هل ظل قلب محمد منير مأهولاً بالمساكن الشعبية؟

هل ظل قلب محمد منير مأهولاً بالمساكن الشعبية؟


18/07/2019

في بلاد النوبة قديماً، عُبد آمون، إلهاً للشمس والريح والخصوبة، فامتلك القدرة على التجدد وإعادة خلق نفسه، واستطاع التحول لأفعى وطرح جلده، ثم تجلى للخلق، بينما ظلّ، في الوقت نفسه، منفصلاً ومستقلاً عنه، وعندما اتّحد مع رع، استطاع الجمع بين النقيضين "التجلّي والخفاء"، وإعادة تشكيل نفسه من جديد.

اقرأ أيضاً: الشيخ إمام يتحدى التجاهل الرسمي ويشدو بأغنيات خلدها الوجدان الشعبي

هكذا كان محمد منير، ابن النوبة ورمزها الأوحد منذ عدة عقود، فرغم أنه هُمِّشت فيها تلك المملكة الأم، منبت الإمبراطورية المصرية؛ لكنّ مشواره الحافل استطاع التجلي والخفاء، في أن يكون فنان الشعب تارة، وفنان النخبة تارة أخرى.

أول الألبومات الغنائية لمحمد منير"علموني عنيكِ"

في أعقاب ثورة تموز (يوليو) 1952، عاش المصريون لأعوام تحت مظلة الصوت الواحد والمطرب الواحد، مجتمعين حول حفلات قطبي الغناء العربي؛ أم كلثوم، وعبد الحليم، حتى وفاتهما في توقيت متقارب، ترجّلت أم كلثوم عام 1975، ثم عبد الحليم حافظ 1977، مسدلَين الستار على باب من أبواب تاريخ الفنّ المصري المرتبط بالنظام السياسي، ليُعلَن ميلاد فصل جديد من التاريخ الفني لمصر، في سياقه الاجتماعي، بانطلاق أول الألبومات الغنائية لمحمد منير"علموني عنيكِ"، في توقيت وفاة عبد الحليم نفسه، الذي لم يشبهه منير في شيء، سوى أنّه عبّر عن مرحلة جديدة في تاريخ المجتمع المصري، بدأت بنكسة حزيران (يونيو) 1967، ثم وفاة عبد الناصر، فانفتاح السادات 1974، ليظهر منير متشحاً بثوب مختلف عن أسلافه في الغناء؛ إذ كان نجم الشباب وقتها، هاني شاكر، والذي اتخذ من الغناء الرومانسي باباً لقلوب الجماهير، التي لم تلتفت إلى منير في أول ألبوماته؛ حيث لم يلقَ أيّ نجاح شعبيّ يذكر، فالجماهير المستفيقة لتوها من وفيات متلاحقة لرموز حركة وطنية وفنية، سيطرت على وجدانها، لم يكن بمقدورها الالتفات لأغنيات مثل: "إيه يا بلاد يا غريبة، عدوة ولا حبيبة".

كان المسيطر على هذا اللون الغنائي وقتها، الفنان الراحل محمد حمام، كفارس للأغنية الوطنية، التي ما تزال تتربّع على قلوب الجماهير، والحقيقة أنّه، وبحسب حلقات تلفزيونية بعنوان "الموهوبون في الأرض"، تحدّث فيها الكاتب الصحفي المصري، بلال فضل، عن محمد منير، بحكم الصداقة التي جمعتهما منذ تسعينيات القرن الماضي، وشاهد عيان على فترة صعوده جماهيرياً، أوضح فيها أنّ "منير، بذكاء فطري، استطاع تطوير الموسيقى المصرية بشكل غير مسبوق في عصره، وبتوأمته مع الرباعي: هاني شنودة، ويحيى خليل في الموسيقى والألحان، وعبد الرحمن الأبنودي، وعبد الرحيم منصور في الشعر وكلمات الأغاني، استطاع منير أن يحلق عالياً، رغم ما تعرض له من تهميش في بداية مسيرته؛ ففي لقاء له مع الإعلامي عمرو الليثي، أوضح منير أنّ مسألة لون بشرته وشعره مثّلا حاجزاً كبيراً مع الجمهور، ما ولّد لديه شعوراً بالاغتراب، رغم غنائه لأهل بلده. وفي لقاء آخر، أجراه الفنان المصري محمد الحلو، في برنامج "معكم منى الشاذلي"، على الفضائية المصرية "CBC"؛ يحكي قصة مشاجرة دارت بينه وبين منير في التسعينيات من القرن الماضي، حين أجرى لقاءً على التلفزيون المصري، قائلاً: "أنا وعلي الحجار ومدحت صالح وهاني شاكر فقط من نحمل لواء الطرب العربي الأصيل، ليفاجأ الحلو بمكالمة من منير غاضباً وشاتماً: "أنتم الأربعة... الخلفاء الراشدون! طب اعتبرني بلال يا أخي"، وهي كلمات عكست شعور منير بالضجر والاغتراب الناتج عن اختلاف لون بشرته وهيئة شعره، كونه تشبّه ببلال، رضي الله عنه، مؤذّن الرسول، عليه السلام، أسود البشرة.

 الفنان المصري محمد الحلو

أفق أكثر اتساعاً للغناء

منذ انطلاقة منير، التي حاد فيها عن أغنيات الشوق والحب واللوعة والهجر، رفض منير الانصياع لمتطلبات السوق، وهو ما دفع شباب الثمانينيات إلى تسميته بـ "مطرب النخبة"، وأحياناً أخرى "مطرب اليسار"، لكنّ منير كانت له رؤية أخرى أوضحها من خلال استمراره على النهج نفسه؛ كونه جاء من أقصى الجنوب، منبثقاً من معطف محمد حمام، الذي انقلب عليه لاحقاً، جاء منير خارج معايير السوق، فلا هو شاب وسيم مهندم الثياب يستطيع جذب أنظار الجماهير، ولا هو مطرب عاطفي يغني للشباب والمراهقين فيؤجّج مشاعرهم، إنّما تفتحت آفاقه وأدخل وجدان المصريين إلى ألوان أخرى، مزجت بين الفنّ والحياة؛ فالغناء أرحب من أن يتسع للحب فقط، كما استفاض منير في معظم اللقاءات الصحفية التي أجريت معه، في الثمانينيات من القرن الماضي؛ ففي حوار له مع الكاتب الصحفي، حامد العويضي، نشر بجريدة "الأهالي" المصرية، في التاسع من تموز (يوليو) 1986، عبّر منير من خلال الحوار عن امتعاضه من حال الأغنية المصرية، التي سيطر عليها التجار لمجاراة النهم الاستهلاكي وتحقيق أقصى معدلات ربح؛ لذلك فهو يرفض تقديم أغنيات تجعله في مصافّ المشاهير، بل تأسره الكلمة الرافضة، على حدّ تعبيره، وإذ عبّر هذا الحوار بشكل خاص عن السبيل الذي اتخذه منير في الغناء.

 

 

عام 1987؛ قدّم محمد منير مسرحية غنائية بعنوان "الملك هو الملك"، ثبّتت أقدامه في مصاف نجوم الغناء المصري، وحاز بها على لقبه الشعبي "الكينغ"، إلّا أنّ ما قدّمه منير من حالة غنائية اعتبرها البعض أيقونات في الفنّ الثوري، مثّلت جدلية كبيرة بالنسبة إلى مثقفي أجيال الستينيات، وحتى الثمانينيات، الذين أثقلت كواهلهم الأحلام المبددة منذ زمن الناصرية، وحتى انتفاضة الخبز 1977، التي كانت بمثابة تصفية للقضية الاجتماعية في مصر، فجمهور منير أغلبه من الطبقات الوسطى صاحبة القضية الوطنية الأكثر حضوراً على الساحة، بدءاً من العدالة الاجتماعية وحتى تحرير فلسطين من وطأة احتلال غاشم، عقد المصريون معه اتفاقية سلام كانت نكسة نفسية أخرى تضاف إلى همومهم، وبحسب ما يرى الكاتب والباحث أيمن عبد المعطي، في مقال له؛ فإنّ "ما قدمه منير لم يكن فناً ثورياً، وإنّما حبّ تقدّمي واقع تحت سيطرة الشجن المنبثقة من الأوجاع الاجتماعية التي يعاني منها المصريون".

ولكن تغيّر الأوضاع السياسية، اعتبر بعض الناس أنّ منير أصابه شيء من التعالي على الناس الذين رفعوه عالياً، وأنه يقوم بما يطلقون عليه الانقلاب على أحلامهم التي استشعروا في صوته تجسيداً لها، ووجهت له انتقادات بأنّه بات في حالة تقارب مع السلطة، وهو ما يستدل عليه من حالة الجدل الواضحة التي تلاحق منير من جماهيره، ونقد البعض له بصفته لم يعد يمثل حلم جماهير يناير، التي لم يصرح مباشرة بموقفه ضدّها، ولكن واحدة من الأغاني الأكثر ثورية التي قدمّها منير في مسيرته، وكانت أغنية "حدوتة مصرية"، والتي غنّاها في فيلم ليوسف شاهين حمل الاسم نفسه، وتغنّت بها جموع الثوار في ميدان التحرير، ظهرت في مدلوله المكانة التي يجسدها منير في نفوس أبناء الطبقات الوسطى، من تعبير أغنياته عن أوجاعهم حتى في أحلك اللحظات احتداماً بين السلطة والشعب.

"علّي صوتك بالغنا"

عام 1997، قدّم المخرج المصري الراحل، يوسف شاهين، فيلمه "المصير"، المستوحى من حياة الفيلسوف الأندلسي الأشهر، ابن رشد، وحلّ محمد منير بطلاً لتلك الملحمة التاريخية، التي رُشحَ بفضلها شاهين للسعفة الذهبية بمهرجان "كان" السينمائي الدوليّ، وتمّ تكريمه عن مجمل أعماله في خمسينية "كان" السينمائي الدوليّ، هنا صدحت المحطات التلفزيونية المصرية، ليلاً نهاراً، بأغنية منير الأشهر في تلك المرحلة: "علّي صوتك بالغنا..لسا الأغاني ممكنة"، كانت تلك الأغنية بمثابة ميلاد جديد لمنير، الذي خرج من قالبه التراثي في تقديم أغنيات وضعته في قالب "مطرب النوبة"، وهو قالب يرفضه منير بالطبع؛ لأنّه يعزز الإقليمية التي لطالما كرهها، واشتكى منها في العديد من حواراته الصحفية التي أجراها في مستهل حياته الفنيّة، وفي حوار أجرته جريدة "أخبار اليوم"، في كانون الثاني (يناير) 2019، مع الشاعرة المصرية، كوثر مصطفى، أحد أشهر شركاء منير، ومؤلفة أغنية "علّي صوتك"، التي خطّت بها مسيرة مختلفة لمنير، فقد شاركته كوثر لفترة امتدت 25 عاماً، قالت: "منير لا يعرف الصدفة، فكلّ كلمة يغنيها كان يقصدها ويقصد معانيها بالكامل، مثل أغنية "إزاي" التي لاقت رفضاً لعرضها في وقت الثورة، ولكنها ظهرت لجمهور منير، ولاقت إعجاباً جماهيرياً كبيراً".

فيديو قناة العربية.. الثورة هدية الحالمين:

 

 

وبحسب كلمات الشاعرة؛ فإنّه إذا كان منير لا يعرف الصدفة، فإنّ أغنياته تعبّر عنه بشكل أو بآخر، فهو لم يكن مع الناس اعتباطاً ولم ينقلب عليهم سهواً، وأكّد على الصفة نفسها في منير، الموسيقار هاني شنودة، في حديثه عن محمد منير لـ "حفريات"، قائلاً: "عرفت منير منذ بداية مشواره، ورغم موهبته الفذّة، إلّا أنّه كثيراً ما كان يتردّد قبل أدائه لأيّ لحن أو أغنية، وكلّ تفاصيل العمل يحب أن يدقّق فيها، ليخرج على أكمل وجه، فهو فنان متطلّع للكمال، كما يحبّ أن يندمج مع الحالة الشعبية السائدة بين أجيال الشباب، فمنير مرِن فنياً لأقصى درجة، ويحبّ أن يجتث نبض الشارع ليقدم ما يلائم مزاجه"، ربما التناقضات التي اجترّ لها منير قبيل ثورة يناير، وفي أعقابها، حتى إزاحة الإخوان عن حكم مصر، جسدت حالة من الجدل المماثل ضدّه من الجماهير المحبة؛ فقبيل ثورة يناير أدّى محمد منير وصلة غنائية في احتفالية القوات الجوية المصرية، في ذكرى تحرير سيناء، أمام الرئيس المخلوع، حسني مبارك، والمشير طنطاوي، وتصافح مع مبارك بحرارة في أعقاب الحفل، كما تناقل نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي فيديو في لقاء له على قناة "دريم" المصرية، يصف مبارك فيها بـ "الأب الحكيم لكلّ المصريين"، وهو ما لا يتوافق مع تصريحات منير لقناة "العربية"، بعد مرور بضعة أشهر فقط من اندلاع ثورة يناير، وانضمامه لصفوف شباب يناير، واصفاً الثورة بالحلم المتراكم على مدار عقود، من الفساد والديكتاتورية.

 

هل اختلف مشروع منير فعلاً؟

 

أصبح منير في الآونة الأخيرة مثار جدل كبير بين صفوف الشعب المصري، وهذا إن دّل على شيء فهو دلالة على منزلة عالية تمتع بها الفنان بين جماهيره لعدة عقود، واستشعار بعض الجماهير بالخذلان من فنانهم الأوحد، حتى إنّ ثوّار ميدان التحرير لم يجدوا سوى منير للتغني بأغنياته، إلى جانب تراث مشايخ الفنّ الثوري؛ محمد حمام، والشيخ إمام عيسى، بعد تخاذل نجوم الشباب، على رأسهم تامر حسني، الذي طرد من الميدان شرّ طردة، وبدأ نجمه في الخفوت بعدما سيطر لأعوام على ساحة الأغنية الشبابية، فها هو منير الفنان الوحيد الذي ما يزال حيّاً، يغني للثورة ويؤيد أحلام الثائرين، إلّا أنّ أغنية "متحيز"؛ عام 2014، اعتبرها البعض خروجا على مسيرة الفنان منير ومساره، متناسياً تاريخه الطويل من التغني بالآم المصريين وأوجاعهم، كما فعل في أغنية حدوتة مصرية:

مين العاقل فينا مين المجنون

مين يلي مدبوح من الألم

مين يلي ظالم فينا مين مظلوم

مين يلي ما يعرفش غير كلمة نعم

مين يلي محميلك خضار الفلاحين غلابة

مين يلي محميلك عمار عمالك الطيابة

مين يلي ببيع الضمير مين يشتري مين يشتري بيه الدمار

مين هو صاحب المسألة والمشكلة والحكاية والقلم

اقرأ أيضاً: مشايخ في سماء الطرب والموسيقى

يبقى لمنير في وجدان الشعب المصري تاريخه الفني الطويل، الذي امتد لأربعة عقود، قدّم فيها ما يزيد عن 450 أغنية، إلى جانب 17 فيلماً، بين ممثل ومؤدٍّ لأغنيات بعض الأفلام، إضافة إلى 17 مسلسلاً تلفزيونيّاً، وثلاث مسرحيات، كانت علامات فارقة في الإرث الفني لمصر الحديثة، وعكست التناقضات والتحولات الاجتماعية، وعبّرت عن الجماهير في أوقات كثيرة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية