ماذا يفعل بنا الموت؟

ماذا يفعل بنا الموت؟

ماذا يفعل بنا الموت؟


28/10/2023

كنّ كسرب غربان، قادمات من مكان بعيد، تكتّلت صرخاتهنّ، ثم قذفت بها الريح حتى اصطدمت بأذنيّ فخَرَقتاهما، ونفذت إلى قلبي فتعالى النبض وتسارع، وارتعش الجسد وجفل.
كانت أقدامهنّ الخشنة، تضرب في أديم الأرض المعجون بمياه الأمطار، حتى اقترب زحفهنّ منّي، فلم تستطع أعقابي أن تنكص خطوة، أمام الضاربات على خدودهنّ ورؤوسهن وجيوبيهنّ، في سيمفونية كربلائية كئيبة، انسجمت وتماهت مع برق السماء ورعدها.
كان المشهد الأول للموت في عمر طفل لم يتجاوز بعد الثلاثة أعوام، كأنّ الغمام فيه طفح على كلّ شيء رآه يومه، فكَرِه من يومها تفاصيل الأشياء التي ترسبت في أعماق الذاكرة.

كال اليهود لنبيهم موسى الاتهامات وأذاقوه الويلات وجرّعوه العلقم وبعدما هلك، قتلوا أنبياءهم ممّن جاؤوا بعده

السرادق، بأقمشته المزركشة، حمرة وسواداً، والكراسي الخيزرانية، والقشّ الذي افترشه الرجال في انتظار خروج النعش والجثمان، وأصوات الميكروفونات الزاعقة المزعجة، والشيخ وزيّه ودكّته التي يجلس عليه.
كانت للموت رائحة يفوح منها الفناء والعذاب والفراق، كأنّه يضرب أجراساً تقطع حبال الودّ والوصل والبقاء، وآذان في الناس مزعجة تعكّر صفو الآمال.
كان الميت شاباً لم يتخطَّ عتبة السادسة عشرة من عمره، سقط صريعاً من فوق سطح منزل، خلدت ذكراه، فلم نعد نسمع عنه إلا طيب القول، وظلّ عالقاً في القلب والوجدان، وربما لو عمّر في الأرض لم يكن كذلك!
للموت عندنا جلال وهيبة ووقار، واعتقاد بالانتقال لدار غير الدار.

اقرأ أيضاً: لماذا وكيف انبهر سيد قطب بالمودودي؟
كان الفراعنة؛ فقراؤهم وأغنياؤهم، يظلّون طيلة حياتهم يجمعون المال، ويقتنون الذهب والفضة، حتى تدفن معهم في قبورهم، وحتى يملكوا ثمن تحنيط جثمانهم، حتى يتهيأوا لاستقبال العالم الآخر، لكنهم وهم يفعلون ذلك، لم يخطر في بالهم أنّه بعد آلالاف السنين، سيأتي من ذريتهم من سيخفت عندهم جلال الموت، فيتجرؤون على نبش قبورهم، ليسرقوا ذهبهم، بل وأجسادهم، معتبرين أنّ ذلك ميراثهم الشرعي، وأنّ "الحيّ أولى من الميت"، وأنّ آلالاف السنين لديها القدرة على إسقاط جلال الموت.
لكنّ الفراعنة الأموات لم يكن يُسمح بأن تُنتهك قبورهم هكذا بسهولة، وأن تُسرق مدّخراتهم دون أن يدفع السارق الثمن باهظاً، فهال التراب على مئات من الحفارين، واختنق مثلهم ممّن حاول أن يفتح التوابيت، وأطلق النابشون النار على أنفسهم، خلافاً وطمعاً، وقضى الآلاف أعواماً عديدة وراء الأسوار والقضبان، ولاحقت اللعنات من أفلت من كلّ هذا، فتمررت في حلقة اللقمة، ولم يشعر للحياة حلاوة.

اقرأ أيضاً: الخلاص المستحيل على صليب الحلاج
لا يلقى الحيّ، ولو كان نبيلاً، مقابل نبله في الحياة، بل يلقى وجعاً وشوكاً، ونقداً ونقضاً، وتخلياً، واستهانة، لكنّ الموت قادر على أن يبدّل حاله وربما مآله.
كال اليهود لنبيهم موسى، عليه السلام، الاتهامات، وأذاقوه الويلات، وجرّعوه العلقم، وبعدما هلك، قتلوا أنبياءهم، ممّن جاؤوا بعده من بني جلدتهم، وتمسّكوا به وبألواحه، ورفضوا غيره، وباتوا شوكة في ظهر الكون كلّه.
ولم يقنع النبي عيسى، عليه السلام، في حياته، إلا حفنة من الأتباع، حتى رآه الناس معذباً مصلوباً، فجعلوه رمزاً للخلاص من الآلام والتمرغ في النعيم، فتجاوز أتباعه المليارات.
وثار على عثمان بن عفان، رضي الله عنه، الآلاف من رعيته، معتقدين أنّه متعدّ وظالم ومحارب لعشيرته، إلا أنّ مشهد موته، قلب كفّة التاريخ رأساً على عقب، وطالب فئة من الناس بثأره وهو الذي بلغ أرذل العمر.
ولم يكن أحدٌ يتصوّر أن يتمرد الناس على ابن عم رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، ويتهمونه بالكفر إذ قَبِل التحكيم، أو أن يحاربه أصحابه في معركة الجمل، أو يشهر أهل الشام السيف في وجهه، بزعامة مَن كان منذ بضعة أعوام "من الطلقاء"، ربما لأنّ عليّاً، رضي الله عنه، كان بشراً حيّاً، ترى فيه العيوب والنقائص، ويسند إليه سبب تشرذم الأمة، ويبقى مثل غيره يحارب ثم يقتل بعد ذلك.

في حضرة الموت خرج الملايين خلف "ناصر" المهزوم أمام الصهيونية والإمبريالية، بطلاً شعبياً خالد الذكر

لكنّه بالموت عاش، وبات حتى بعد مرور 1400 عام، رمزاً وأيقونة لمئات الملايين، من المسلمين السنّة والشيعة.
وكذلك كان ابنه الحسين، رضي الله عنه، نصحه من بقي من الصحابة، بألّا ينازع يزيد بن معاوية الملك، فأبى إلى أن قُتل.
وأذهب الموت عن طاغية مثل الحجاج بن يوسف، بقع الدماء التي لصقت بتلابيب ثيابه، فأعذره البعض فيما فعل، وذكروا له ما قام به من غزوات وفتوح، وإشارته على مولاه بتنقيط القرآن الكريم، وتعريب الدواوين، ورجائه من ربّه العفو قبيل الموت.
الموت يغسل عار الهزيمة والانكسار، فيصبح الزير سالم عميداً للفلكلور، بعد أن هبر بسيفه بطون شباب العرب وفتيانه، عصبية ذاتية بغيضة، كانت تتخفى في أعماقه، وظاهره كان ثأر أخيه "كليب".
وفي حضرة الموت خرج الملايين خلف "ناصر"، المهزوم أمام الصهيونية والإمبريالية، بطلاً شعبياً خالد الذكر.
وبالموت تحوّل خصمه وكارهه، سيد قطب، إلى شعلة نار يهتدي بها ملايين الإسلاميين، وتضرم النيران في منطقتنا، ولم تخبُ حتى يومنا هذا.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية