كتاب "المدينة الوحيدة": هل المتطرفون الفرديون يعكسون أزمة الشعور بالوحدة؟

كتاب "المدينة الوحيدة": هل المتطرفون الفرديون يعكسون أزمة الشعور بالوحدة؟


24/05/2021

يتتبع كتاب "المدينة الوحيدة: مغامرات في فن البقاء وحيداً"، تأليف أوليفيا لاينغ، ترجمة محمد الضبع (2017)، حالات الشعور بالوحدة، ورغم أنّ الكتاب يتناول الظاهرة، بشكل عام، وليس مشغولاً بالمتطرفين، لكنّه يصلح لتحليل ظاهرة المتطرفين المتوحدين؛ بل وحالات أخرى من النزعة إلى التطرف؛ إذ تؤكد كثير من الروايات والتقارير عن المتطرفين المشهورين، أنّهم كانوا يشعرون بالوحدة والعزلة، وكانت هذه العزلة تفرض عليهم أحياناً، بسبب اختلافهم أو عدم قدرتهم على الاندماج في المجتمع المحيط، لكن يجب أن نلاحظ أيضاً أنّ العزلة، أو الشعور بالوحدة، قد تكون مستمدة من سمات إيجابية أو نزعة إلى الفردية، والتي قد تكون في كثير من الأحيان فضيلة أو ضرورة لأجل العمل والإنجاز، وفي أحيان يكتسبها الإنسان بسبب طبيعة عمله، وهنا يمكن أن تكون مصدر قلق وتطرف؛ لأنّها تجعل صاحبها يشعر بالكراهية للمجتمع، و/أو السلطة السياسية، لاعتقاده أنّها عاقبته، وأنّه مظلوم!

لقد صعدت قضية الوحدة والشعور بالوحدة في عدة اتجاهات؛ باعتبارها أزمة اجتماعية يجب التصدي لها ومعالجتها، وفي أحيان أخرى باعتبارها فضيلة إيجابية، أو ضريبة لعصر الصناعة والعمل المتواصل المكثف الذي يعزل الإنسان المعاصر عن بيئته الاجتماعية، ويفصله عن أقاربه وأصدقائه، كما صعدت أيضاً بالنظر إليها أحد مؤشرات فهم وتتبع التطرف والكراهية.

غلاف الكتاب

تلاحظ أوليفيا لاينغ، مؤلفة الكتاب، أنّ موضوع الوحدة شغل كتّاب الأغاني أكثر من علماء الاجتماع والنفس، وتسرد على نحو مؤثر سير عدد من قادة الفنّ والثقافة، أمضوا حياتهم وحيدين على نحو مريع، ومن هؤلاء: آندي وارهول، مؤسس مجلة "إنتر فيو"؛ الذي قتل عام 1987، وكان قد تعرض لإطلاق نار عام 1968، على يد فاليري سولاناس، التي تمثل أيضاً حالة متطرفة للشعور بالوحدة والتهميش، وكانت قد نشرت، قبل ذلك بعام، كتابها "بيان الحثالة"، وكانت في حياتها وسيرتها مثالاً صارخاً ومحزناً للموهبة والتمرد، اللذين يقتلهما التهميش والوحدة، وكانت حادثة اغتيال وارهول المحور الرئيسي لفيلم "I Shot Andy Warhol"، في عام 1996، وكذلك أغنية لو ريد "I Believe"، عام 1990. يقول وارهول: (س) هو أيّ أحد يساعدني على تمضية الوقت، (س) هو أي أحد، وأنا لا أحد.

تؤكد كثير من الروايات والتقارير عن المتطرفين المشهورين، أنّهم كانوا يشعرون بالوحدة والعزلة

لكن الوحدة أكبر بكثير من أزمة لفنانين ومثقفين أو فقراء ومهمشين، إنّها قضية متصلة بوجودنا وشعورنا بهذا الوجود وتقييمنا له أيضاً، الوحدة مكان مميز جداً، كما في أغنية دينيس ويلسون في ألبومه "pacifif ocean blue"، وقد منحت الشبكية معنى جديداً للوحدة، إنّها قدرتك على أن تكون كما يجب، و/ أو تحب، أن تكون بلا مساعدة أو وصاية من أحد أو مؤسسة، إنّك الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه، ويداوي نفسه بنفسه، ويعلم نفسه بنفسه، وأنت في الأصل وحيد؛ تولد وحيداً، وتفكر وحيداً، وتؤمن أو لا تؤمن وحيداً، وتنسى و/ أو تتذكر وحيداً، وتتألم و/ أو تستمتع وحيداً، وتجوع وتشبع وحيداً، وتموت وحيداً، وتلاقي الله وحيداً!

وقد تكون وحيداً وأنت بين الجموع، مثلما أنك وحيد وأنت تعيش وحدك، ويبدو القناع في الحفلات التنكرية استعادة لهذه الوحدة، حرية شخصية بلا حدود في السلوك والتصرف، وفي ذلك؛ فإنّ النقاب يمثل ضرورات وحاجات شخصية مهمة، لكن مؤكد أنّ النقاب كما القناع يمثل اعتداء على الفضاء العام، اعتداء المتوحد على شؤون الناس، بدلاً من انزوائه بعيداً عنهم، ولذلك منحت الحضارة فرصاً ومناسبات محدودة، ومحددة، في أعياد الهالوين، وبعض الحفلات التنكرية، لأن تكون وحيداً، وتتصرف كما لو أنّك وحيد.

كيف لا تكون وحيداً عندما تكون مع الناس؟ لعلّها أيضاً أزمة المتطرفين والذئاب المتوحدة، وربما تفسّر انشغالنا النرجسي بشبكات التواصل، إنّه انشغال يعكس الشعور العميق بالوحدة، تقول أوليفيا لاينغ: كم سأكون ضائعة ووحيدة دون الموبايل. لكن وعلى نحو ما فإن هؤلاء المتوحدين (ويشمل ذلك المتطرفين والقتلة والمعتدين) "هم" من يمنحون "نا" التضامن لمواجهة "الأعداء"، الذين من دونهم سوف نواجه التشتت والضياع! تقول لاينغ: "ما يحافظ على المدينة الكبيرة المتروبولية، ويجعلها متماسكة من الداخل، هم جماعات من المهمشين والغرباء والمتشردين في تفاعلاتهم، وعلاقاتهم الديمقراطية، وحاجاتهم الملحة للألفة والحنان"، وربّما يكون المتطرفون والإرهابيون، سواء أكانوا متوحدين، أو جماعات يعبّرون في حربهم على العالم برغبتهم في الانتماء والمشاركة، وأن يكونوا جزءاً من هذا العالم، يتقبلهم ويتقبلونه!

العزلة قد تكون مستمدة من سمات إيجابية أو نزعة للفردية التي تكون في كثير من الأحيان فضيلة

تقول لاينغ: لا أؤمن بأنّ علاج الوحدة في العثور على حبيب، ليس بالضرورة، أعتقد أنّه يتعلق بأمرين: تعلم الطريقة التي يمكنك بها أن تكون صديقاً لنفسك، وفهمك أنّ العديد من الأشياء التي تبدو كأنّها ابتلاءات تعرضنا لها نحن كأفراد، هي في الحقيقة نتيجة لقوى اجتماعية وسياسية أكبر منا، تتعمد فرض الشعور بالعار والإقصاء، والتي تمكن وتجب مقاومتها. الوحدة تجربة شخصية، لكنّها أيضاً تجربة سياسية؛ إنّها مدينة.

بإمكانك أن تكون وحيداً في أيّ مكان، لكن هناك نكهة خاصة للوحدة التي تعيشها في مدينة، وأنت محاط بالملايين من البشر، قد يعتقد البعض أنّ هذه الحالة مناقضة لأسلوب الحياة في المدينة للحضور البشري الهائل من حولك، لكن القرب المادي وحده لا يكفي لتبديد الشعور الداخلي بالعزلة؛ إذ يمكن أن تشعر أنّك بائس ومهجور وأنت محاط بالآخرين، بإمكان المدن أن تتحول إلى أماكن وحيدة، وبذلك فإن الشعور بالوحدة لا يقتضي الانعزال الجسدي؛ بل يقتضي غياب أو ندرة العلاقة، القرب، العطف، إنّ الشعور بالوحدة يأتي من عدم القدرة على العثور على الألفة، ومن الطبيعي أن تصل هذه التعاسة إلى أقصاها، حين تكون محاطاً بالجموع، دون أن يرافقك أحد. من الصعب الاعتراف بالشعور بالوحدة، ومن الصعب تصنيفه أيضاً، كالاكتئاب مثلاً؛ لأنّه صفة بإمكانها أن تكون غائرة في طبيعة إنسان ما.

تعرض أوليفيا لاينغ قصة صادمة ومشهورة جداً في الوسط الثقافي والفني؛ حارس المستشفى والفنان الغريب هنري دارجر، كان يعيش وحيداً في مأوى في شيكاغو، في انعدام شبه كامل لأيّة رفقة أو جمهور، كان وحده في كون خيالي بالكائنات المخيفة والرائعة، وعندما تخلّى عن غرفته دون رغبة منه في سنّ الثمانينيات ليموت، اكتشفت مئات اللوحات الفنية المخبأة في غرفته، التي لم يسبق له أن عرضها على أيّ إنسان من قبل، كما وجدت لديه مخطوطة لرواية هائلة وجميلة، وقد نشرت الرواية بعد وفاته وحوِّلت إلى فيلم، كما نقلت لوحاته إلى المعارض الفنية، لكن الصدمة أنّ أحداً لم يكن يعرف عن دارجر اهتماماً، فضلاً عن الانشغال بالفنّ والثقافة، لم يكن لكلّ من يعرفه سوى عامل نظافة في مستشفى، ظلّ في عمله هذا أكثر من ستين عاماً، وقد خمّن بعض المحللين الذين درسوا لوحاته وروايته، أنّه قد يكون مهووساً ومستعداً للقتل، أو الاغتصاب، لكن يرجح أنّ دارجر لم يرتكب شيئاً من ذلك.

الوحدة أكبر بكثير من أزمة لفنانين ومثقفين أو فقراء ومهمشين إنّها قضية متصلة بوجودنا وشعورنا بهذا الوجود

كيف يمكنك أن تصف الشعور بالوحدة؟ إنّه شعور مخجل ومخيف، أشبه بكونك جائعاً بينما كلّ من حولك يستعد لتناول وليمة، ومع الوقت يبدأ هذا الشعور بالإشعاع ليجعل صاحبه أكثر عزلة وأكثر غربة، إنّه شعور مؤلم، بالطريقة التي تؤلمنا بها المشاعر، وله أيضاً عواقب جسدية لا يمكننا رؤيتها، داخل الجسد المغلق، ويتطور هذا الشعور ليصبح بارداً كالثلج، وصافياً كالزجاج، ليتضمنك ويجتاحك. لكن، وأيضاً، فإنّ الوحدة ليست تجربة عديمة الفائدة، إنّها تمثل اللبّ داخل ما نقدّره، وما نحتاج إليه كبشر.

القاموس؛ ذلك القاضي البارد، يعرّف كلمة وحيد على أنّها الشعور السلبي الذي يتزايد بسبب العزلة، المحتوى العاطفي هو ما يميز هذه الكلمة من كلمات أخرى، مثل: بمفرده، وحده، أو منفرد، مكتئب بسبب رغبة، أو رفقة، أو مجتمع، حزين بسبب أنّه وحيد، لكنّ الوحدة لا تقتضي دائماً انعدام الرفقة، وهذا ما يسميه علماء النفس "العزلة الاجتماعية"، أو "الحرمان الاجتماعي"، ليس جميع الأشخاص الذين يعيشون حياتهم دون رفقة وحيدين، وفي الوقت نفسه يمكن أن تشعر بالوحدة وأنت في علاقة، أو بين أصدقائك، وكما كتب أبكتيتوس، قبل ألفي عام: "كون المرء وحده لا يجعله وحيداً، كما أنّ وجوده بين الجموع لا ينفي عنه بالضرورة صفة الوحدة".

عرّف المحلل النفسي، هاري ستاك سوليفان، الوحدة "التجربة البغيضة والمتزايدة والمرتبطة؛ بالحاجة غير المشبعة للألفة الإنسانية"، وقد يعمل الزواج، أو الدخل المرتفع، على الحدّ من الشعور بالوحدة، لكنّ الحقيقة أنّ القليل جداً منا لديهم مناعة كاملة من الشعور بشوق أكبر لاتصال إنساني، لا نتمكن من إشباعه أبداً، الوحيدون في العالم، مئات الملايين، لا غرابة أبداً في أنّ لوحات إدوارد هوبر عن الوحدة مشهورة، ومؤثرة ومواسية لنا، ويعاد إنتاجها حتى اليوم.

تقول المؤلفة لاينغ عن نفسها: أغلب ما كان يجعلني أشعر بالوحدة هو اللغة، لحاجتي للتواصل، للفهم ولشرح ذاتي عبر وسيلة الكلام، في مكان ما من جسدي هنالك نظام لقياس الخطر، والآن بأبسط فعل تواصل أتعرّض له، يجعلني أتوخّى الحذر، وأترقب أيّ تهديد محتمل، أصبحت معتادة على افتراض سماع نبرة الرفض من الجميع، وبلا شكّ، فإنّه كان من السخف أنني كنت حساسة لهذه الدرجة، لكن كان هناك شيء مؤلم يتعلق باللحظة التي أتحدث فيها ليُساء فهمي، أو ليتمّ الحكم عليَّ بأنني غبية، شيء تمكّن من النفوذ إلى جميع مخاوفي من الوحدة.

المدينة الوحيدة، مغامرات في فنّ البقاء وحيداً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية