لماذا تخسر أمريكا "معركة القلوب والعقول" دائماً؟

لماذا تخسر أمريكا "معركة القلوب والعقول" دائماً؟


17/07/2019

استُخدم تعبير "معركة القلوب والعقول" أول مرة للإشارة إلى الإستراتيجية والبرامج التي استخدمتها حكومتا فيتنام الجنوبية والولايات المتحدة لكسب "دعم" الشعب الفيتنامي (الجنوبي) والمساعدة في هزيمة تمرد "الفييت كونغ" المسنود من قبل قوات فيتنام الشمالية (الشيوعية).

اقرأ أيضاً: رغم فشل فرماجو في مكافحة الفساد.. أمريكا تستأنف دعمها للجيش

واستخدم الرئيسُ الأمريكي ليندون جونسون (الذي تعمقت حرب فيتنام خلال رئاسته) عبارة "قلوب وعقول" نحو 28 مرة، وكانت المرة الأولى التي استخدم فيها هذه العبارة ضمن كلمة له في 16 كانون الثاني (يناير) 1964، وكانت آخر مرة في 19 آب (أغسطس) 1968.

كانت الولايات المتحدة تنظم روافد تصب في نهر معركتها الأساسية ومن تلك الروافد كانت الهيئات الثقافية والإعلامية

في 4 أيار (مايو) 1965 قال: "يجب أن نكون مستعدين للقتال في فيتنام، ولكن النصرَ النهائي سيعتمد على كسب قلوب وعقول الناس الذين يعيشون بالفعل هناك. من خلال المساعدة على جلب الأمل لهم والكهرباء ولخدمة قضية الحرية في جميع أنحاء العالم".

لم تخسر أمريكا "معركة القلوب والعقل" تلك وحسب، بل خسرت معركتها العسكرية أيضاً، ولكن السؤال كان لماذا خسرت المعركة "السلمية" قبل العسكرية؟

لنلاحظ أنّ تلك التجربة ستتكرر في حروب كبيرة لاحقة دخلتها الولايات المتحدة: أفغانستان، العراق والحرب على الإرهاب، واستخدمت فيها الاستراتيجية ذاتها، وخسرت في جميعها "معركة القلوب والعقول"، ذلك أنّ السبب سيتكرر وإن تبدّلت الأمكنة والسياسات والظروف والثقافات.

يمكن إرجاع الأسباب في ذلك إلى:

1. كانت الولايات المتحدة تتعاون مع أطراف محلية (فيتنامية، أفغانية وعراقية) "فاسدة" وشبه أمية، وكل رأس مالها هو في صلتها بالمقاول الأمريكي؛ فالعسكري دائم البحث عن نجاح سريع، لذا كانت تقدم له كل معلومة ترضي بحثه هذا؛ حتى لو كانت معلومة غير صحيحة.

2. تسند الوظائف المتعلقة بـ "معركة القلوب والعقول" (الصغيرة جداً) إلى شخصيات أمريكية فاشلة في مهام (كبيرة) كنوع من الترضية.

اقرأ أيضاً: لأول مرة.. أمريكا تنشر طائراتها في قطر على وقع التوتر مع إيران

3. كانت أمريكا تفتقر إلى الدراسات المعقمة عن ثقافة المجتمعات التي تقصد كسب تعاطفها، ولا تبحث فعلياً عن حلول جوهرية تأخذ بعين الاعتبار تلك الجوانب الاجتماعية-الثقافية العميقة، وإن حصل ذلك إنما يكون مرتبطاً بشخصية القائد (مثال ذلك ما حققه لفترة وجيزة الجنرال ديفيد بترايوس قائد القوات الأمريكية في العراق ثم في أفغانستان، فهو متخصص بالبحوث الاجتماعية وكان يستعين بمستشارين على درجة من تقدير المعرفة والعلوم).

4. تكرر الإستراتيجية ذاتها دون مراجعةٍ نقدية جدية، ودون تمحيص أسباب فشلها في تجارب سابقة.

الميدان يكشف الحقائق

في تقرير سري خلال الحرب الأفغانية في العام 2007 جاء بعنوان "كيف تخسر الولايات المتحدة المعركة من أجل القلوب والعقول؟"، كشف عن ردود أفعال القرويين الأفغان غير المتحمسين لمحاولات الجيش الأمريكي بناء جسور الثقة معه "لا أحد يريد أن يفعل أي شيء معنا"، يقول واضع تقرير المهمة بحزن، لكن قادته الأعلى كانوا يكتبون غير ذلك، ويتحدثون عن "نجاحات منقطعة النظير في التعاون مع الشعب الأفغاني" اعتماداً على تجمعات خادعة كان ينظمها متعاقدون محليون يقبضون الكثير من المال مقابلها، بينما التقريرُ "الحقيقي" كان يصف زيارة الجنود الأمريكيين لقرية أفغانية نائية بأنّها أشبه بـ "الوقوع في كمين، فأبواب البيوت ونوافذها أغلقت ولا أحد يقبل الحديث إلينا".

اقرأ أيضاً: في أي سياق جرى تعيين مارك إسبر وزير دفاع أمريكا الجديد؟

وفي العراق كان هناك مثال آخر على فشل معركة قلوب وعقول أخرى؛ فالعراقيون الذين انتظروا نهاية نظام صدام الذي أذلّهم خوفاً وجوعاً، صدّقوا وعود الرئيس بوش حين قال "هناك جيش للبناء سيسير إلى جانب الجيش المسلح وسيعوض العراقيين كل ما فاتهم من فرص تطور يستحقونها".

في الحقيقة كان هناك شيء من "جيش البناء" ذاك، لكنّ القادة العسكريين والسياسيين لاحقاً أوكلوا مهمامه إلى مستشاريهم من العراقيين والعرب الأمريكيين الذين تعاقدوا وبأجور خيالية معفية من الضرائب مع الجيش الأمريكي قبل الغزو وبعده، وبرعوا في صفقات فاسدة نهبت من خلالها الأموال العراقية والأمريكية على حد سواء، كما خلص موظفٌ كبير عيّنه الرئيس بوش هو مفتش حملة الإعمار الأمريكي ستيوارت بوين.

وحتى الجهود الأمريكية التي أنعشتها قيادة الجنرال بترايوس لإعادة بناء البنى التحتية في العراق (كجزء من معركة كسب القلوب والعقول)، تراجعت أمام فساد العقود الأمريكية والعراقية وعلى نحو واسع، ناهيك عن اعتماد الكذب الواسع والمنظم الذي مارسته الهيئاتُ الأمريكية في العراق عن "قدرة الحكومة العراقية (حكومتي المالكي 2006- 2104) وصلابة عودها أمنياً واقتصادياً".

روافد جافة!

كانت الولايات المتحدة تنظم روافدَ تصب في نهر معركتها الأساسية، ومن تلك الروافد كانت الهيئات الثقافية والإعلامية. ولو أخذنا العراق كمثال لعرفنا كيف كانت تلك الروافد جافةً عاجزة عن أي خدمة حقيقية رغم المال الكبير الذي أنفق عليها، ذلك أنّها كانت تعتمد شخصيات أمريكية وعراقية فاشلة، أمية وفاسدة أيضاً. وآخر التجارب الفاشلة، تمثلت في اختيار الدبلوماسي الأمريكي السابق (طرد من الخارجية أيام إدارة أوباما) ألبرتو فرنانديز من قبل عتاة اليمين المسيحي المقرب من إدارة ترامب ليكون رئيساً لشركة "بث الشرق الأوسط" الممولة من المال العام الأمريكي.

اقرأ أيضاً: أمريكا تكشف عن توجهات تتعلق بالمستوطنات الإسرائيلية.. هل تعرفها؟

وعلى الرغم من كون فرنانديز يتحدث العربية ويفترض معرفته بثقافة المنطقة التي تتوجه إليها مؤسسته وصولاً إلى كسب تفهم شعوبها، إلا أنه اختار الولاء العقائدي لليمين المسيحي المتشدد الذي أوصله للموقع الجديد على حساب الجانب المهني الساعي لإنجاح "معركة القلوب والعقول"؛ ففي الشهر الأول لوجوده وافق على نشر مقالٍ في موقع "الحرة" بعنوان "تحية مستحقة للصهيونية" مع أنّه يعرف جيداً تعارض ذلك مع ثقافة شعوب المنطقة، وهو عملٌ لا يقبله أي منطق يتوافق مع فكرة كسب تعاطف العرب والمسلمين وتقريب وجهات نظرهم مع السياسة والمواقف الأمريكية.

تسند الوظائف المتعلقة بمعركة القلوب والعقول إلى شخصيات أمريكية فاشلة في مهام كبيرة كنوع من الترضية

كتب فرنانديز مبكراً عنواناً عريضاً لفشل جديد في "معركة القلوب والعقول"، مثلما أكّد كلّ التجارب الفاشلة السابقة في الاعتماد على شخصيات جاهلة وفاسدة، فهو اختار مديرةً لحملة صحافية واسعة ضمن المؤسسة لم تعمل في الصحافة يوماً واحداً، على الرغم من أنّ صحافيين أكفاء تقدموا للوظيفة ذاتها وفشلوا بحسب لجنة اختبار أُسقط بين يديها حين وجدت أن الرئيس فرنانديز يريد المنصبَ للمرشحة إيّاها، حتى وإن كان ما وافقوا عليه ضد قانون العمل الأمريكي ويمكن أن يعرّضهم للمساءلة القانونية، لكنهم اختاروا الخديعةَ تجنباً لغضب الرئيس الموتور بـ"حماس مستحق للصهيونية" أفقده كل بصيرة، وهو ما تمثل بإقصاء عشرات الصحافيين حتى ممن كانوا شاركوا في تأسيس القناة ونشرها كعلامةٍ ثقافية أمريكية ضمن المدار العربي، كما جعله يغلق عينيه أمام مؤشرات التراجع المتواصلة في مستويات المشاهدة والمتابعة للقناة وبرامجها المكرسة لخطاب يعتمد جناجين: نقد الإسلام والسخرية من ثقافات شعوب المنطقة كما يفعل "قرقوزان" لم يعرف لهما أي علاقة بالإعلام العربي ضمن برنامج يحمل اسميهما "سام وعمّار"، فضلاً عن الترويج للسياسة الإسرائيلية بما يفوق خطاب وسائل الإعلام في تل أبيب ذاتها.  

اقرأ أيضاً: فصائل عراقية توجه رسائل تهديد لأمريكا

لنلاحظ كم تشابهت الأسباب المؤدية إلى فشل "معركة القلوب والعقول" من فيتنام وصولاً إلى العراق وموقعة اليميني المتشدد فرنانديز والحرب على الإرهاب، ففي الميدان الأخير، وعلى الرغم من أهميته القصوى في تفكيك خطاب الإرهاب والعنف وجذورهما، هناك حملاتٌ أمريكية متشابهة لكن تقوم بها هيئات مختلفة حتى وإن كانت لخدمة قضية واحدة، فثمة حملةٌ مسؤولة عنها قناة الحرة ذاتها ضن موقع "إرفع صوتك"، وأخرى تتولاها وزارةُ الخارجية، وأخرى مسؤولة عنها وزارةُ الدفاع ضمن "التحالف الدولي للحرب على داعش" ورابعة مشتركة مع دولة عربية أو أكثر. كلها فيها إنفاقٌ ضخم من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين فيما الحصيلة تكاد تكون صفراً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية