريعة الإسلاميّة بشكل صحيح. وهذا هو السّبب في وجود عمليّات القتل غير العادلة هذه، لأنّهم لا يقيمون الشّريعة الإسلاميّة بشكل صحيح". وقالت إنّه حتّى لو عاد داعش، فإنّها سترفضه.

مخيم الحول للاجئين

دُمّر داعش من الخارج لكنّه انهار أيضاً من الدّاخل
كان للمواطنين البريطانيّين دورهم الكبير في داعش. فصحيح أنّ بلجيكا وفرنسا ودول أوروبيّة أخرى ساهمت بالمزيد من مواطنيها، لكن "جهاديّي العصابات" البريطانيّين ساعدوا في نمو أسطورة التّنظيم. على أنّ نجوم برنامج الرّعب هذا، محمّد إموازي وفريقه من القتلة، إمّا الآن في عداد الموتى أو في السّجن في سوريا وتركيا. وزعمهم السّابق بأنّهم يستمتعون بنمط حياة جهاديّة من فئة الخمس نجوم سيكون بيعه صعباً الآن.

علقت رأس بريطانيا بعمق في رمال دير الزّور، ولم تكن على استعداد للتّعامل مع بقايا الخلافة ومواطنيها الّذين انضموا إليها

لقد علقت رأس بريطانيا بعمق في رمال دير الزّور، ولم تكن على استعداد للتّعامل مع بقايا الخلافة ومواطنيها الّذين انضموا إليها. وقد يتمّ تحويل مقاتلي داعش البريطانيّين إلى السّجون الأمريكيّة، لكن لا توجد خطّة بشأن العدد المتزايد من النّساء البريطانيّات وأطفالهنّ في معسكرات النّزوح والسّجون الكرديّة. ليس بإمكانهنّ البقاء هنا، ولا ينبغي لهنّ ذلك. إنّهنّ موضع احتقار بسبب المعاناة الّتي ساعدن في إيقاعها بالملايين من العراقيّين والسّوريّين. وتضطّر النّازحات اليزيديّات، الّلواتي استُعبِدن من جانب داعش، إلى مشاركة المخيّمات مع زوجات رجال داعش الّذين اغتصبوهنّ. وقد قال لي أحد الدّبلوماسيّين البريطانيّين: "إنّنا بحاجة إلى قيادة وتشريع سياسيّين من أجل التّوصل إلى خطّة، لكنّنا لا نملك لا هذا ولا ذاك".

اقرأ أيضاً: تركيا تضرب العرب بالكرد في سوريا لخدمة أحلامها العثمانية
كانت قدرة تنظيم داعش على جذب المؤيّدين من كافّة أنحاء العالم - حتّى تلميذات المدارس - واحدة من نقاط قوّته العظيمة. لقد صدمنا ذلك، لكن بمرور الوقت، أصبح مؤيّدوه الأكثر تصميماً متحرّرين من الأوهام بشأن هذا النّظام القسريّ.
لقد دُمّر داعش من الخارج لكنّه انهار أيضاً من الدّاخل. ونعرف من أدبيّاته ومن وفاة علماء في سجون داعش أنّه كانت هناك معركة شرسة داخليّاً بين المعتدلين والمتشدّدين التّكفيريين (مدّعي الورع الّذين يعتبرون غيرهم من المسلمين مرتدّين). كذلك، انخرط التّونسيّون والعراقيّون والسّوريّون والمقاتلون "الأجانب" في صراعٍ على السّلطة ضدّ بعضهم البعض. إنّ داعش قد خسر منذ زمن بعيد الكتلة الحرجة الّتي احتفظت بتماسكه؛ فالصّراع الدّاخليّ وجنون الارتياب والرّعب اليوميّ كلّها عوامل خلقت حالة من التّعفّن داخل التّنظيم.
هذا، وقد قُتِل أو هربَ معظم قيادات داعش - فذهب بعضهم إلى إدلب في شمال غرب سوريا، بينما عبر البعض الآخر الحدود إلى داخل العراق. وما من تقارير حديثة موثوقة عن رؤية أبي بكر البغداديّ. وتعتقد مصادر استخباراتيّة محلّيّة وغربيّة أنّه ربّما يكون في محافظة الأنبار في العراق، أو ربّما في صحراء تدمر في سوريا. وهؤلاء الّذين تُرِكوا، يواصلون تمرّدهم ويقاتلون بالفعل على غرار حرب العصابات في كلا البلدين. وما يزال التّقسيم والضّعف الّلذين استغلّهما داعش موجودان، لكنّهما يشكّلان تهديداً معروفاً. وفي الهزيمة، شأنها شأن عملاتها المعدنيّة، فقدت الخلافة بريقها.

اقرأ أيضاً: تركيا وسياسة التتريك.. ماذا يحدث في شمال سوريا؟
يبدو الأمر وكأنّ الوقت قد حان لكي أتخلّص من المواد الشّخصيّة والهدايا التّذكاريّة الّتي جمعتها على مدى الأعوام الخمسة الماضية من كتابة التّقارير الصّحافيّة عن صعود داعش وسقوطها. الرّاية السّوداء، الّتي أعطانيها جنديّ عراقيّ مقابل زوج من السّراويل، هي بحجم بطانية نُزهة في حديقة وليس لها مكان في بيتي. وقد ذهبَت إلى مُتحَف الحرب الإمبراطوريّ في لندن. ولكن ماذا أفعل بكلّ هذه العملات المعدنيّة؟
لقد أعطيت بعضها لرجالٍ اختطفهم وعذّبهم تنظيم داعش وعاشوا كفاية للشّهادة ضدّ آسريهم. وقد تلقّى أحد الصّحافيّين الشّجعان والرّائعين في باريس نصيبه. فحصل على العملات المعدنيّة في اليوم الّذي حضر فيه محاكمة رجل يعتقد أنّه احتجزه في سوريا. يتطلّب الأمر شجاعة منك كي تنظر إلى عدوك في عينيه. "كان الأمر رمزيّاً جدّاً بالنّسبة إليّ: وضعتُ العملة في جيبي، في المحكمة، حيث كانت بمثابة كأسٍ تذكاريّ مأخوذ من العدوّ".


المصدر: كوينتن سومرفيل، النيوستيتسمان-أمريكا



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية