تَحضُرُ الحياةُ.. حين نلتفتُ إليها

تَحضُرُ الحياةُ.. حين نلتفتُ إليها

تَحضُرُ الحياةُ.. حين نلتفتُ إليها


20/10/2022

مثل وردةٍ أقامتْ بيتها عند حافةِ نافذتك، وألقتْ صَوبكَ تياراً من الحلم، تتركُ الكلمات والقصائد والأحلام والأغنيات حرائقها في براري الروح وزوايا الجسد.

بالرجاء نحيا، بمقطعٍ من أغنية فيروزية يمكن لك أنْ تختصر عُمراً، وتُحيي ذكريات، وتتدرب على مزيد من الحب والاستحمام بالحياة، وتنفّسِ تفاصيل صغيرةٍ، من دونها يغدو العُمر شاحب الوجه، عليل النظر.

الحياة الجميلة لا تعني أنّها بلا مشكلات أو هموم..، حدّدْ أولوياتك واصرفْ معظم طاقتك بحمايتها والوفاء لها والاستمتاع بها

تحضُرُ الحياة حين نلتفتُ إليها، ونحتفي بتفاصيلها، ونتذوق عطرها، وتَضْمُر حين تشغلنا عنها الصراعات المفتعلة، والمناكفات مع من يستغربون حين يرون أحداً يبتسم!!
ستضمُر فتنة الدنيا حين لا نتقن "فن التغاضي"... ستتسرّب ملذاتُها من بين الأصابع حين ننسى أنّ الألم والحزن جزء أصيل فيها، وأنّ الشوك لا يحرِم الوردةَ اسمها وجموحها واشتهاءها.
الحياة الجميلة لا تعني أنّها بلا مشكلات أو قلق أوهموم ومنغّصات وأوجاع وأمراض.
حدّدْ أولوياتك واصرفْ معظم طاقتك في حمايتها والوفاء لها والاستمتاع بها، هنا السرّ، وإذا "عرفتَ فَالْزَمْ".

اقرأ أيضاً: محمد يونس "مُقرض الأمل" الحالم بهزيمة الفقر وتمكين الإنسان
التحدي أنْ نتدرب على إدارة ذلك... على التعايش مع المفارقات والتناقضات، على التركيز على الجوهري وترك ما دونه، على الإصرار على رؤية الضوء في آخر النفق، وعلى إدراك أنّ مصاحبة من يأخذ بيدنا إلى ذاك الضوء هي مصاحبةٌ لا تُفدّر بثمن. هؤلاء أجملُ الأحباء والأصدقاء، وأروع الهدايا، وهم أثمن ما في الحياة والوجود. "نراهم فندرِك نعمةَ البصر"، كما قال القائل.
********************
ثمة أملٌ مخبّأ بأزرار الوردة، أملٌ يسيلُ من ابتسامة طفلٍ، أملٌ تضمه بين الأضلع زخّةُ مطرٍ شاهق الخيرات في غير موعده... أملٌ تختصره بركات الأمهات ودعواتهنّ وعطاياهنّ التي ترعى أحلامنا وتسقيها بالقبلات.

الأمل هو ما يجعل الأرض تصبر على طول اليباس وكثرة الشقوق؛ لأنّ ثمة مطراً آتياً ستذرفه ذاتَ شتاءٍ عيونُ الغيم. "الأوراق هي أمل الجذور، والأزهار أمل الأغصان، والبرعم أملُ الأفنان، والتغريد هو أمل العصفور، والهدير أمل المياه، والهمس أمل الرياح، والوردة أمل الجذع، والأخضر أمل الربيع، والرغيف أمل القمح"، كما يقول الفرنسيّ الرائع جاك لا كاريير.

يمكن التساهلُ بأيّ فَقْدٍ باستثناء فَقْد الأمل.

الأمل هو ما يجعل الأرض تصبر على طول اليباس؛ لأنّ ثمة مطراً آتياً ستذرفه ذاتَ شتاءٍ عيونُ الغيم

الأمل هو من أقنع الشمعة بإمكان هزيمة ظلام ثقيل الوطأة، طاعن العبوس. الأملُ هو منْ سوّلَ للوردة بأنّ عبقها وجمالها سيغلب شوكها ويواريه. الأمل هو من أسَرَّ للنعناع بأنّ كوب الشاي سيبدو أكثر عبقاً وألذّ مذاقاً لو شاركه لوعة المياه الساخنة.
إنّ الحياة تُعاش بأشكال وألوان لا تُعدّ ولا تُحصر، لكنها لا تعاش قطعاً دونما أمل...دونما انتظار وتلهّف واشتياق واشتهاء.
وحين لا تعودُ تستفزّك إشراقةُ الشمس أو سوادُ الكحل في مقلتي حبيبتك، ولا تعود تتملّى بلون القهوة الساكن في بؤبو عينيها، أو لا تعود تطرب للمشي تحت المطر معها... وحين لا يُثيرك رقصُ العصافير، ولا تنتشلك من موجة سأمٍ ضحكةُ طفلٍ باذخة البراءة... حينذاك يبدأ عمرك بالجزْر، وتُغادر الأحلامُ نومك مهما طعنتَ في السن أو بالغتَ في النوم!!
********************
كأنّ من يعيشون الحياة ببطء هم وحدهم من يَخرجون منها بذاكرة. هذا ما هجس به الروائي العالمي ميلان كونديرا في رائعته "البطء"، التي يؤكد فيها أنّ "درجة البطء تتناسب طردياً مع قوة الذاكرة، ودرجة السرعة تتناسب طردياً مع قوة النسيان". والأدهى ألاّ  تنال مجتمعاتنا العربية والإسلامية من السرعة الإنتاج والعمل والإنجاز، بل تنال منها النزق والقلق والسير على غير هدى.

اقرأ أيضاً: في الحرية تزهر وردة الأمل والعقل
المشكلة كما عبّر عنها الفيلسوف الفرنسي إدغار موران بشكل آخر، لكنه يتفق مع كونديرا في النهاية، هي في اعتبار تنمية الفرد تنمية كمية ومادية بالأساس، الأمر الذي يقود الميسورين إلى سباق محموم نحو "المزيد باستمرار"، بل وحتى إلى قلق الوجود داخل رغد العيش بالذات، وهذا المفهوم، برأي إدغار، مفهوم متدنٍ للتعبير عن الرفاهية فقط، بدلاً من التركيز على تعزيز العيش السعيد الذي يتضمّن في آن واحد الاستقلالية الفردية والاندماج مع الناس والتواصل معهم، دون نسيان أنّ التوازن يستدعي التأكيد بأنّه إلى جانب ضحايا الشراهة ثمة ضحايا كثيرون لِغمّ النقصان وغياب العدالة.

موران يحدد بعض مبادئ العيش السعيد عبر تأكيده أسبقية الكيف على الكم والوجود على المقتنى

ومع الإقرار بأنّ "كل ما لا يتجدد يتدهور"، فإنّ ذلك لا يسوّغ أنّ يكون الرخاء المادي هدفاً بدلاً من أن يكون الهدف هو السعي لتحقيق السلام الداخلي والامتلاء النفسي والانشراح النسبي والإيجابية والتلقائية. هذا الأمر يلفت الانتباه إلى أنّ أحد أشكال إصلاح الحياة الحديثة يتمثل في "أنسنة" المدن والحياة وعدم إفقار الأرياف والقرى وتهميشها، مثلما يتمثل في الثناء على البطء، والتوقف عن الجري وراء حياتنا بدلاً من عيشها بكل تفاصيلها وحقيقتها، وهي التي سنعيشها حين نتملى فيها ونحدّق أكثر في بؤبؤ عينيها وخمر رموشها.
هذه ليست دعوة ضد التقدم والحضارة وسهولة العيش، بل هي صرخة لأنْ يكون التقدم والحضارة في خدمة سعادة البشر، لا أنْ يكون البشر عبيداً لهذا التقدم. وينبّه أدغار موران إلى أنّ ذلك لا يعني أيضاً التضحية بملذات الاستهلاك لصالح حياة التقشّف والزهد والتقييد المستمر والصرامة والحرمان، بل على العكس من ذلك، فإنّ الاستهلاك الجيّد هو تعلّمُ اكتشاف مذاق الأشياء من جديد. ويوضّح موران أنه ينبغي في أقصى حدود الخلاعة والاحتفال أنْ يعقب ذلك مراقبة الذات؛ لأنّ الاعتدال يعطي للاحتفال معناه وعمقه ومضمونه، ويُكسبه الغنى والامتلاء. فالبهجة ليست نقيض الالتزام والوفاء والجدية، والنظرة ذات البعد الواحد دائماً قاصرة، وتلزمنا دوماً "النظرة المركّبة" و"منطق التسويات" و"الحلول الوسطى". والمثالية تهذّب مثلما أنّ الواقعية تجعل العيش محتملاً، والإيجابية تجعله قدر الإمكان احتمالاً بهيجاً.

اقرأ أيضاً: عندما يتوقف الدين عن منح الرّجاء والأمل
موران يحدد بعض مبادئ العيش السعيد عبر تأكيده أسبقية الكيف على الكم والوجود على المقتنى، وتلازم الاستقلالية الفردية مع التواصل مع الناس، إضافة إلى نشر صيغ مثل "الأكلة البطيئة" و"الزمن البطيء" و"السفر البطيء" و"المدينة البطيئة".
وربما كان الفيلسوف الصينيّ، لين يوتانج، يسير في هذا الاتجاه المادح للبطء العقلاني حين قال بصراحة جارحة:"أمر مؤلم أنْ يفقد رجلٌ في منتصف العمر المقدرة على التسكع والتبطّل في أوقاته، أما حين يفقد هذه المقدرة رجلٌ كبيرٌ في السنّ... فهذه جريمة"!.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية