الحزب الشيوعي السوداني: تاريخ الرفاق المجيد وحاضرهم المأزوم

الأحزاب العربية

الحزب الشيوعي السوداني: تاريخ الرفاق المجيد وحاضرهم المأزوم


18/06/2019

تأسس الحزب الشيوعي السوداني بأم درمان في أواخر أربعينيات القرن الماضي من لفيف من المتعلمين السودانيين الذين قرروا تكوين "الجبهة السودانية للتحرر الوطني"، والتي كانت امتداداً للمنظمة الشيوعية المصرية الشهيرة "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" وقد سبق أن تكونت خلايا شيوعية من قِبل بعض الطلاب السودانيين الذين التحقوا بمدارس وجامعات مصر، واستطاعت مجلة "أم درمان" التي أصدرتها جماعة من الماركسيين السودانيين أن تجذب اهتمام آلاف الطلاب السودانيين المقيمين بالقاهرة، ولدى عودة هؤلاء الطلاب إلى الوطن استأنفوا نشاطهم السياسي على أرضية شيوعية.

انضم محجوب للحركة الشيوعية أثناء دراسته بمصر وأسس الحزب الشيوعي لدى عودته السودان

لبنات مصرية في بناء سوداني
هكذا كانت مصر تاريخياً هي البوابة الرئيسية التي فتحت مدارك السودانيين على الحركة الشيوعية، ويرى محمد محمود في كتابه "الحزب الشيوعي السوداني 1946_1971" أنّ تراث الحركة الشيوعية السودانية، بل وتراث اليسار السوداني عامة بمدارسه الأخرى، هو تراث شرق أوسطي، بمعنى أنّ ما حدث في مصر خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام، لعب الدور الحاسم في تكوين الهويات الأيديولوجية المحددة لقوى اليسار السوداني وخاصة الحزب الشيوعي.

اقرأ أيضاً: الحزب الشيوعي السوري.. حين ضيّعنا "السوفييت"
ومع ذلك، وعلى الرغم من التأثير المصري، تعود البذور الأولى للحركة الشيوعية إلى عشرينيات القرن الماضي؛ ممثلةً في حركة "اللواء الأبيض" والتي عبّرت عن إرهاصات الحس الوطني السوداني وحركته، وكذلك الحلقات الدراسية للاشتراكية التي أضحت على معرفة تامة بمؤلفات ماركس وغيره من الكتاب الاشتراكيين.

تأسس الشيوعي السوداني كتطوير للجبهة السودانية للتحرر الوطني التي كانت امتداداً للمنظمة الشيوعية المصرية الشهيرة "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني"

وبالتالي نشأ الحزب الشيوعي السوداني في خضم حركة تحرر وطني قائمة بالفعل؛ ويؤرخ عبد الخالق محجوب (مؤسس الحزب) لنشوء التنظيم الشيوعي بتأسيس الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) أول عام 1946 كفصيل مستقلٍ عن الحركة المصرية (حدتو)، والاثنتان خرجتا إلى الوجود وهما تحملان سمت المرحلة؛ أي برنامج للتحرر من الاستعمار كأولوية سياسية وتنظيمية، وبذلك اتخذتا الاسم الذي يطابق البرنامج.
وعلى هذا النحو كان ميلاد الحزب الشيوعي بمثابة تطور طبيعي ومنطقي للفكر والواقع السودانيين، مثلما كانت الحركة السودانية للتحرر الوطني تعبر عن حاجة ماسة فرضتها ظروف موضوعية مرت بها البلاد.
وقد عاش جيل الرواد الوطني الأوائل أنواعاً من التضييق في القول والعمل، وكذلك عاشوا صوراً من الحرمان من الوظائف العامة التي كانت حِكراً على الأجانب، كما حُجبت عنهم حرية التنظيم والتعبير، حتى من الناحية الاجتماعية (كانت أخلاقية هذا الجيل لا تحلم بالخروج عن طاعة الجيل الوالد ناهيك عن مواجهته)؛ فالتعليم الذي تلقوه والدور الذي رسم لهم لم يؤهلهم لقيادة ثورة اجتماعية، كما وضح ذلك محمد المكي إبراهيم في كتابه "الفكر السوداني أصوله وتطوره".

اقرأ أيضاً: ملحمة الحزب الشيوعي العراقي .. بدم الرفاق لا راية الثورة
وينحو المفكر السوداني، محمد أبو القاسم حاج حمد، منحى قريباً لما ذهب إليه محمد المكي إبراهيم؛ إذ يرى أنّ "نصيب المثقف السوداني أن ينشأ في ظل أكثر العقليات بروداً على مستوى الإبداع الفكري والممارسة العملية، فالتجربة الإنجليزية يمكن أن تعطينا إدارياً ناجحاً أو اقتصادياً حقيقياً أو سياسياً بارعاً ولكنها لا تعطينا قط مثقفاً حقيقياً يكمن داخل الإداري والسياسي والاقتصادي ويقود وعيهم إلى ما هو أعمق في جدلية التكوين والاتجاه"(1).
تهشيم الطائفة
في العشرينيات، استطاعت مجموعة من المثقفين، ومنهم علي عبد اللطيف، أن يربطوا قضاياهم الحياتية بقضايا "الطبقة الحليف" (الطائفة) ويظهر ذلك في مقالة نارية له ١٩٢١، مُنعت من النشر، تحدث فيها عن ضرورة التوسع في التعليم ونزع احتكار السكر من الحكومة ووضعه بيد التجار، وإسناد بعض الوظائف للسودانيين، كما أصدر عبد اللطيف وزملاؤه نشرة سموها "مطالب الأمة" عام ١٩٢٢ تكررت فيها المطالب السابقة مع إضافة تتعلق بشؤون المزارعين والضرائب.

تمسك الحزب بموقفه النضالي ضد الطائفية وظل خصماً شرساً للإسلام السياسي حتى اليوم

وتحت تأثير التجربة الثورية الفاشلة عام ١٩٢٤ أصبح الكيان الأقوى سلطة في المجتمع على الإطلاق هو "الطائفة"؛ فبصورة عجيبة عُقد حِلف بين الطبقة المثقفة والسلطات الطائفية؛ فالتف كل فريق من المتعلمين حول واحد من القادة الروحيين بالبلاد؛ يستمدون منه العون المادي والأدبي ويجمعون الجماهير باسم ذلك الزعيم ونيابةً عنه، وبهذه الصورة كانت الأحزاب السودانية في البداية خالية من أي مضمون طبقي أو اجتماعي؛ فالطبقة الواحدة تقتتل وتتنازع لا باسم مصالحها ولا باسم مستقبلها وإنما باسم ولائها الطائفي وتبعيتها الروحية.
وإذا كان من السهل الآن أن نلاحظ مظاهر التكوين الطبقي للأحزاب، فإنّ ذلك مرده إلى التطورات الأخيرة في الوضع السياسي، وليس أمراً مكتسباً من الطبيعة الأصلية لتلك الأحزاب (2).
فقد نشأت مجموعات متمردة على الولاء الطائفي، وساهم إتقانها للإنجليزية في فتح أعينهم على الاشتراكية، وقدمت هذه المجموعات كلاسيكيات الماركسية باللغة العربية، وجذبت عدداً من المثقفين الوطنيين والعمال لصفوفها، وارتبطت بالحركة التحرر الوطني منذ نشأتها.
ومن هنا تمسّك المثقفون بموقفهم النضالي ضد الطائفية التي أرادت لهم أن يحرقوا أنفسهم بخوراً لزعيمي الطائفتين "الأنصار/الختمية" وصاغوا بديلاً سياسياً عبرت عنه طريق مجلتا (الفجر) و(النهضة) ومدرسة جمعية "ود مدني" الأدبية، وبالتالي أثبتوا قدرتهم كمثقفين على مواصلة الطريق المستقل لتطورهم الفكري والسياسي.

اقرأ أيضاً: اليسار والدين في السودان: الحزب الشيوعي السوداني أنموذجاً
في هذا الإطار يمكن أن نعي قيمة مبادرات الحزب الشيوعي الساعية إلى الحفاظ على ذلك الطريق؛ فقد سمى الحزب أول صحيفة جماهيرية له صدرت عام ١٩٥٠ "اللواء الأحمر" وكانت أول صحيفة فكرية له تحت مسمى "الفجر الجديد" وفي الحالتين كان ذلك تعبيراً يدل على أنه امتداد "للواء الأبيض" شعار ثوار ١٩٢٤ ومجلة "الفجر" التي أصدرها عرفات محمد عبد الله ١٩٣٢.
وعندما تأسست الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) كان الشعاران المطروحان في الساحة السياسية هما: "وحدة وادي النيل تحت التاج المصري" و"السودان للسودانيين تحت التاج البريطاني"؛ فتوصلت الحركة السودانية، وفي القلب منها اليسار السوداني، إلى الشعار البديل المناسب وهو جلاء الاستعمار عن السودان ومصر وحق تقرير المصير للشعب السوداني.
ولخصت الحركة الوطنية رؤيتها في أربعة أهداف أساسية تتمثل في:
1- حق السودان في تقرير مصيره، ونشر الوعي الوطني الذي أشعله مؤتمر الخريجين بين كل قطاعات السودانيين.
2-  إنشاء منظمة سياسية تضم كل طبقات السودانيين مع تركيزها على العمال والمزارعين بوصفهم عماد الحركة الوطنية
3-  الإعداد لثورة اشتراكية، مع مراعاة أنّ هذا الهدف هدف بعيد المدى
4-  مجهود الحركة وعملها يجب أن يتركز على الأهداف الثلاثة الأولى.

اقرأ أيضاً: ما دور المصريين المسيحيين في تأسيس الحركة الشيوعية؟
وعقب الاستقلال ولد الحزب الشيوعي ميلاداً رسمياً، وطرح وثيقته "سبيل السودان نحو تعزيز الاستقلال والديمقراطية والسلم" وقفز من صيغة الجبهة المعادية للاستعمار لأعلى صيغة جذرية مطروحة في العالم: تشكيل الحزب الشيوعي.
ويعني قرار تشكيل الحزب بأن يقوم حزب شيوعي في السودان بعد الاستقلال مباشرة أنّ الطبقة العاملة السودانية هي التي ستقود البلاد لتحقيق أهداف مرحلة ما بعد الاستقلال، في وقتٍ لم تكن فيه الطبقة العاملة السودانية مؤهلة للقيام بهذا الدور التاريخي، ويغلب على حزبها عليه الانتماء الطبقي البرجوازي (3) ومن هنا وُلد الحزب بمشكلاته البنيوية وتناقضاته.
أيديولوجيا الحزب وبنيته
من الناحية الأيديولوجية يقوم الحزب الشيوعي السوداني على النظرية الماركسية اللينينية التي استرشد بها منذ تأسيسه وظلت معه في أغلب تطوراته، على اعتبار أنّ هذه النظرية قد أثبتت أنّها علم الثورة الاجتماعية، وأنّها سلاح بتار في يد الشعوب لتنهض بحركتها الجبارة ولتزيل من مسرح التاريخ النظام الرأسمالي.

يتأرجح الحزب بين مستقبل واعد رهن انفتاحه على التجارب السياسية المعاصرة وبين أفول تاريخي مستحق إذا تمسك بنهجه القديم

ويبني الحزب نظرته الأممية على تصور مفاده أنّ الاستعمار سيعرقل حركة التغيير الاجتماعي للشعوب، وأنّ القوى الرجعية تستمد سندها منه، وبالتالي فرص انتصارات الشعوب تتسع كلما قويت حركتها ضده، وبالتالي لابد من المساهمة في إضعاف هذا العدو المشترك.
كما يؤكد هذا التصور على أنّ نضال الطبقة العاملة في البلدان المختلفة يصب في سبيل اجتثاث جرثومة الاستعمار والاستغلال من حياة البشرية، وانطلاقاً من هذا يؤمن الحزب الشيوعي السوداني بواجب المؤازرة الأممية لكل الشعوب المناضلة ضد الاستعمار، مؤازرة مبنية على مصلحة النضال المشترك الذي يجمع فصائل الحركة الشيوعية من أجل الهدف المشترك.
محطات في مسيرته

رفض الحزب الشيوعي انقلاب إبراهيم عبود ووصفه بالرجعي

1- انقلاب إبراهيم عبود 1958
كان أول انقلاب عسكري يقع في السودان، عُرف بانقلاب كبار الضباط، وتمت مباركته من زعيمي الطائفتين (الأنصار/الختمية) ورفضه الحزب الشيوعي بعد اجتماع مكتبه السياسي؛ حيث قرر أن انقلاب عبود "رجعي" وأن الواجب مقاومته وذلك عن طريق جبهة من القوى الوطنية الديمقراطية داخل الجيش وخارجه.

ساهم الحزب الشيوعي بقوة في ثورة أكتوبر وشارك في حكومتها

2- ثورة أكتوبر 1964
تعتبر ثورة أكتوبر أول ثورة شعبية ضد نظام وطني/محلي في إفريقيا والعالم العربي، وانطلقت الثورة من جامعة الخرطوم بعد مقتل الطالب بالجامعة أحمد القرشي، وكان تشييعه بمثابة شرارة الثورة، وانضم المهنيون إلى الطلبة وأسسوا "جبهة الهيئات" وأسست الأحزاب الطائفية في المقابل "الجبهة الوطنية" كي توازن قوة المهنيين، وأخيراً جاء تدخل النقابات العمالية ليقلب الطاولة على الأحزاب الطائفية؛ حيث دشّنت النقابات إضراباً عاماً في الخرطوم والمدن الرئيسية الأخرى، مما وضع حداً لاستمرار النظام العسكري، وكان للحزب الشيوعي حظ كبير في حكومة الثورة.
3- حل الحزب  1965 
في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1965 وقف الطالب شوقي محمد مشاركاً في نقاش في ندوة بمعهد المعلمين وأعلن أنّه ماركسي وقال فيه ما اعتبره الحاضرون "إساءة للإسلام"، وفجر حديثه آنذاك مشاعر غاضبة وسط جمهور الطلبة، وأصدرت رابطة الطلاب الشيوعيين بياناً أوضحت فيه أنّ الطالب ليس عضواً في الحزب الشيوعي، إلا أنّ الإسلاميين نسقوا مع الحزبين الكبيرين حملة ضاربة انتهت بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان.

اقرأ أيضاً: حزب البعث السوري: تجربة خمسة عقود من الحكم.. ما أبرز التحولات؟
وكان لهذه الحادثة تبعات جسيمة على الحزب الشيوعي؛ إذ إنّ الإسلاميين لم يتجاوزوا منافسة الشيوعيين إلا بعد تلك الواقعة، التي كانت معلماً في ميزان العلاقة مع الشيوعيين والإسلاميين، وفي النهاية فُرض الخطاب الديني كخطاب سائد على كل المستويات بما فيها الجمعية التأسيسية.

ساهم بعض الضباط الشيوعيين في محاولة انقلابية على النميري فعاقب الحزب بإعدام قياداته التاريخية

4- انقلاب النميري 1969
في 25 أيار (مايو) 1969 قاد العقيد جعفر النميري انقلاباً بمشاركة من الحزب الشيوعي السوداني، وبدأ حكم النميري يسارياً ومن ثم انتقل إلى اليمين وأعلن قوانين الشريعة الإسلامية وتخللت فترة حكمه عدة انقلابات، أهمها انقلاب تموز (يوليو) 1971 الذي قام به بعض الضباط الشيوعيين، ولم يستمر لثلاثة أيام حتى نجح النميري في استعادة حكمه، وتسببت هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة في هدم ما بناه الشيوعيون في عقود.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الكردية: صراعات وأحلام تنتظر التغيرات الدولية
فقد أعدم النميري أكبر القيادات التاريخية للحزب، ومن ضمنها سكرتيره العام عبد الخالق محجوب، ووضع جهاز أمنه جهده في مواجهة أنشطة الشيوعيين، ثم خرج الحزب إلى العلن بعد انتفاضة شعبية لم يحصد عقبها سوى ثلاث دوائر انتخابية.
خصومة أبدية مع الإسلام السياسي
في بدايته انشغل الحزب الشيوعي بالقوى التقليدية الطائفية التي مثّلت، بالنسبة إلى نظريته، الطبقات المستغلة، إلا أنّه بعد حادثة حل الحزب انتبه لخطورة الحركة الإسلامية بحكم الأمر الواقع.
ومن هنا كانت الحركة الشيوعية هي المنافس الأول للحركة الإسلامية السودانية، وظلت العلاقة بين الطرفين على شكل خصومة لا تنقطع وسعي دائب للتدمير المتبادل؛ وعلى الرغم من أنّ الحركة الإسلامية تأثرت بمناهج العمل التنظيمي اليساري، إلا أنّه لم يكن هنالك إمكانية للحوار بين التيارين، بحكم أنّ اهتمام الإخوان المسلمين بالصراع الطبقي كان ضئيلاً، حسب حسن الترابي (3).

ظلت الحركة الإسلامية بقيادة الترابي خصماً تاريخياً للشيوعيين

وظلت المنافسة بين التيار الإسلامي والحزب الشيوعي قائمة في أغلب قطاعات المجتمع، إلا أنّ العلاقة بينهما وصلت إلى درجة كبيرة من التوتر بعد انقلاب الإنقاذ، الذي شرد وفصل واعتقل كثيراً من كوادر الحزب الشيوعي.

راهن الحزب ومصيره
يعاني الحزب الشيوعي السوداني حالياً من أزمة لا تتعلق بالظرف السياسي الراهن، بل أزمة بنيوية لازمته منذ التأسيس؛ فالحزب لم يتمتع بفسحة مستقرة من الوقت لتعميق الماركسية بين صفوفه، بالإضافة إلى الإصرار على الوحدة الفكرية الصارمة، بسبب الخوف من تكرار تجربة الانقسامات التي أصابت الحركة الشيوعية المصرية، وأدى ذلك للتبرم من التيارات الفكرية التي كانت تظهر كل حين بين جنباته وغالباً ما كانت تؤدي لانشقاقات.

اقرأ أيضاً: الأحزاب العربية: خيبات الفرص الضائعة
كما تتعلق الأزمة بطبيعة القاعدة التي أسست الحزب، وهي مختلفة عن الطبقة التي راهن الحزب عليها كأداة للتغيير (الطبقة العاملة)، فتأسس الحزب على يد البرجوازية الصغيرة (المهنيين) وانحصر عمله بين العمال على الذين قبلوا بالأفكار الماركسية وهم مجموعة نابغة وقليلة من العمال وهم قلة.
كما أنّ تبني الحزب للماركسية اللينينية جعلت منه وعاء أضيق من أن يستوعب اليسار السوداني العريض، كما يرى رموز اليسار، وتمتد الأزمة البنيوية إلى شكل التنظيم، فالمركزية الديمقراطية ساهمت في انتشار ثقافة الضيق باختلاف الرأي، فهي لا تعني سوى السماح لقواعد الحزب بما ينزل عليهم من قرارات وإجراءات من فوق.
وعمَّق من الأزمة أنّ الحزب استنزف أغلب طاقته في مقاومة الأنظمة الشمولية، ويظهر بوضوح إسهامه في الثورة الحالية، فعلى الرغم من أنّ أجهزة النظام الأمنية شنت حملة اعتقالات واسعة في صفوف كوادره، وحاولت أجهزة الإعلام الرسمية شيطنته إلا أنّ الحزب مضى حتى أسقط النظام.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الدينية المصرية بعد ثورة يناير: متى تتجاوز مربع الشعارات؟
ومع ذلك، فهذا الجهد المبذول في المقاومة لم يقابله أدنى جهد في تطوير رؤية الحزب وتجديد أفكاره، فأساسيات برنامجه لم تتغير رغم التحولات التي شهدها الاجتماع السوداني؛ فالطرح الضعيف لقياداته تعكس ضبابية واضحة في الخطاب السياسي للحزب، وعدم وضوح البديل الاقتصادي الذي يقدمه.
وحتى يخرج الحزب الشيوعي من أزمته لابد من جعل أفكاره أكثر وضوحاً وأكثر ارتباطاً بالواقع؛ فالأفكار والمفاهيم دائماً بنت تاريخها، والحزب يقترب من تحقيق هدفه بقدر وضوح رؤيته حول طبيعة الصراع والقوى التي تمثل أطرافه؛ لذا يجب أن تكون عملية تطوير الحزب شاملة لا تستثني حتى لائحة الحزب ودستوره، إذا أخذنا في الاعتبار علاقة اللائحة بمناهج عمل الحزب وتحديدها لشروط العضوية وتحديد كيفية الترشح، فما يسود الآن هو تقيد الترشيح بما تقدمه اللجنة المركزية من أسماء ليتم انتخابها، وهذا عملياً يعني اختيار مرشحين قريبين فكرياً وسياسياً من رؤية اللجنة المركزية، وبالتالي حظوظ أقل للتيارات الفكرية الأخرى، وهو ما سبب حالة إحباط لدى الكوادر الأكثر استقلالية وأدى لخروج كثير من أصحاب الرؤى والأفكار التي تختلف عن رؤى اللجنة المركزية.

اقرأ أيضاً: كيف تحول حزب البعث في العراق من الأيديولوجيا إلى العائلة؟
ويحتم ذلك على الحزب الانفتاح على تجارب التنظيم والإدارة المختلفة، فالمركزية الديمقراطية ظلت صخرة عتية تقاوم أنهار التجديد، وأثرت على الحياة الداخلية بداخله؛ فتحويل الحزب إلى قوى اجتماعية كبرى يتطلب تصحيح وضعه المقلوب.
ويحتاج الحزب إلى الانفتاح في اختيار حلفائه، وأن يضم مشروع التغير، الذي يتبناه، قوى اجتماعية جديدة، وخلق علاقة جديدة وواضحة المعالم بين الحزب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، فتجربة "الفراكشن" تثير مخاوف القيادات النقابية، رغم تبرير الحزب بأنّها لتحسين أداء الزملاء في منظمات المجتمع المدني.
وأخيرا يمكن القول: إنّ الحزب الشيوعي يمتلك مستقبلاً واعداً إذا ما قام باستيعاب نقدي لقضايا العصر وخصائصه وتياراته ومعارفه بما يمكنه من تفسير واقعه بطريقة أكثر تركيباً تناسب واقعه السوداني.


هوامش:

1- كتاب السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل (جدلية التركيب) محمد أبو القاسم حاج حمد، المجلد الأول ط٢
2- كتاب الفكر السوداني، أصوله وتطوره ،ط٢ الخرطوم: مطبعة آرو التجارية ١٩٨٩م.
3- الحركة الإسلامية في السودان، التطور والمنهج والكسب، الدكتور حسن عبدالله الترابي ط٢ دار الحكمة للطباعة والنشر المحدودة

الصفحة الرئيسية