كيف يتحرر التاريخ من الشرّ؟

كيف يتحرر التاريخ من الشرّ؟

كيف يتحرر التاريخ من الشرّ؟


27/03/2024

إذا كان الإنسان في حقيقته ذئباً لأخيه الإنسان، كما قال هوبز، فإنّ العيش بين البشر أمر مستحيل دون لجم الذئبية فيهم، والتي ترتدي أشكالاً متعددة من العنف .
وحتى يكون السلْم والصلح بين الناس ممكناً، فقد صاغ البشر جملة من القيم المشتركة، صارت مع الأيام جملة من المعايير يتوجب الالتزام بها .

الاستسلام لاستمرار الشرّ الواقعي أمر يمنح الشرّ القدرة على إفساد الحياة المجتمعية والبشرية

فقيم المحبة والإيثار والتعاطف والسلم والأمان والتعاون والصدق والوفاء وما شابهها، فضلاً عن ذم الكذب والخداع والقتل وكل أنواع الإيذاء، كل هذا من أجل الحد من الذئبية. ولقد اشترك في صياغة هذه القيم بأحكام واضحة حكماء ما قبل الميلاد والفلاسفة والأنبياء، وصيغ بعضها في جملة قوانين ملزمة للسلوك.
لكنّ البشرية لم تبرأ من الذئبية ومظاهرها، فما تزال الحروب منذ نشأة المجتمعات حتى الآن مستمرة، سواء أكانت حروباً أهلية أو حروباً بين الدول، وأيضاً الصراعات على الثروة لم تنته؛ بل أُضيفت إليها الصراعات الناتجة عن المعتقدات والأيديولوجيات النافية لبعضها، وفي الحقيقة؛ إنّ القوة والمصلحة ونزعة الهيمنة والتسلط ما تزال أكثر التعبيرات عن الذئبية البشرية، سواء تعينت هذه الذئبية في سياسات الدول أو في جماعات عنفية، أو في أنظمة مستبدة حاكمة.

اقرأ أيضاً: الاستقامتان العقلية والأخلاقية إذ تصدران عن ضمير حي

وفي الواقع؛ إنّ الاستسلام لاستمرار الشرّ الواقعي، بكلّ صوره الواقعية والممكنة، أمر يمنح الشرّ القدرة على إفساد الحياة المجتمعية والبشرية، ولا حاجة هنا إلى ضرب الأمثال عن حضور الشرّ في عالمنا؛ قديمه وحاضره؛ فمجرّد التأمل في حال عالمنا المعاصر، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، يخلق من الدهشة ما لم يخطر على بال؛ فشرقنا العربي غارق في محنة الاقتتال الذي يرتدي ثوباً مذهبياً، ومن النادر أن يوجد مكان في العالم لم يشهد حالات عنف أيديولوجي أو قومي أو ديني.
الاستسلام لهذا الشرّ لا يليق بالعقل الإنساني؛ لهذا فإنّ العقل مستمر في خوض معركة البحث عن المشترك الإنساني، عن القيم المشتركة، والدفاع عنها، والسعي إلى أن تتحول إلى نمط حياة للبشرية، وإذا كانت الأهداف الكبرى ذات الطابع الإنسانوي بطيئة التحقق وصعبة؛ فإنّ هذا يجب ألّا ينتج تشاؤماً لدى النخبة والفاعلين الاجتماعيين؛ بل على العكس، يجب أن نوطن الإرادة الخيرة على عدم اليأس والقنوط.

اقرأ أيضاً: النخبة الروحية وشهوة الحضور
والسؤال الحقيقي الذي مايزال حاضراً: كيف تأتى أن تصبح الأيديولوجيات، بما هي نتاج العقل، أساساً لتحطيم القيم المشتركة بين الناس؟ وقس على ذلك، كيف صار الدين الممتلئ بالقيم الخيرة أساساً للصراعات بين المختلفين؟
لا شكّ في أنّ الجواب عن هذا السؤال سهل جداً عند أهل العقل؛ الصراع على الثروة والرغبة في الهيمنة يقفان وراء ما نراه من شرّ، غير أنّ هذا الجواب لا يقول لنا شيئاً عن الخطاب الذي يقف وراء هذا الشرّ؛ فخطاب القتل أخطر من القتل نفسه.
من هنا تبرز أهمية تأسيس خطاب تاريخي متجاوز للخطابات المؤسسة للوعي الزائف بالحياة، خطاب يصوغ المشترك الإنساني على نحو يكون فيه قادراً على خلق نزوع إنسانوي نحو التعايش، بلا خطاب يبرر العنف والقتل والهيمنة والحروب .
ينطوي الخطاب المؤجج للحروب على سرديات تاريخية تجعل منها ومن نتائجها مصدر عزة قومية، وكتب التاريخ المدرسية مليئة بهذه السرديات.
في المقابل؛ ينطوي التاريخ على وقائع كثيرة تدل على جهود البشر في الوصول إلى التعايش السلمي؛ فالبشرية لا تستطيع العيش انطلاقاً من انفجار الذئبية؛ بل إنّ الحروب، سواء كانت حروباً أهلية أم حروباً بين دول، غالباً ما انتهت بأشكال من الموافقات التي اصطلح على تسميتها "الدساتير" و"المعاهدات" .

ينطوي الخطاب المؤجج للحروب على سرديات تاريخية تجعل منها ومن نتائجها مصدر عزة قومية

وبالتأكيد، إنّ هناك أمثلة لا تحصى في التاريخ عن استعادة السلم بعد الحرب، وتضرب العلاقة الفيتنامية-الأمريكية أكبر مثال على ذلك، ولسنا في وارد العودة إلى أسباب هذه الحرب ومساراتها؛ بل يكفي القول إنّها استمرت لفترة من الزمن، وخلّفت من القتل و الدمار في فيتنام ما لم تخلفه أيّة حرب في تاريخ الفيتناميين؛ حيث فقد الفيتناميون بين ثلاثة إلى أربعة ملايين قتيل، وأحرقت مساحات شاسعة من الغابات باستخدام الأسلحة الكيمائية، فضلاً عن الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، والمآسي التي نتجت بعد الحرب عن الفقر والفقد، وأيضاً مقتل ما يقرب من ستين ألف جندي أمريكي.
واليوم؛ نشهد علاقة تحالف أمريكي -فيتنامي، ورفع الحظر عن تصدير الأسلحة الفتاكة عن فيتنام، وعلاقات اقتصادية ذات منفعة متبادلة؛ فقد زار أوباما فيتنام لوضع اللمسات الأخيرة على المصالحة التاريخية، وفي العام الماضي؛ رست أكبر حاملة طائرات أمريكية على السواحل الفيتنامية، وقيل إنّ ذلك كله يأتي من مصلحة مشتركة تجاه الصين، وبمعزل عن الأسباب التي دعت إلى المصالحة الفيتنامية-الأمريكية، فإنها مصالحة جاءت بعد سيول من الدماء وركام من الدمار.
وقد أثبتت بين أمريكا وفيتنام؛ أنّ التحرر من الماضي الذي يبعث على التعصب شرط لتحرير التاريخ من الشرّ.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية