ماذا تبقى من ماركسية طيب تيزيني؟

ماذا تبقى من ماركسية طيب تيزيني؟


03/07/2019

رحل الشهر الماضي المفكر السوري طيب تيزيني، والذي يعد أحد الرموز البارزة في الفكر العربي المعاصر؛ إذ ينتمي تيزيني باتجاهه الفكري إلى أصحاب المدرسة الماركسية في الفكر العربي، تلك المدرسة التي تطبق المنهجية الماركسية على قراءة الذات، وهذا ما يبدو واضحاً في أعمال حسن مروة وطيب تيزيني ومهدي عامل وفيصل دراج وتوفيق سلوم ومحمود أمين العالم وصادق جلال العظم، فقد كانت الماركسية بالنسبة لهؤلاء المفكرين: هي ذلك النظام المنشود الذي يزودهم بمنطق العالم الحديث، وذلك من خلال الاعتقاد بأنّ الماركسية تحقق لهم التناول العلمي لدراسة التراث، وذلك لأن المنهج المادي التاريخي وحده القادر على كشف تلك العلاقة ورؤية التراث في حركيته التاريخية، واستيعاب قيمته النسبية، وتحديد ما لا يزال يحتفظ منها بضرورة بنائه.

اقرأ أيضاً: طيب تيزيني.. شاهد على "موت الإنسان" وسوريا الجريحة

نقد تيزيني للرؤية السلفية 

وقد برع تيزيني في تطبيق المنهج الماركسي على قراءة التراث، فينتقد تيزيني النظرة السلفية للتراث، وذلك لأن السمات العامة للنظرة السلفية على اختلاف اتجاهاتها تعكس في موقفها من التراث بصورة فيها سمات الفكر الغيبي والفكر المثالي، وسمات الطابع القدري، ولذا يبدو المجتمع العربي-الإسلامي في هذه الصورة مجتمعاً قدرياً صرفاً، تغيب عنه الإرادة البشرية، كما تغيب عن الصورة فاعلية القوى الاجتماعية الخلاقة في هذا المجتمع؛ أي القوى المنتجة له حاجاته المادية، بل لا نجد لهذه القوى حضوراً في حركة تاريخه رغم أنّها في الواقع مصدر فعل الصيرورة في حركة التاريخ.

يرى تيزيني ضرورة تناول التراث من زاوية موقعه في مجتمعه وعصره وفي إطاره المكاني والزمني وبيئته القومية

وفي ضوء النظرة التاريخية بدا التراث لدي تيزيني مقولة تمثل لا تستوعب التراث إلا في ضوء (تاريخيته) أي في ضوء حركته ضمن الزمن التاريخي الذي ينتمي إليه، أو بعبارة أكثر دقة، لا تستوعبه إلا من جهة علاقته بالبنية الاجتماعية السابقة التي أنتجته، وبالظروف التاريخية نفسها التي أنتجت بدورها تلك البنية الاجتماعية، مع ما لها من خصائص العصر المعين، والمجتمع المعين، ومن ثم تكون أهمية الرؤية التاريخية للأفكار في مكانها التاريخي، وفي دورها الفعلي عبر حركة التكوّن والانحلال في كل بناء اقتصادي واجتماعي، وفي كل مرحلة من مراحله.

اقرأ أيضاً: طيب تيزيني في ذمة القراءة والنقد

نسبية الفكر الديني عند تيزيني

ويترتب على هذه النظرة التاريخية للتراث: أن يكون لكل خطاب تراثي حدوده الزمنية والبيئية؛ إذ لا يصح أن ننظره إلى شيء من التراث، إلا في ضوء هذه الحدود والشروط، ويجب أن تكون مقولة ( النسبية) هي الحاكمة في قراءة كل خطاب تراثي، وفي تأويله ودراسته، بمعنى أن نأخذ بالحسبان لدى القراءة أو التأويل أو الدراسة التراثية، تلك (النسبية) بين التراث وزمنه وبيئته التاريخيين، خشية أن تقع في شرك النظرة المطلقة والمجردة، التي تعزل  التراث عن (النسبية)؛ أي عن خصوصيات تاريخية وعن علاقاته بواقعه التاريخي.

اقرأ أيضاً: طيّب تيزيني يعانق الأبدية بتاريخ شخصي مشرف وجهود فكرية رائدة

ويرى تيزيني ضرورة تناول التراث من زاوية موقعه في مجتمعه وعصره، وفي إطاره المكاني والزمني في بيئته (القومية)، وهنا ينظر إلى الفلسفة على أنّها زبدة عصرها وخاصته، وتؤخذ من وجهة منحاها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وارتباطها (بالبنية التحتية) وخصوصيتها (القومية) و(الدينية)، وفي إطار هذا التناول يتم التركيز على المنحى الأيديولوجي للمذاهب، وموقعها في الصراع بين المادية والمثالية، ومن هذه الزاوية تسترعي المذاهب والأفكار الانتباه قبل كل شيء، من حيث دورها في ذلك الصراع، ومدى تعبيرها عن خصوصية عصرها وشعبها، وبالتالي فخطأ فاحش أن نبحث عن نمو الفكر في الفكر نفسه بمعزل عن الإمكانات التي خلقتها له الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

اقرأ أيضاً: كيف شخّص ماركس علاج اغتراب الإنسانية؟

ويمثل المنهج الماركسي لدى تيزيني وغيره من الماركسيين في التعامل مع التراث جاذبية خاصة لدى قطاع من المثقفين العرب، وذلك لأن هذا المنهج يدرس حركة الأفكار، مرتكزة على الواقع التاريخي والاجتماعي والاقتصادي التي تخلقت فيه هذه الأفكار، ولا يعزلها عن وعائها التاريخي، ولا شك أنّ المنهج الماركسي قد فجّر الكثير من المشاكل على أصحابه في ظل ثقافة تميل إلى النزوع الغيبي.

ولا يمكن أن تخفي مدى فاعلية المنهجية الماركسية في التعامل مع التراث، ذلك لأنها تغرق التراث في التاريخ، وتكشف عن الصراعات السياسية والاجتماعية، التي كانت وراء تكون هذا التراث، وهي بهذا إنما تضفي الحياة على ذلك الكائن التراثي، وتؤكد على إنسانيته وتاريخيته.

نقائض المنهج عند تيزيني

ثمة عيب بارز في رؤية تيزيني -والماركسيين العرب- وهي إغفالها أنّ التحليل الماركسي الذي يستوحي التاريخ الأوروبي، قد صاغ قواعده بناء على استقصاء شمولي لهذا التاريخ، فماذا نقول عندما يتعلق الأمر بالتاريخ العربي الإسلامي الذي لم يكن وارداً في ذهن ماركس وإنجلز لحظة صياغة الفرضيات والمفاهيم؟ وماذا نقول عن المراحل التاريخية التي لم تكن واردة بصورة عينية، لحظة تأسيس مفاهيم المادية التاريخية؟ ومن هنا نلاحظ أنّ الماركسيين الذين يتشدقون بخصوصية التراث العربي، وقد تناسوا خصوصية النظرية الماركسية نتيجة لارتباطها بالواقع الأوروبي.

من الخطأ البحث عن نمو الفكر بالفكر نفسه بمعزل عن الإمكانات التي خلقتها له الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية

وعلى الرغم من انتقاد تيزيني للموقف البرجوازي من التراث، واتهامه بالنزعة الانتقائية، إلا أنّه وقع في نفس الخطأ حينما قام بالانتقاء من التراث وفقاً للمنهجية الماركسية، فهو يأتي إلى التراث بالمعنى الذي يفهمه، فيطبق عليه فكره ومنهجه، فما وافق الماركسية منه أخذه على أساس أنّه جزء من المحتوى الثوري الديمقراطي في كل عصر، وما وجده مخالفاً لها رفضه، وتبدو العملية مجرد تأصيل للنظرية الماركسية بداخل التراث العربي، ومن ثم فإذا كانت البرجوازية العربية تأخذ من التراث ما يؤكد أيديولوجيتها، فإنّ الموقف الماركسي يتعامل مع التراث في ضوء أهداف الطبقة العاملة، وبالتالي يكون الموقف الماركسي مجرد نقلة من موقف البرجوازية إلى موقف البروليتاريا، أعني من أيديولوجيا إلى أيديولوجيا أخرى.

اقرأ أيضاً: حركة القوميين العرب.. كيف تحوّل التنظيم القومي إلى الماركسيّة؟

إنّ تطبيق تيزيني  لمقولات المادية/ التقدمية، المثالية/ الرجعية، اتسم بتجاوزات وتعميمات كثيرة، ذلك لأن الماركسيين قاموا بإسقاط هذه المقولات على التراث، ومحاولة وضعه داخل تلك القوالب، ولكن لا يعقل أن نقرأ مؤلفات الفارابي وابن سينا فقط من أجل البحث عن ماديتهما، وفي سبيل التمهيد للمادية الجدلية، فالمسألة من الناحية التاريخية أعقد بكثير من هذا، .... وكذلك تحويلهم التاريخ الإسلامي إلى تاريخ صراع بين طبقتين هلاميتين، البرجوازية والبروليتارية، والفلسفة إلى فلسفتين متصارعتين مثالية ومادية، والمنهج إلي تقدمي ومحافظ، جماهيري وبرجوازي.

اقرأ أيضاً: ما الذي يريده المخربون من قبر ماركس؟

إنّ محاولة تيزيني ودعاة الماركسية العربية البحث عن النزعات المادية داخل التراث الإسلامي، هي محاولة تكذبها بنية هذا التراث نفسه، وذلك لأن التراث العربي الإسلامي في أغلبه -إن لم نقل كله- تراث متجه إلى السماء، وليس قائماً على الأرض، وحتى في رؤيته للعالم والطبيعة إنما يكون باعتبارهما أدوات لإدراك العالم السماوي، ومن ثم فهو تراث مثالي في جوهره.

وختاماً يمكن القول إنّ أهم درس خلقه الإرث الفكري للطيب تيزيني في تطبيق المنهج الماركسي على قراءة التراث هو الإقرار بتاريخية هذا التراث عبر ربطه بواقعه التاريخي الذي تخلّق فيه.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية