التراث في فكر حسن حنفي

التراث في فكر حسن حنفي


18/06/2019

يمثّل حسن حنفي، بما له وما عليه، حالة خاصة في تاريخ الثقافة المصرية والعربية؛ ذلك لأنّه الأستاذ الذي إذا دخلت أرضه، واطلعت على ميراثه الفكري، فلن تخرج كما كنت، ذلك لأنّ حسن حنفي هو الأستاذ الرائد والمفكر الكبير الذي يترك بصماته على ذهنك، ويعلّم في وعيك، قد نتفق على الاختلاط الواضح في أعماله بين المعرفي والأيديولوجي، بين المفكر والزعيم، ولكن يغفر له دوماً أنّه كان، وما يزال، المفكر المهموم بهموم وطنه على مدار عمره الأكاديمي المديد.

نقد النخب الليبرالية

انطلق حسن حنفي من التيارات الليبرالية والعلمانية؛ لأنّها منفصلة عن التراث وتاريخ الذات، ولأنّها ربطت نفسها بتراث الآخر الغربي وواقعه، فوقعت في التغريب، وامتدت روافدها وجذورها في الغرب، سواء في العقلانية أو العلمانية أو الليبرالية والاشتراكية، وهذا التحديث، الذي يأتي من الخارج، ينكر المرحلة التاريخية التي تمرّ بها مجتمعاتنا، وتسقط علينا المذاهب الغربية الأدبية والفنية والسياسية والاجتماعية؛ لذا دعا حنفي إلى تأسيس علم الاستغراب لمواجهة التغريب الذي امتدّ أثره، ليس فقط على حياتنا الثقافية، وتصوراتنا للعالم، وهدّد استقلالنا الحضاري؛ بل امتدّ إلى أساليب الحياة الغربية، وفقه اللغة، ومظاهر الحياة اليومية، وفنّ العمارة.

اقرأ أيضاً: "الاستبداد والدين" في "التراث" الأقرب إلينا

ولكن على الرغم من نقد حنفي للآخر الغربي، فلا يمكن أن نغضّ الطرف عن الأثر الكبير للفكر الغربي في أعماله، وفي الدور الذي لعبته المنهجيات الحداثية في تقديمه قراءات جديدة للتراث الإسلامي، وهذا واضح من تأثير إسبينوزا، وهيجل، وفيورباخ، وماركس، وهوسرل، وغيرهم كثيرون.

التراث نقطة انطلاق النهضة

ورأى حسن حنفي؛ أنّ أيّة نهضة للأمة العربية لابدّ من أن تنطلق من تراث الذات، ومن الانتظام في التاريخي الثقافي لها؛ وذلك لأنّ التراث ما يزال حيّاً وفاعلاً في وجدان الجماهير وحياتهم، فالتراث هو المخزون النفسي الحي، فالتراث هو جزء من الواقع ومكوناته النفسية، فما يزال التراث القديم بأفكاره فاعلاً في حياتنا، ومن ثم فمن الضروري تجديد نظرتنا إلى التراث بإعادة تفسيره وفق حاجات العصر.

رغم نقد حنفي للآخر الغربي فلا يمكن غضّ الطرف عن الأثر الكبير للفكر الغربي في أعماله

والتراث، برأي حنفي، ليس قيمة في ذاته، إلا بمقدار ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره، فهو ليس متحفاً للأفكار نفخر به وننظر إليه بإعجاب؛ بل هو نظرية للعمل وموجه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض.

ومن ثمّ عمد حسن حنفي في قراءاته للتراث إلى بيان مثالب تراثنا القديم، ومدى مسؤولية هذا التراث عن بعض المشاكل الكبرى، مثل غياب مفهوم الإنسان في هذا التراث، وغياب الحرية عنه، وغياب التاريخ، فيحمل حنفي التراث المسؤولية عن غياب العقلانية لصالح السحر والتنجيم، واللاعقلانية، ومن ثمّ يؤكد على أهمية ربط التراث بأهداف مشروع اليسار الإسلامي، وقضاياه الأساسية، مثل: قضية تحرير الأرض من الاستعمار، وقضية الحرية والقهر، والعدالة الاجتماعية، وقضية تجزئة العالم الإسلامي، وقضية التنمية، وقضية الهوية، وفي ضوء هذه القضايا ينبغي أن نقدم قراءتنا للتراث القديم.

اقرأ أيضاً: التراث كعائق تاريخي: نظرة على الإحياء والتحديث الإسلامي

ويركز حسن حنفي على أهمية إبراز الجوانب التقدمية في تراثنا القديم، فمن الضروري إبراز تراث الشعب، تراث المصلحة، وهو أكبر دافع على التقدم، وبالتالي يمكن تقوية روح الشعب ونضال الجماهير بإعطائهما تراثاً ثورياً، يكون هو البديل للأيديولوجيا الثورية، وينطلق من خلال الثقافة الوطنية وتراثها.

نحو اعتزال جديد

وفي قراءة حسن حنفي لتجديد بناء علم الكلام، حاول أن يعيد إنتاج الفكر المعتزلي القديم، في ثوب جديد يوافق حاجات العصر، ويرى أنّ خيار اليسار الإسلامي هو إثبات الحرية، وهو خيار معتزلي قديم، لكنّه خيار مناسب لظروف العصر؛ لأنّه يتيح للإنسان حرية التغيير والفعل والحركة، ومن ثم فإنّ قول المعتزلة بمقدرة الإنسان على خلق الأفعال هو إثبات لحرية الإنسان واستقلاله، ومن ثم فإنّ المعتزلة قد أعطت فهماً جديداً للدين؛ حيث أصبح الإنسان، بقواه العقلية، قادراً على أن يفهم الكون وأسراره، ويسيطر على العالم، وهو قادر بعقله على التمييز بين الخير والشرّ، والحسن والقبح.

دعا حنفي إلى تأسيس علم الاستغراب لمواجهة التغريب الذي يهدّد استقلالنا الحضاري

وفي المقابل؛ نقد حنفي القول بالجبر في تراثنا القديم؛ لأنّه يستخدم من قبل الأنظمة التسلطية لتثبيت دعائم سلطتها، وقبول الناس لحكمهم تحت راية عقيدة الجبر، فيرى حنفي؛ أنّ عقائد الجبر هي السبب الرئيس في استكانة الشعوب، وقبولها واستسلامها للأمر الواقع، وما به من فقر وجهل وتخلف، ما دامت الشرور والآثام واقعة حتماً لا يمكن تغييرها إلى نفع وصلاح.

إنّ قراءة حسن حنفي لقضايا علم الكلام قد حملته إدانة واضحة، ويبدو التراث الكلامي أغلب مشكلات الحاضر، التي يتحمّل مسؤوليتها التراث، وكأنّ الحاضر عاجز عن مواجهة سطوة الماضي، وكأنّ الخلف مقيدون في أسر السلف، ولا إرادة لهم ولا قوة ولا فاعلية، فقراءة حسن حنفي الانتقائية للتراث، تقطع مع الماضي في مجمله، وتحمّله كلّ مصائب الحاضر.

التصوّف من الوعي الفردي إلى السلوك الاجتماعي

ومن جانب آخر؛ يحمّل حسن حنفي التصوف المسؤولية التاريخية عن سيادة روح التوكل والانهزامية، فيرى أنّ مقامات التوكل والزهد والرضى والشكر والصبر، هي قيم إنسانية تتجه نحو السلب والخنوع والاستكانة، وتسلب الإنسان قراره وحريته ومبادرته، ولذا فالتراث الصوفي بشكله الحالي أحد معوقات النهضة والتقدم، وانتشار الطرق الصوفية التي تكرس لأنماط من التدين الشعبي الذي تسوده الخرافات والخزعبلات، وسعي حنفي إلى إعادة بناء التصوف كي ينتقل به من الفناء إلى البقاء، ومن الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي، ومن القيم السلبية إلى القيم الإيجابية الفاعلة، فينتقد سيادة الخوف في التصوف؛ لأنّ الخوف هو سبيل سيطرة الأنظمة التسلطية على مجتمعاتنا.

التراث، برأي حنفي، ليس قيمة في ذاته إلا بمقدار ما يعطي في تفسير الواقع وتطويره

ولا شكّ في أنّ قراءة حسن حنفي للتصوف تتجاهل الطبيعة الفردية الذاتية للتصوف، وتنظر إلى بناء الذات على أنّها الأساس لبناء المجتمع، ومن ثم بدت قراءة حسن حنفي للتصوف على أنّها قراءة بإسقاطات فوقية على مضامين التصوف، لا تتواءم ولا تلتئم معاً، فلا يمكن أن يتم تحويل بنية التصوف ذات النزوع الفردي الخالص إلى توجه اجتماعي عام، ولا يمكن أن نحمّل التصوف آثام الحاضر وانهزاميته.

ورغم كلّ الانتقادات التي يمكن أن توجه إلى مشروع حسن حنفي الفكري؛ فإنّه يظلّ المفكر العملاق، والعقل المثير والمحفز لكلّ من يقرؤون تراثه الفكري الثري، وأقولها بكل يقين: إنّ أيّ عقل حرّ يقرأ حسن حنفي، لا يمكن أن يعود كما كان قبل قراءته، إنّ حسن حنفي قادر على صناعة مَن يملكون المقدرة على السؤال والمساءلة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية