الإسلام السياسي في تشكلاته وتحولاته.. هل هو سياق تاريخي أم أزمة؟

الإسلام السياسي في تشكلاته وتحولاته.. هل هو سياق تاريخي أم أزمة؟


06/01/2021

هل ينتمي الإسلام السياسي، القائم اليوم، في تمثّلاته وخريطته المتنوعة المتفرعة، إلى التراث الفكري الديني والإصلاحي؟ بمعنى؛ هل يشكل سلسلة امتدادية للجهود والأفكار الإصلاحية التي ظهرت في عالم الإسلام معبرة عن نفسها في علماء ومفكرين وإصلاحيين وقادة سياسيين وجماعات ودول ومؤسسات؟ أم يمثل أزمة في هذا المسار؟ هل هو أزمة الإصلاح ذاته، أم أزمة الدول والمجتمعات، أم أزمة المرحلة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الأمم جميعاً، ومنها العرب والمسلمون؟ هل يشكل ظاهرة يجب التصدي لها وإصلاحها، أم عرضاً لظاهرة أكثر عمقاً وامتداداً؟

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي كأزمة في تاريخ الأفكار

لقد ظلّت المدارس الفكرية والسياسية والإصلاحية والاجتماعية تعمل وتتشكل وتنقرض على مدى التاريخ الإسلامي (والعالمي بالطبع)، ومن المؤكد أنّ التاريخ يشكل مختبراً للأفكار والتجارب والافتراضات ومدخلاً للاستقراء والتقدير المستقبلي، لكن التاريخ لسوء الحظ (وربما لحسن الحظ) لا يقدم نفسه على نحو صريح ومباشر، ولا يمنح المعرفة من مصدر أو خيط واحد، لكنها (المعرفة) تبدو ذات أوجه متعددة ومتداخلة على نحو يصعب فهمه، ويصعب أكثر إدراك الحكمة التي ترشد للمستقبل، وتكاد الحكمة تكون ليست سوى البحث عن الحقيقة، هي الطريق وليست الغاية، أو الغاية ليست سوى نجمة الشمال التي توجه الطرق وترشدها، فإن وصلت توقفت المعرفة وأضعت الحكمة.

يغلب على التاريخ الجانب السياسي فلا يكاد يكون سوى الوقائع والحروب وأخبار القادة والسلاطين والأحداث المتصلة بهم

وفي ذلك فإننا ننظر في التاريخ الاجتماعي بما هو صراع اجتماعي وسياسي فنجد تاريخ الأفكار في عقله الباطن المخفي ليس سوى صراع، رغم أنّ الأفكار تبدو مستقلة عن الصراع، وننظر في التاريخ الاقتصادي بما هو تطور وتفاعل الموارد والتقنيات والأعمال والأسواق؛ فنجد الأفكار تتشكل حول المال وحاجات الناس الأساسية، ثم سعيهم لتحقيقها، ثم وفرتها أو ندرتها، لكننا -ولسوء حظنا- نواجه في التأريخ مأزقين؛ أولهما: أنّه يغلب عليه "السياسي"، لا يكاد يكون سوى الوقائع والحروب وأخبار القادة والسلاطين، والأحداث المتصلة بهم، والآخر: أننا لا نعرف الكثير من التاريخ، ولا نعلم صحة هذا القليل، نبحث عن شيء ضائع أو مفقود ولا نجده، لكنّنا نجد عليه أدلة وإشارات لا تكفي لإثباته، وإن كانت لا تنفيه! ولعلّ في ذلك معارف وفوائد وحكمة؛ ففي غموض التاريخ وأسراره معرفة تفوق ما يصرح به أو يتيحه في الأخبار والحوادث.

اقرأ أيضاً: سعيد النورسي.. الإسلام الاجتماعي في مواجهة الإسلام السياسي
كان الفتية والشباب، في فجر انبعاث دولة العرب وحضارتهم، يتعلمون الكتابة والدين والشعر والرواية، ويمضون في السياسة، مع قبائلهم ومدنهم ونواحيهم، ويحوز بعضهم منزلة في العلم والمعرفة، لكنّه لا يملك منزلة في النسب والسياسة، ويروي ويعلم الناس في المسجد، لكنّه يقف في السياسة، معارضاً أو مؤيداً، ويكون في الحديث والرواية ثقة وصادقاً، لكنّه في الفهم والفقه يسلك في اتجاهات ومناهج يختلف فيها السالكون فيما بعد، بين بدعة وإبداع، هكذا؛ فلا نملك اليقين بأنّ إعدام معبد الجهني وغيلان الدمشقي كان لقولهما العقلاني في القدر (قدريون)، أم لمعارضتهما السياسية؟ وحين ننظر في صراع أهل الأفكار (القدريون والخوارج والشيعة وغيرهم) مع الأمويين، يصعب ردّه إلى خلاف فكري أو ديني، وإن كان الأمويون ينشئون ويشجعون فكراً دينياً يمنح الشرعية الدينية والقبول لسلطانهم.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي ومستقبل الديمقراطية في العالم الإسلامي

معبد الجهني، العالم الثقة، الذي التفّ حوله القرّاء، وحظي باحترام الناس، وثقتهم بمعرفته الدينية؛ أراد مريدوه وجماعات وكتل اجتماعية، ترى نفسها ذات حقّ وشأن، لكنّها لا تجد لها مكاناً، أن يشير ويعبر عن موقف أو جهات، في الأحداث والخلافات الدائرة بين الأمويين والهاشميين، فجاء معبد إلى عمرو بن العاص، قبل أن يلتقي أبا موسى الأشعري لأجل التحكيم في الخلاف، فقال له: "يا عمرو، لقد ولِّيت أمر الأمة فانظر ما أنت صانع"، فقال له عمرو: "أيها تيس جهينة؛ ما أنت وهذا؟ لست من أهل السرّ ولا العلانية، والله ما ينفعك الحقّ ولا يضرك الباطل"، ثم مضى معبد في ثورة ابن الأشعث (ثورة العلماء) على الأمويين في عهد عبدالملك والحجاج، وقبض عليه الحجاج وعذبه عذاباً شديداً، ثم أرسله إلى عبدالملك فصلبه.

إنّ تاريخ الأفكار يمكن الإحاطة به أو الاقتراب منه في عزله لأغراض الدراسة عن محيطه السياسي والاقتصادي

هل نقول إنّ معبد قُتل لرأيه الديني العقلاني في مسألة القدر؟ وهل شارك في قتال الأمويين لـ "ضلالهم الديني"، أم هو صراع اجتماعي نهضت به فئة من العرب وشركائهم في وجه فئة أخرى من العرب وشركائهم؟ فقد كان معبد يرى أنّ قريش استأثرت بالأمر، وكان يقول لمريديه من "القرّاء" وجماعته ومن حوله: "ما رأيت مثل قريش، كأنّ قلوبهم أُقفلت بأقفال الحديد"، وكان يقول: "البلاء كلّ البلاء أن يكون هؤلاء (الأمويون) هم أئمة الناس"! وثورة العلماء التي قادها ابن الأشعث، وقتل فيها العالم التابعي المشهور، سعيد بن جبير، هل كانت خلافاً بين العلماء والأمويين، أم هي خلاف بين المستبعدين يقودهم أشراف كندة (ابن الأشعث) والمستأثرين بالأمر والمال والسلطة؟
وبالطبع؛ فإنّ تاريخ الأفكار يمكن الإحاطة به أو الاقتراب منه في عزله (لأغراض الدراسة) عن محيطه السياسي والاقتصادي، وحين يقدم كتاريخ فكري؛ فإنّ ذلك ليس إنكاراً للمؤثرات والتفاعلات، لكن لا يمكن فهم ظاهرة إلا بعزلها عن محيطها وبيئتها، ويجب الاعتراف أيضاً؛ بأنّه عزل يؤدي إلى نقص وتضليل معرفي (حسن النية)، فالظاهرة لا تكشف عن نفسها في عزلتها، بل يحرمنا ذلك من المعرفة الشاملة، ثم إنّ الظاهرة نفسها، وفق قانون هايزنبرغ (عدم اليقين)، لا تكون أثناء دراستها وملاحظتها كما هي عندما لا تخضع للدراسة والملاحظة، عدا عن كون الظواهر وجدت بوصفها احتمالاً وليس يقيناً، ونحن لا نعرف عنها كلّ شيء، ليس بسبب نقص المعرفة، لكن لأنّها موجودة على نحو تستحيل معرفته تماماً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية