زي رجال الدين.. المسافة بين الله والناس

الزي الإسلامي

زي رجال الدين.. المسافة بين الله والناس


22/11/2017

الزي، أو الملابس، أو ما يرتديه الإنسان فوق جسده، يرافق الإنسان منذ البدء كما تشير الديانات السماوية، التي تذكر في نصوصها قصة آدم وحواء وهبوطهما من الجنة إلى الأرض، ثم طلب الخالق أنْ يستر كلّ منهما عورته. ومن ناحيةٍ تاريخية، ارتدى الإنسان الملابس ليحمي نفسه من ظروف الطبيعة، ثم تطور ليتميز بلباسه، سواء كذكر أوأنثى، أو تعزيزاً لهوية عرقية أو جغرافيةٍ أو طائفية، أما زيّ رجال الدين، فله قصص مختلفة تتشابه في بعضها، وتختلف في أخرى.

كان لباس النبي محمد عليه السلام عادة قومه وليس تعبداً لله، فقد كانت ملابسه تُلبَس قبل البعثة وارتداها المسلمون والكفار

رغم تطور الزي البشري بشكل عام، واتجاهه ليشير إلى هوية فردية، ويستخدم في إظهار الجمال وآخر صيحات الموضة في اللباس والتعبير عن الأفكار الإنسانية الثقافية المعاصرة والتراث، ويشير إلى تميز مهني في وظائف وأعمالٍ مختلفة، إلا أنّ رجل الدين بالذات، احتفظ بزيّه الدالّ عليه، وبقي يشكّل حالة خاصة، جديرةً بالنظر إليها.
المسلمون الأوائل: بساطة ملابس مقتضى العادة
العرب قديماً، قبائل صحراوية الجغرافيا، دخلت في الإسلام، مبقيةً على ملابس أهلها البسيطة الخفيفة، المتناسبة مع الظروف الاقتصادية والبيئية الصعبة آنذاك، ويقول الشيخ أحمد الزومان في مقالةٍ له نشرت على موقع آفاق الشريعة بتاريخ 23 شباط (فبراير) 2014، إنّ لباس النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- كان "بمقتضى عادة قومه، وليس تعبداً لله، فهذه الملابس كانت تلبس قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولبسها المسلمون والكفار"، كما أنّ ملابسه كانت تشير إلى "النظافة والتواضع"، ولم تكن معنية بتبيان التقوى أو التديّن.
ويشير هذا، إلى عدم وجود "رجل دينٍ" بعينه في ذلك الوقت، فقد كان الرسول يمثل الإسلام بصفته النبي، وحوله المسلمون، إلى أن امتدّ الزمن وجاءت فترة الأمويين، التي تميزت بتحسنٍ اقتصادي، وانفتاح عربي وإسلامي على حضاراتٍ مختلفة، مما جعل المسلمين بصورةٍ طبيعية، يتميزون بما يرتدونه من ملابس، خصوصاً الخلفاء والعلماء، وهو ما تطور في العصر العباسي أكثر، فابتداء من حقبة الخليفة العباسي هارون الرشيد أخذ رجال الدين المسلمون يتميزون بثيابهم.


بداية تميز ملابس رجال الدين
وبتطور صناعة الملابس في نهاية الفترة المملوكية وأوائل الفترة العثمانية، أصبح لرجال الدين أزياء بسيطة وأخرى مزخرفة وباهظة، وكانت تلك الفترة، تتميز بارتداء رجال الدين المسلمين ما يميزهم عن غيرهم ممّن كانوا يسمّون كتابيين أو من طوائف دينية أو أعراقٍ أخرى.
ويميز رجال الدين المسلمين اليوم؛ عمامة الرأس، والثوب الفضفاض المسمى بالعباءة، والقميص؛ حيث يشكل الزيّ الأزهري، مثالاً على الشكل الذي آل إليه زي رجل الدين المسلم بسبب قدم الأزهر كجامع وجامعة؛ حيث تأسس منذ العام 970 ميلادية، ليصبح من أشهر جوامع العالم الإسلامي، وقِبلة لدارسي علوم الدين، ويتميز الزي الأزهري بتأثره بالفترة العثمانية، فيتكون من جلباب "عباءة سميكة كالمعطف"، ويرتدى تحته جلباباً أقل سمكاً بلونٍ أبيض، أما على الرأس، فتوضع عمامة بيضاء، تلتفّ حول طربوشٍ أحمر "من الفترة العثمانية".

ويعدّ الزي الأزهري في مصر تحديداً، رمزاً للوجاهة الاجتماعية والمكانتين العلمية والدينية، كما يرى فيه البعض إشارةً إلى مهادنة مرتديه للسلطة، واتفاقٍ معها، بسبب رسوخ الأزهر كمؤسسةٍ عريقة في مصر، وشهادتها على عدة فتراتٍ سياسية واجتماعية مختلفة، كان فيها زي رجل الدين الأزهري، يشير إلى رجل معتدل عموماً، يتميز بمعارفه الدينية، ولكنه لا يتدخل في السياسة.

هذا الرأي، قاد بعض أصحاب الفرق الإسلامية الأخرى، كالسلفيين، من أن يتميزوا هم أيضاً بارتداء ملابسهم، لتدلّ على تقواهم الخاصة البعيدة عن الولاء لأي جهة رسمية كما يصورون؛ حيث يختلفون بإطالة اللحية أكثر مما هو طبيعي، كمظهرٍ خاص، ويرتدون جلباباً داكن اللون في العادة، قصيراً في معظم الأحيان، ودون معطفٍ فوقه، أما غطاء الرأس، فعمامة بيضاء مربوطة، دون أي زخرفة أو إضافات.
ولعلّ مبدأ التقشف والبساطة في الثياب، يشير إلى ما كان عامة المسلمين يرتدونه في وقت ما من تاريخهم، ولم يكن من يرتديه مميزاً كرجل دين، إلا في أيامنا هذه، ليبدو كأنّ صاحبه يشير إلى فترةٍ زمنية معينة، أصيلة، وتحيطها هالة من القداسة، تشير إلى أنّه أكثر حقاً أو قريباً من الله من باقي الناس، رغم إصرار شيوخ إسلاميين عديدين، أنّه لا يوجد في الإسلام رجل دين، ورجل دنيا.

المسلمون الشيعة: سواد المظلومية
عديدٌ من علماء الدين الشيعة، ينطلقون أيضاً من حيث انتهى علماء الدين السنة، من أنّه لا يوجد رجل دين ورجل دنيا، وهم يقولون ذلك في بعض منابرهم، فيما يرتدون في الوقت نفسه الملابس التي تميزهم عن غيرهم من باقي الرجال. ويشيرون إلى أنّ لا فرق بين ما يرتدونه من ملابس، وبين ما كان يرتديه عامة المسلمين في زمن رسول الله.
أما عمامتهم السوداء، فهي تلك التي تشير برأيهم إلى علماء الدين وطلابه في حوزاتهم العلمية، ممن ينتسبون إلى الإمام علي بن أبي طالب، لكن بعض علماء الدين السنيين، يرون فيها عادةً لم يشر إليها نص ديني صريح، وإنّها ربما، تندرج في إطار التفريق بين المذاهب، وتمييزها باختلاف ما يرتديه رجال الدين الذي ينتمون لمذهب او طائفة معينة. بينما يقول الشيخ الشيعي علي آل محسن في موقعه الإلكتروني إنّ "هنالك ارتباطاً بين ارتداء أهل البيت للسواد في مصائبهم، وارتداء الشيعة له كتقليد، ومنهم رجال الدين"، إضافة إلى أنّ محسن يعتبر أنّ هنالك أحاديث عن أهل السنة "تشير إلى حب الرسول لارتداء السواد"، بحسب رأيه.

غير أن كتاباً يحمل عنوان: "تراجيديا كربلاء" لمؤلفه إبراهيم الحيدري، وصادر عن دار الساقي العام 2015، يشير إلى أنّ السواد ارتبط لدى الشيعة منذ مقتل الحسين بفكرة "جلد الذات"، وبقي رجال الدين يمثلونه بهيئتهم الحالية.
كما يرتدي العلماء الشيعة غير المنتمين إلى نسب علي بن أبي طالب عمامة بيضاء، وقميصاً أبيض تغطيه عباءةٌ سوداء أو داكنة على العموم.
رسائل دينية بطلّات معاصرة
وفي أيامنا هذه، وباختلاط الأحداث الثقافية والاجتماعية والسياسية، ووجودها ممثلةً في الواقع اليومي ووسائل الإعلام وعلى عالم مواقع التواصل، نجد رجال الدين وعلماءه، من منابرهم في المساجد، والمؤسسات الدينية، والمنابر الرقمية أياً كانت، يطلون وهم ما يزالون يحملون في ثيابهم رموزاً مختلفة، تشير إلى مذهب أو طائفةٍ دينية معينة، وتستخدم أحياناً في تمرير رسالة لهذه الطائفة أو غيرها، سواء كانت الرسالة دينية أم سياسية أم ثقافية.

السواد ارتبط لدى الشيعة منذ مقتل الحسين بفكرة "جلد الذات"، وبقي رجال الدين يمثلونه بهيئتهم الحالية

ولعل دولاً مثل دول الخليج العربي، نرى فيها رجال الدين وعلماءه لا يكادون يتميزون بزيّ محدد لرجل الدين يجعله مختلفاً عن باقي الناس، وخصوصاً في ارتداء العمامة، ويرجع ذلك ربما إلى طبيعة المناخ والعادات الأقرب إلى البساطة والتقشف، رغم تطور صناعة الملابس وتنوعها.
وبصورة عامة، فالعمامة، على سبيل المثال، اتّخذت في العصور السابقة رموزاً مختلفة فدلّت على الثراء أو هوية معينة، لكن المهم في وجودها ضمن ما يميز رجل الدين من زيّ اليوم، هو وظيفة هذا الزيّ ودلالته بالنسبة إلى المجتمع، وطريقة استغلاله بمعانٍ إيجابية أو سلبية، حتى إنّ حركاتٍ دينية معتدلة كالمتصوفة، وأخرى متشددة، اتّخذت كلّ منها اتجاهاً مميزاً في ارتداء ملابس معينة تضفي عليها نوعاً من الاختلاف.
واليوم، العالم يزهو بألوانه وملابسه وصيحات الموضة والثياب التراثية والأخرى الحداثية، ويمكن بسهولةٍ، وفي أي مكان مزدحم بالحياة مثلاً، الإشارة إلى رجل الدين بما يميزه من ملابس؛ إذ من المستحيل أن يضيع بين كل هذا التنوع، على ألا يكون تميزه يهدف إلى دوافع متصلبة ربما، وليست مجرد حالة نورانية رمزية.

الصفحة الرئيسية